هل ينزل نتنياهو عن شجرة التصعيد بعد رحلة واشنطن؟

مع تراجع لغة التهديد والوعيد الأمريكية و"الإسرائيلية" للبنان في الآونة الأخيرة، فإن قراءة متأنية لزيارة رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو إلى واشنطن قبل نهاية السنة، تُظهر تأرجحًا بين احتمالين: إمّا حصوله على ضوء أخضر لتوسيع عدوانه على لبنان، أو الاكتفاء بما حقّقه على مدى سنتين من الحرب والتوجه إلى استثمار وحماية "إنجازاته". ولاستشراف أيّ من الاحتمالين هو الأكثر ترجيحًا لا بد من قراءة الصورة الإقليمية والدولية.

لقد سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال السنة الأولى من ولايته إلى تقديم نفسه كصانع للسلام في العالم من خلال تدخّله لوقف الحروب في العديد من بؤر التوتر، فهو أوقف ـ باتصالين هاتفيين فقط مع قادة الهند وباكستان ـ الحرب التي اندلعت بينهما فجأة، وأيضًا باتصال هاتفي واحد مع نتنياهو أوقف غارة جوية كان يعتزم الطيران الحربي “الإسرائيلي” شنّها على طهران بعد اتفاق وقف إطلاق النار إثر العدوان “الإسرائيلي” على إيران في يونيو/حزيران الماضي، وأعاد الطائرات من فوق العاصمة الإيرانية بكامل حمولتها من القذائف إلى قواعدها في فلسطين المحتلة. وكثّف ترامب، عبر مبعوثيه، حركة اتصالاته لوقف الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن تدخّله لوقف تدهور الأوضاع العسكرية بين رواندا والكونغو.

إن هذا المنحى الذي يعتمده ترامب لا ينبع من فراغ، فسياسة الحروب العسكرية والاقتصادية المتنقلة التي انخرطت فيها واشنطن في شتى أنحاء العالم، وإن كانت قد جلبت مكاسب واسعة لشركات التصنيع العسكري الأمريكي ووضعتها في مقدمة صفوف المتكسبين من الحروب، غير أنها، إلى جانب قرارات شعبوية داخلية والحرب الاقتصادية التي شنّها ترامب على كل دول العالم عبر رفع الضرائب، تركت آثارًا سلبية كبيرة على الاقتصاد الأمريكي. فقد أظهرت البيانات الرسمية ضعف سوق العمل في الولايات المتحدة وتباطؤ التضخم بسبب مواصلة الاحتياطي الفدرالي خفض أسعار الفائدة والمتوقّع أن يتواصل في العام 2026. وقد انعكس ذلك ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار كل المعادن النفيسة، إذ سجّل سعر أونصة الذهب أعلى رقم له في تاريخه متجاوزًا 4500 دولار، والأمر نفسه يسري على أسعار الفضة والبلاتين حيث ارتفعت أونصة الفضة إلى 72 دولارًا وأونصة البلاتين إلى 2342 دولارًا. إن الصورة الفعلية لهذا المشهد ليست ارتفاع أسعار هذه المعادن، بل واقعيًا هي انخفاض قيمة الدولار بسبب الضعف الذي يعانيه الاقتصاد الأمريكي.

من غير المرتقب أن تكون زيارة نتنياهو إلى واشنطن على قدر الآمال التي يعقدها هو عليها، وسيكون عليه أن ينزل عن شجرة التهديد والوعيد التي تسلّقها على مدى الشهرين المنصرمين، بعد أن باتت فرصه في التملص من الوصاية الأمريكية ضعيفة جدًا

في المقلب الآخر، فإن فترة السماح التي أعطتها الإدارة الأمريكية، السابقة والحالية، لـ”إسرائيل” للقضاء على المقاومة في كل من فلسطين ولبنان قد تجاوزت العامين من دون أن يتحقق هذا الهدف، بالرغم من الضربات الشديدة التي تعرضت لها المقاومة. وشهد الرأي العام العالمي تحولًا كبيرًا في رؤيته لـ”إسرائيل” من “الدولة الضحية” المحاطة بالأعداء والتهديد إلى الدولة المجرمة التي ترتكب إبادة جماعية والمُهدّدة بمحاكمة قياداتها في المحاكم الدولية كمجرمي حرب. أمّا الوضع الداخلي “الإسرائيلي”، الذي تقوده حكومة فاشية صهيونية هي الأكثر يمينية في تاريخ هذا الكيان، فقد وجد نفسه أمام معضلة جدية، هي أنّ مشروع السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وإقامة “إسرائيل الكبرى” ما هو إلا حلم لا يمكن تحقيقه. وأن خريطة “إسرائيل الكبرى” التي رفعها نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة وتضم أراضٍ في كل من لبنان وسوريا والعراق ومصر والسعودية لن تحظى بتأييد أحد في العالم، وبالأخص بتأييد واشنطن، حيث يرفض ترامب ضم “إسرائيل” للضفة الغربية وقالها صراحة لنتنياهو عبر وسائل الإعلام.

لم يكتفِ ترامب بإعلانه هذا، بل وضع “إسرائيل” تحت وصايته المباشرة في كل الأمور، وبالأخص العسكرية منها. فقد باتت غرفة العمليات العسكرية “الإسرائيلية” في غلاف قطاع غزة تحت سيطرة ضباط أمريكيين، شأنها في ذلك شأن غرفة العمليات العسكرية في مدينة صفد التي تشرف على الحرب على لبنان، بالإضافة إلى وجود ضباط أمريكيين في غرفة الحرب المركزية في تل أبيب. في مقابل ذلك، ومنذ وقف إطلاق النار في غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يكاد لا يمر يوم واحد من دون وجود مبعوث أمريكي في “إسرائيل”.

أمام هذا المشهد، يتوجه نتنياهو إلى واشنطن وهو مقيّد اليدين، ميدانيًا وسياسيًا، بالإضافة إلى أن النظام القضائي “الإسرائيلي” لا يزال يمتنع عن إعطائه عفوًا كان ترامب قد طلبه لوقف محاكمته في اتهامات بالفساد والرشوة وإساءة استخدام السلطة. وإذا كان نتنياهو لا يرى مخرجًا له من هذه المآزق سوى الهروب إلى الأمام بمواصلة الحرب على لبنان وفلسطين، وحتى على إيران، فإن توجهه هذا لا يتناسب مع التوجه الذي ينحو إليه ترامب في المرحلة الراهنة.

من غير المرجح أن يحصل نتنياهو خلال زيارته لواشنطن على ضوء أخضر لتوسيع نطاق اعتداءاته على لبنان، على الأقل ميدانيًا، بل على العكس، قد يكون مطالبًا بتنفيذ خطوات تراجعية مقابل التنازلات التي قدمتها الحكومة اللبنانية

إن السردية التي كانت تقول إن “إسرائيل” هي من تقود أمريكا سقطت في المشهدية المذكورة أعلاه، وأصبح سقوطها أكثر وضوحًا في لغة الأوامر التي بات يصدرها ترامب لنتنياهو وحكومته والتي أخذ الإعلام “الإسرائيلي” يسلّط الضوء عليها ويصفها بأنها وصاية أمريكية غير مقبولة وتدخل فظّ في الشؤون الداخلية “الإسرائيلية”، لا سيما بعد أن طلب ترامب علنًا من الرئيس “الإسرائيلي” إصدار عفو عن نتنياهو في التهم الموجهة إليه.

إقرأ على موقع 180  حماس، الحزب، "المحور" و"الطوفان" (1 من 2)

إن موضوع وقف الحرب في منطقتنا، لبنان وفلسطين، ليس موضوع حسن نوايا أمريكية بقدر ما هو رؤية واقعية لاستحالة تحقيق الحرب أي إنجاز أبعد مما تحقق. فالشعب الفلسطيني، وعلى مدى قرن من النضال، لم يتخلّ عن حقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه، ومع تغير القوى المقاومة في فلسطين لم يتغير هذا الهدف أبدًا. والشعب اللبناني أيضًا لن يتخلى عن شبر من أرضه بالرغم من الضربات التي تعرضت لها المقاومة.

أمام هذه القراءة، من غير المرجح أن يحصل نتنياهو خلال زيارته لواشنطن على ضوء أخضر لتوسيع نطاق اعتداءاته على لبنان، على الأقل ميدانيًا، بل على العكس، قد يكون مطالبًا بتنفيذ خطوات تراجعية مقابل التنازلات التي قدمتها الحكومة اللبنانية عندما كلّفت السفير السابق سيمون كرم أن يشارك في لجنة الإشراف على وقف الأعمال العدائية المسماة لجنة “الميكانيزم” بناءً على طلب واشنطن. وكانت قد أعلنت في الخامس والسابع من أغسطس/آب الماضي، وأيضًا بناءً على طلب واشنطن، عن تكليفها الجيش اللبناني بوضع خطة تفصيلية لما سمّته حصر السلاح بيد الدولة على كل الأراضي اللبنانية وقيام الجيش بتنفيذ المرحلة الأولى من هذه الخطة في جنوب نهر الليطاني، والتي تضمنت نزع السلاح في كل منطقة جنوب نهر الليطاني..

إن الرؤية الترامبية لاتفاقي وقف إطلاق النار في كل من قطاع غزة ولبنان تُفضي إلى أنهما مِدماك أساس لصناعة السلام على الطريقة الأمريكية، من دون معالجة السبب الرئيسي للحرب وهو حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أرضه. ويرى ترامب أن “إسرائيل” مُطالبة بالاكتفاء بما حصلت عليه من ضمان لأمنها، لأن أولوياته باتت منصبّة على جبهتين يعتبرهما أساسيتين: المواجهة المؤجلة مع الصين، ووضع اليد على الحديقة الخلفية للولايات المتحدة في جنوب القارة الأمريكية، وبالأخص فنزويلا، تليها كوبا.

أمام هذه القراءة، من غير المرتقب أن تكون زيارة نتنياهو إلى واشنطن على قدر الآمال التي يعقدها هو عليها، وسيكون عليه أن ينزل عن شجرة التهديد والوعيد التي تسلّقها على مدى الشهرين المنصرمين، بعد أن باتت فرصه في التملص من الوصاية الأمريكية ضعيفة جدًا.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الامبريالية الخلوية.. وترسانة المعلوماتية