“المارونية السياسية” بين نموذجين: شمعون وشهاب (3)

في سيرتها المديدة، قدمت "المارونية السياسية" نماذج مختلفة. كانت تعتبر الخلاف تعبيراً عن حيوية. لكن وقائع السيرة السياسية تقول أن الاختلاف كان تعبيراً عن احتكام لما يدور في المحيط. فلم يكن لبنان مستقلاً عن المتعلقات الخارجية وصراع المحاور. وفي هذا ستكون "المارونية السياسية" على غرار أقرانها من "السنية السياسية" و"الشيعية السياسية". كلها استدعت خارجاً ما. وكلها ورطت البلد في شرور مستطيرة.

سيُسجل على “المارونية السياسية” ماضياً وحاضراً ميلها إلى الأقليات. فقد انزاحت من إسرائيل إلى إيران. وبين الاثنين ستستنجد بـ”سوريا الأسد” ضد اليسار الذي أسمته دولياً وما اعترفت بلبنانيته. فـ”اللبنانية” هي لمن يمتثل لها. ومثلها فعلت “السنية السياسية” في اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية  “جيش المسلمين” في لبنان. وعلى غرار الإثنين ستستعين “الشيعية السياسية” بـ”علوية” النظام السوري في سبعينيات القرن الماضي قبل أن تنتهي عند إيران الخمينية اليوم.

كل رئيس صَدَّرتهُ “المارونية السياسية” عبّر عن اتصال بين داخل اسلامي وبين خارج عربي ـ اسلامي. والعروبة منتقاة وفقاً للأهواء. اختارت حيناً الملكيات والإمارات تعريفاً للعروبة كما فعل كميل شمعون. وأحياناً اختارت “عروبة ثورية” ناصرية اتكأت عليها مع فؤاد شهاب، وبعثية استغاثت بها كما فعل بيار الجميل الجد ولاحقاً سمير جعجع (مع الطائف و13 تشرين) والعماد ميشال عون يوم كان قائداً للحكومة العسكرية. لقد استنجدت بـ”البعثين” السوري في السبعينيات، والعراقي في أواخر الثمانينيات قبل أن تترنح وتذهب إلى الطائف منهكة لتوقع على “عروبة لبنان”.

و”المارونية السياسية” إذ اشتملت على قادة سنة وشيعة ودروز بالغوا بـ”مارونيتهم” من كامل الأسعد الشيعي إلى صائب السلام السُني وبينهما الأرسلانية الدرزية، فإنها كانت تريد لبنان “وطناً نهائياً” بهوية ثقافية وأيديولوجيا كيانية. سعت لملكية جغرافيا “الكيان” ومن عليها الذين كانوا “محل تشكيك” مستمر طالما كانوا يُنشدون المساواة في كل شيء حتى رئاسة الجمهورية. وهذا كان ينقض ما نظَّرت له عن “الوطن الملجأ” و”وطن الحرية”. فاستئثاريتها بمنح “اللبنانية” نقضت شروط الوطن والدولة العادلة. وهذا ما سيحاول فؤاد شهاب استدراكه خوفاً على الموارنة قبل أن يكون حُباً بالمسلمين، وبينهما توجس خفر من اليسار الذي راح ينمو باضطراد.

لم تترك “المارونية السياسية” شيئاً إلا وفعلته لتبقى حاكمة ومتحكمة. كميل شمعون نقض ما سُمي “الميثاق الاستقلالي”. اسقط مقولة ألا يكون لبنان الكبير “ممراً ولا مستقراً”.  فقد استدعى “المارينز” إلى شواطىء الوطن الطري العود عام 1958. وفعل الشيء نفسه مع الرئيس سليمان فرنجية وبيار الجميل عام 1976 فأدخلوا الجيش السوري لينقذ “الكيانية اللبنانية” بمواجهة “الحركة الوطنية” اليسارية التي نزعوا عنها لبنانيتها، ورفضوا حتى محاورتها في برنامجها الإصلاحي الذي لو كان لبعض بنوده ان تسلك طريقها الى التطبيق لوفرت دماً كثيفاً على البلد وأهله.

سؤال الديموغرافيا

وستبلغ “المارونية السياسية” جنونها الأقسى والأقصى عام 1982 مع إستدعائها إسرائيل إلى قلب لبنان لتسقط بيروت للمرة الأولى تحت نير الإحتلال. لقد كان هوس الحكم والتحكم محرك “المارونية السياسية” لضمان ديمومة حكمها. ولعل أسوأ موبقاتها توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 الذي جعل جنوب لبنان مسرحاً لعمليات عسكرية لا تتوقف بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. وفي هذه الخطيئة الأصلية كان لليسار الحظ الأوفر من استسهال تحميل لبنان منفرداً أعباء “تحرير فلسطين”. وهذه العناصر مجتمعة في استدعاء الخارج تحت وطأة “أحلام الغلبة” بين يمين ويسار، وبين مسيحية سياسية ومثيلتها الاسلامية كانت الهزيمة المؤلمة التي حلت بالبلد وأهله.

تاريخياً تحقّقت “المارونية السياسية” في نموذجين مختلفين لحكم هذه البلاد هما الشمعونية والشهابية. والنموذجان ومعهما تجربة بشير الجميل ستبعث الأوهام لاحقاً عند التيار الوطني الحر وخصوصا عند رئيسه جبران باسيل (مثلما تبقى عقدة بشير الجميل متحكمة بخطاب وسلوك جعجع). شكلت الشمعونية مرحلة الازدهار في الخمسينيات على وقع الانقلابات في العالم العربي. أما الشهابية فكانت حركة إصلاحية على وقع طوفان الناصرية والمد القومي واحلام الستينيات. حاولت كل من الشمعونية والشهابية الاجابة العملية عن سؤال: كيف يحافظ الموارنة على عناصر هويتهم السياسية والثقافية الطاغية في ظل تراجع الوزن الديموغرافي الماروني والمسيحي؟ وكيف يمكن الحكم في ظلّ استدامة الصراع العربي ـ الاسرائيلي بكل ما يعكسه من تداعيات وبكل ما يفرضه من تحديات على التركيبة اللبنانية؟. جواب الشمعونية قضى بالإنخراط في الأحلاف الإقليمية المرتبطة بأميركا في عز “الحرب الباردة”، بعكس الشهابية التي قررت أن تكون الأولوية لحماية الداخل لكن تحت سقف الخيمة العربية الناصرية.

ذهب فؤاد شهاب بعيداً مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر لينتزع منه “الحد من التدخل” في الشأن الداخلي. وقصة الخيمة على الحدود اللبنانية ـ السورية شكلت دلالة بالغة في الحرص على “محاولة الاستقلال”، أو “محاولة تثبيت الدولة”، بأرجحية الإنضواء تحت المظلة الناصرية

تصرف كميل شمعون كملك أكثر من الملك خلال فترة حكمه. فصّل قانوناً انتخابيا على قياسه. ذلك أنه خفّض عدد النواب من 77 إلى 44 نائبًا، ثم أعاده إلى 66، كما أعاد تقسيم الدوائر الإنتخابية على أساس القضاء الأمر الذي أدى إلى وجود عدد من الدوائر الفردية. كانت المرة الأولى في تاريخ الإنتخابات النيابية. كان عهد شمعون في الداخل على قدرٍ عالٍ من الحزم في تعاطيه مع خصومه السياسيين. عمل على إقصائهم بدلاً من استمالتهم. بعكس سلفه الرئيس بشارة الخوري. بلغ تفرد شمعون حد عدم تفاعله مع زملائه في الجبهة الوطنية الاشتراكية. فقد شكل عندما أصبح رئيساً للجمهورية حكومةً من خارج البرلمان. لكن الأكثر حساسية في ما ذهب إليه تمثل بقانون الانتخاب الذي تلاعب فيه، كما أسلفنا الذكر.

إقرأ على موقع 180  ماذا تكتب يا حنّا؟

إنتهاء حقبة شمعون

في 26 تموز/يوليو 1956، أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. قبل ذلك، شعر شمعون أن الأحداث تتطور بسرعة فكلف رشيد كرامي تشكيل الحكومة في  أيلول/سبتمبر 1955 وقد استمرت خمسة أشهر في جو من التصريحات المتكررة عن أحلاف ثلاثية بين مصر وسوريا ولبنان، وعن ميثاق لبناني – سوري صدر بلاغ مشترك في صدده. إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق وما لبث كرامي أن استقال فكلف عبدالله اليافي تشكيل الحكومة.

خلال حرب السويس في خريف العام 1956، دعا شمعون إلى مؤتمر قمة عربية في بيروت. إتخذ المؤتمر مقررات هامة تندد بـ”العدوان الثلاثي” وتدعم مصر كلياً.  لكن برزت من خارج السياق دعوة إلى مقاطعة بريطانيا وفرنسا. وكانت غالبية الدول مرتبطة بمواثيق تحول دون مقاطعة المملكة المتحدة. ووافق المؤتمرون على اجتهاد شمعون بضرورة الإبقاء على العلاقات لأن هذا الأمر يساعد العرب على تحرير الأراضي المصرية من الإحتلال. ومع إصرار الرئيس اليافي ووزير الدولة صائب سلام على قطع علاقة لبنان مع فرنسا وبريطانيا، برغم إعتراض المؤتمرين طلب منهما شمعون الاستقالة. وتوسط الملك سعود لحل المشكلة. لكن اليافي وسلام آثرا الإستقالة وقبلها الرئيس شمعون فورا.

على الأثر، صدر مرسوم بتكليف سامي الصلح تشكيل حكومة جديدة، وكان ذا شعبية كبيرة في الأوساط الإسلامية. ويروي باسم الجسر أن إستقالة ممثلي السنّة من الحكم “أدى إلى تفجير الأزمة بين بيروت والقاهرة. وكانت تلك أول ضربة يتلقاها الميثاق الوطني من الضربات التي ستتوالى عليه لتصدعه في العام 1958”. في هذا العام، ستنتهي حقبة شمعون بحرب كان جوهرها صراع محاور على أرض لبنان، ونتيجتها التأسيس لعصبيات مستقبلية.

الشهابية والمظلة الناصرية

ما حصل في حرب العام 1958 سيكون ميزان فؤاد شهاب في رؤيته إلى لبنان “الدولة”. فقد راح يرسم سياسة خارجية وداخلية راعت قوة التوازن الداخلي معطوفةً على الخارج الحاضر أبداً في الكيان. فقد ذهب بعيداً مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر لينتزع منه “الحد من التدخل” في الشأن الداخلي. وقصة الخيمة على الحدود اللبنانية ـ السورية شكلت دلالة بالغة في الحرص على “محاولة الاستقلال”، أو “محاولة تثبيت الدولة”، بأرجحية الإنضواء تحت المظلة الناصرية.

صحيح أن فؤاد شهاب لم يتحالف مع عبد الناصر، إلا أنه ما عاداه على الإطلاق، مع تمسك شديد بعلاقات لبنان مع الغرب. فعندما أرادت الجامعة العربية قطع علاقات لبنان مع فرنسا جراء سياسة الأخيرة في الجزائر، امتنع شهاب عن ذلك، وأقنع العرب بما بين لبنان وفرنسا تاريخياً ويعود الى زمن أبعد من الانتداب. وقد جاء ذلك مصحوباً بكثير من الضمانات الاجتماعية موجهة إلى المناطق (الإسلامية) التي أُلحقت بـ”لبنان الكبير”. فاعتمد سياسة اجتماعية عززت سياسته الداخلية وحمت عهده نسبياً إلى حين قيام الحلف الثلاثي الشهير جامعاً “صقور المارونية السياسية” بيار الجميل وكميل شمعون وريمون إده. ذلك أن حلف 1968 بدأ بالتشكل فعلياً عام 1964 على حد تعبير فؤاد بطرس وكان “الجد البعيد” لانفجار العام 1975.

لكن إصلاح شهاب الخائف على الموارنة من الجغرافيا المتحركة والديموغرافيا المتناقصة حرض “الأهل” عليه. فقد جوبه من الأقربين ومن العائلات الاقطاعية والتقليدية.. وعندما لم تقو هذه الأسلحة عليه استغلوا اسلحته هو. فقد دخل الرجل الى القصر الجمهوري قادماً من الجيش وقدرته المميزة آنذاك “المخابرات” والتي كانت تُسمى في حينه بـ”الشعبة الثانية”.

إتكأ فؤاد شهاب كثيراً على الجيش ومخابراته جراء حذره من نادي السياسيين التقليديين المسيحيين والمسلمين على حدٍ سواء. فكانت المبالغة القصوى في جعل “الشعبة الثانية” مادة يومية للسجال السياسي والتحريض الشعبي. ودُبجت لها أدوار لاسقاط العهد شعبياً. مع ذلك بقيت “الشهابية” مرحلة معيارية كنموذج يُحتذى في “الإصلاح” على طريق “الإنماء المتوازن”، وشكلت معالم غير ناجزة لبناء دولة عصرية. هذا “الجنرال ـ الرئيس” جعل على قدر ما استطاع النزاهة والكفاءة والمواطنة هي الممر، ويكاد يكون الرئيس الماروني الوحيد الذي سلم الموقع إلى غيره من دون أن تنفلت غريزته على التمديد أو التجديد اللذين شكلا على الدوام مرضاً من أمراض “المارونية السياسية”.

(1) “المارونية السياسية”: الجمهورية الأولى والفردوس المفقود

(2) “المارونية السياسية”: أسطورة التأسيس وفرادة لبنان عربياً

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ماذا تكتب يا حنّا؟