لكأن الحالة الجنبلاطية إنتشرت كالفيروس في كل المنطقة. ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يكاد لا ينام. يقيم ليلاً ونهاراً عند مفترق طرق كبير. يصول ويجول في المستديرة نفسها ولا يدري أي إتجاه يسلكه. راهن كثيرون في العالم ومنطقتنا على دونالد ترامب. فجأة صار الرجل من الماضي. بالمقابل، لا أحد يستطيع أن يتنبأ مسبقاً بسلوك الديموقراطي جو بايدن. لكن كثيرين يتهيبون اللحظة الأميركية وبينهم بن سلمان. لذلك، قرر الأخير مصالحة قطر. تخفيف التوتر مع تركيا. فتح نوافذ لقضايا “حقوقية” في السعودية. إبقاء الخطوط مفتوحة مع تل أبيب لكن من دون الذهاب إلى تطبيع كامل معها. إعادة توجيه رسائل في الملف اليمني تصب في خانة البحث عن تسوية ما مع الحوثيين. خطوط مفتوحة أيضاً مع الدولة السورية.
الحالة الجنبلاطية (الإنتظارية) في السعودية تنسحب على الإمارات وإيران وتركيا ومعظم اللاعبين الإقليميين. أيضاً تسري على اللاعبين المحليين في لبنان. لا أحد يريد أن يخطو خطوة ناقصة أو كاملة حالياً. لذلك، لا بأس إما بمراوحة في تلك المستديرة المتعددة الإتجاهات أو الوقوف على التل لمراقبة مآلات اللاعبين في لعبة الشطرنج الكبرى. حتى أن إطلالات وليد جنبلاط الإعلامية الأخيرة، لم تندرج إلا في هذا السياق: التهيب من الآتي ومحاولة ملاقاته بأقل الخسائر. أصلاً قالها بوضوح إن أقصى ما يمكن أن يقدمه لحليفه السعودي (والإماراتي بطبيعة الحال) هو أن يرفع صوته، “ولا أحد يطلب مني أكثر من ذلك”، حتى أنه كان يُلمح إلى أن المطلوب من سعد الحريري أن يقتدي به، أقله بمقاربته للملف الحكومي، لا أن تكون رئاسة الحكومة هدفاً بذاتها، من دون أن يخفي خيبته من إدارة الحريري السياسية وربما رهانه على إمكانية تحسين شروطه (الدرزية) في أية معادلة حكومية جديدة.
ولعل النموذج الأوضح لحالة الترقب الجنبلاطية دفاع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي عن منظومة صواريخ حزب الله، مستنداً إلى ما حققته في حرب تموز/ يوليو 2006، لا بل هو دافع عن حق الحزب في إقامة تمثال للجنرال قاسم سليماني في “مناطقه”، فهو بهذه الخطوة يلاقي الآخرين الذين أقاموا أنصبة وتماثيل فئوية وحزبية في “مناطقهم”، إبان الحرب الأهلية وبعدها، لا بل رفع معظمهم تماثيل للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، قبل الرابع عشر من شباط/ فبراير 2005، قبل أن ينقلبوا على سوريا وتماثيلها وضباطها بعد هذا التاريخ.
عملياً، نحن في قلب الوقت السياسي الضائع. ما لا يدركه باسيل والحريري معاً أن معظم اللبنانيين لا ينصتون إلى خطاباتهم. ثمة جمهور حزبي جاهز للتصفيق فقط لزعيمه. لكن هذه “الجماهير” باتت تعيش في خطوط تماس متقابلة و”ترندح” لبعضها عبر منصات التواصل. كل القيادات السياسية من دون إستثناء صارت تفتقد للمصداقية. هل يعقل أنه في خضم أزمة وجودية، سياسية إقتصادية ومالية، يمكن أن يمتلك أحد “قادتهم” ترف الوقت المفقود لإنتاج نظام سياسي جديد “على البارد”؟
قال الإماراتيون كلاماً واضحاً للحريري في زيارته الأخيرة: مشكلتكم في لبنان تنتهي بشحطة قلم بسيطة. كم تريدون؟ 10 مليارات؟ 20 مليار دولار؟ إنها مجرد أرقام. سؤالنا لك هو الآتي: حدّد موقفك من حزب الله وسلاحه ودوره الإقليمي وكذلك من إيران؟
إذا كان جبران باسيل يُريد أن يُنصّب نفسه بطريركاً سياسياً للمسيحيين في أنطاكيا وسائر المشرق (وهذا حقّه). إذا كان يريد أن يقرأ دوراً جديداً له وللمسيحيين في لحظة إعادة رسم خرائط المنطقة، هل هذه اللحظة قد أتت أو أنها ما زالت بعيدة؟ وهل يمكن أن نعرف إلى أين سيذهب لبنان قبل أن ترسو معادلات سوريا والعراق، ثم هل يمكن لباسيل وحده، بما يمثل، سياسياً وطائفياً، أن يجلس على طاولة رسم الخرائط من دون حليفه حزب الله؟ وهل يريد حزب الله في هذه اللحظة أن يشكل رافعة لمعادلة تغيير النظام السياسي اللبناني؟
نقطة الضعف المركزية في خطاب باسيل أنه كان يقول الشيء ونقيضه في خطابه، من ألفه إلى يائه. يبالغ في تبني خطاب المظلومية المسيحية، كعادته عندما يكون محشورا مع “شريكه الآخر”، سواء أكان شيعياً أم سنياً أم درزياً، قبل أن يتوّج خطابه بمعادلة الدولة المدنية. يبالغ في رسم وظيفة لبنان، فإذا بها تشبه ذلك اللبنان الذي إنبنى في العام 1943، بلا أي موقع إقليمي، بل مجرد بلد يقف على رصيف إنتظارات المنطقة وخياراتها، فإذا أرادت أن تُشعِله يَشتعل وإذا أرادت له أن يَهدأ يَستقر، والأخطر عندما يكون في منزلة بين الإثنتين، كما هو اليوم، وكما سيستمر لفترة طويلة، على الأرجح.
صار الحديث عن تأليف الحكومة في لبنان مملاً جداً. منطقتنا تشهد إصطفافاً غير مسبوق. إسرائيل ومعها منظومة عربية كبيرة من المحيط إلى الخليج تتماهى في ما هو أبعد من التطبيع. تقف السعودية على رأس هذه الدول العربية. في المقابل، لا تريد قلة من الدول العربية أن تنضوي ضمن هذا الإصطفاف مثل الجزائر. العراق. سوريا. لبنان ونصف اليمن أو شماله. لو دقّقنا أكثر، لوجدنا أن شرائح لبنانية وازنة لم تعد تخفي عاطفتها ومصلحتها بأن تكون جزءاً من مشهد التطبيع، بكل ما تعوّل عليه من رهانات سياسية وإقتصادية ومالية. حتى سوريا نفسها، لا تستطيع إلا أن تقول أنها مستعدة للإندراج ضمن معادلة السلام والتطبيع شرط أن تقترن بإستعادة الأرض، وفق المعادلة التي أرستها دمشق منذ مؤتمر مدريد للسلام. في المقابل، لن يقبل حزب الله ومعه إيران إلا أن يكون لبنان جزءاً من “محور الممانعة”.
أين يجب أن يقف لبنان في ظل هذا الإصطفاف الإقليمي الصعب؟
قال الإماراتيون كلاماً واضحاً للحريري في زيارته الأخيرة: مشكلتكم في لبنان تنتهي بشحطة قلم بسيطة. كم تريدون؟ 10 مليارات؟ 20 مليار دولار؟ إنها مجرد أرقام. سؤالنا لك هو الآتي: حدّد موقفك من حزب الله وسلاحه ودوره الإقليمي وكذلك من إيران؟
بطبيعة الحال، هنا مكمن إحراج الحريري حتى الآن. لا يريد أن يكون رأس حربة ضد حزب الله ولا يريد أن يكون “جندياً” في “السرايا”. إرباكه موصوف وموقفه لا يُحسد عليه. صحيح أن رحلته الإماراتية كانت متنوعة المهام، (برفقة وعلى نفقة “المقاول الأول في الجمهورية”): أخذ لقاح كورونا، لقاء العائلة، تفقد بعض الأصدقاء، الإجتماع بمسؤول إماراتي، والأهم أخذ موافقة الرياض وأبو ظبي على رحلته إلى أنقرة. ألح عليه الأتراك في الآونة الأخيرة، وتحديداً بعد تكليفه برئاسة الحكومة أن يلبي دعوة رئيسهم رجب طيب أردوغان وكان يؤجل رده، إلى أن جاءت “الموافقة”، فكانت الزيارة (ولم تكن الدكتورة اللبنانية التركية زينب الهيب بعيدة عنها) وليس خافياً أن أحد مضامينها لا يتعدى الشخصي (المالي). مبدئياً، فتحت الأبواب التي لم تكن موصدة بالكامل بين الإمارات وتركيا. كلا السعودية وتركيا يواجهان مشاكلهما وإلتباساتهما مع جو بايدن. لذلك، تسلل الحريري من خرم النوافذ الخليجية ـ التركية، محاولاً تثبيت حضوره في معادلة تتجاوزه. مهمة ترويض السياسات التركية إقليميا لن تكون سهلة، لكن الإقتصاد التركي من جهة والعلاقة السيئة بين أردوغان وبايدن من جهة أخرى، يحتمان مقاربات تركية مختلفة. لذلك، لم يعترض الإماراتيون على كل من تنطح للتحرك ضمن الهوامش المتاحة، ولكن من دون كبير رهان على أن سعد الحريري المأزوم بعلاقته بالخليجيين وبمعضلة تأليف الحكومة لبنانياً، سيكون قادراً على لعب أدوار كان والده يقوم بها، في عز قوته وحضوره ودوره، بينما ليس هذا هو حال الإبن اليوم!
ثمة حاجة باسيلية لإعادة التواصل مع الحريري. هذا هو المطلب “من الآخر”. من يبادر إلى هذه المهمة؟ علاء الخواجة.. هل هو على السمع؟ أين المعاونان السياسيان حسين خليل وعلي حسن خليل واللواء عباس إبراهيم؟ أين هي “الأم الحنون”؟
ولو إفترضنا أن الخليجيين والأتراك سيجدون مساحات مشتركة في المرحلة المقبلة، فإنها ستصب مرحلياً في خانة طرق أبواب الإدارة الأميركية الجديدة وإستراتيجيا في خانة الإصطفاف الكبير (معسكر التطبيع مع إسرائيل بوجه إيران)، ولن يكون رجب طيب أردوغان خارجه، بل على العكس في صلبه، وها هو رئيس جهاز المخابرات التركية حقان فيدان ـ الذي لم يكن بعيداً عن تفاصيل زيارة الحريري ـ ينسّق مع نظيره الإسرائيلي رئيس “الموساد” يوسي كوهين آليات التعاون الأمني والإستخباري بين أنقرة وتل أبيب، وهو يدرك أن أردوغان يحتاج إلى “صفحة جديدة” مع فرنسا وأوروبا ودول الخليج وإسرائيل، بوصفها مجرد بوابات قبل الوصول إلى البوابة المركزية للساكن الجديد في البيت الأبيض.
وبين تقليل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من أهمية العناصر الخارجية التي تقف حجر عثرة أمام تشكيل الحكومة اللبنانية وبين حصره القضية، في كل إطلالاته الأخيرة، بأنها تعبير عن أزمة ثقة عميقة بين رئيس الجمهورية (وضمناً جبران باسيل) والرئيس المكلف، يتجدد السؤال: هل أن ما طرحه رئيس التيار الوطني الحر يندرج في خانة التكتيك، أي أنه ينتهي بمجرد الحصول على ستة وزراء مسيحيين أحدهم بيار خوري لوزارة الطاقة، أم أن الأمر إستراتيجي وأعمق بكثير (تغيير النظام)، وهو منسق مع ميشال عون ومع السيد نصرالله شخصياً؟
قال الأمين العام لحزب الله في إطلالته الأخيرة إن الإدارة الأميركية وفي ضوء مجريات الداخل الأميركي الأخيرة، ستكون أمام أولوية مجتمع منقسم على ذاته وبالتالي لن تحرك ساكناً إزاء لبنان وحكومته (فكيف بتغيير نظام وصياغة طائف جديد)، وبالتالي تبقى الكرة في ملعب اللبنانيين، فإذا كان الرئيس المكلف يخشى عقوبات إدارة دونالد ترامب إذا تمثل حزب الله “تكنوقراطياً”، في حكومته، برغم نفيه ذلك للحزب نفسه، فلننتظر إنتهاء هذه الأيام العشرة.. وبعدها تكون مرحلة جديدة من مراحل تأليف الحكومة.
قد يكون جبران باسيل محقاً في بعض المآخذ التي وضعها على الرئيس المكلف وتحديداً لجهة عدم وحدة المعايير، وأبرزها معيار إجتماعه به، وهذه هي النقطة المركزية التي من شأنها أن تحرك الملف الحكومي، وبعدها يمكن رصد خطاب رئيس التيار الوطني الحر: إذا أخذ ما يريد من وزارات، ولا سيما الطاقة، علينا أن نكون مستعدين لسماع نغمة مستعادة من موسم التسوية الرئاسية في العام 2016، وصولاً إلى دفاعه عن نظام الطائف بشراسة ميشال عون الذي قال قبل يومين إن تفسير الدستور، وفقا لميثاق الوفاق الوطني، من صلاحية المجلس الدستوري وليس مجلس النواب، بينما بدا كل أهل الطائف يغرّدون خارج سربه!
كيف يكون رئيس الجمهورية متسلحاً بالأمس بالطائف.. ويكون رئيس “جمهورية الظل” متسلحاً بعكسه في اليوم التالي؟
ما أدلى به باسيل في إطلالته الإعلامية، اليوم (الأحد)، يندرج في خانة “الجنبلاطية” نفسها. قال رئيس التيار الوطني الحر ما قاله في أميركا والصين وروسيا والإقليم والأقليات والفاتيكان وأوروبا وإسرائيل والسلام والسلاح. لم يترك عنواناً إلا وتطرق إليه. “مَرْثَا مَرْثَا أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ” (إنجيل لوقا)، أو لنقل كما قال فؤاد شهاب لكمال جنبلاط “كمال بيك، فينا نبلش من الآخر”. ثمة حاجة باسيلية لإعادة التواصل مع الحريري. هذا هو المطلب “من الآخر”. من يبادر إلى هذه المهمة؟ علاء الخواجة.. هل هو على السمع؟ أين المعاونان السياسيان حسين خليل وعلي حسن خليل والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم؟ أين هي “الأم الحنون” ومبادرتها وسفارتها وموفديها؟ للبحث صلة.