أعاد إقتراب موعد الانتخابات النيابية المبكرة في العراق واشتداد التنافس الانتخابي إلى الواجهة مسألة فاعلية المكون السني وحضوره ودوره في المشهد السياسي العراقي، وهي مسألةٌ كانت قد برزت كذلك مؤخراً في لبنان، خصوصاً بعد تنحي رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عن رئاسة الحكومة، بعد حوالي عشرة أشهر من التكليف، ما فتح الباب على سؤال الزعامة السنية في لبنان وماذا ستفرز الإنتخابات النيابية المقررة في لبنان في ربيع العام المقبل.
معضلة الزعامة السنية عينها تبرز أيضاً في العراق، وهي معضلة قديمة ـ جديدة تتبلور باضطراد في كل مرحلة سياسية وعند كل محطة انتخابية، بعد أن كانت ملامحها قد ظهرت منذ أن غيّرت الولايات المتحدة شكل النظام العراقي عام 2003، ما أدى إلى إضعاف حضور المكون السني في الصيغة السياسية العراقية لمصلحة تقوية المكونين الشيعي والكردي. التعبئة السياسية لكل من هذين المكونين الأخيرين كانت سهلة بفعل المركزية الدينية وتنامي شعور الاضطهاد عند الأول، وبفعل القومية وتنامي النزعة الانفصالية عند الثاني. توحد الشيعة والأكراد خلف زعاماتهم التاريخية، في حين لم يكن الأمر كذلك عند السّنّة، الذين وجدوا أنفسهم في لحظة يدفعون معها ثمن أخطاء وسقوط صدام حسين الذي آثر ألا يسمح ببروز قيادات أو زعامات سنية إلى جانبه طوال فترة حكمه.
ومنذ تاريخ الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وحتى يومنا هذا، لم يتمخص عن العملية السياسية في العراق إنجاب زعامة سنية حقيقية، أو حتى بروز مشروع سياسيّ سني واضح المعالم وقادر على جمع القوى السنية وتوحيدها. وباستثناء ما اعتبر نجاحاً سياسيا سنياً عقب فوز ائتلاف “العراقية” برئاسة إياد علاوي عام 2010 بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية (تم الانقلاب عليه لاحقاً)، فإن المسار السني ظل مساراً غير فاعل بحيث لم ينبثق عنه أي مشروع او زعيم، وذلك إما بفعل ما يراه البعض تهميشاً ممنهجاً للمكون السني لا سيما في عهدي نوري المالكي وحيدر العبادي، او بلحاظ فقدان بعض الشخصيات السنية التي دخلت المعترك السياسي للحاضنة الشعبية الوازنة، أو بسبب الصراعات البينيّة التي كان لها بالغ الأثر على تشظّي المكون السني.
وإذا كان من شأن رئاسة البرلمان العراقي أن تمنح من يتصدّى لها موقعاً سنياً متقدماً، غير أن هذا المنصب الرسمي والمرحلي ليس كافياً لصنع زعامة فعلية. ثمة شروط مختلفة، ترتبط بشخص رئيس البرلمان من جهة والظروف الداخلية والخارجية التي تؤدي إلى وصوله إلى هذا الموقع من جهة أخرى.
والمنافسة السنية السنية في العراق هي في أوّجها حالياً، وإن ظهرت ملامحها منذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة الانتقالية. إذ كشفت التباينات عن وجهها الواضح بعد مساعي الأخير في توزيع الوزارات، وبعد ما ظهر من خلافات في شأن تقسيم الدوائر الانتخابية في المحافظات ذات الغالبية السنية. وقد أفضت هذه التباينات إلى بروز ما عرف بـ”الجبهة العراقية” كائتلاف لقوى سنية كان هدفه الواضح الضغط لأجل إقالة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي الذي يسعى منذ إنتخابه إلى زعامة المكون السني.
وكانت هذه القوى قد استشعرت خطر بقاء الحلبوسي على رأس السلطة التشريعية، ما يعطيه قدرة على تجيير الانتخابات لمصلحته، لا سيما وأنه شخصية براغماتية، إذ عرف عنه مسايرته لإيران مقدمة لوصوله إلى رئاسة البرلمان، فهو اختير رئيساً ضمن تحالف الفتح بقيادة هادي العامري الذي وصفه بأنه “رجل يفي بالوعود”.. كما أن رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض قال في نيسان/أبريل الماضي :”لولا تحالف البناء والدعم الإيراني لهذا الخيار وفق رؤية معينة لما كان الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب”.
الحلبوسي إستفاد من موقعه السابق كمحافظ من أجل بناء شعبيّة في الأنبار. وهذا ما سهل له فتح خطوط على كل من الإمارات والسعودية، قبل أن يبادر مؤخراً إلى فتح خطوطه أيضاً مع الأتراك، حيث راجت معلومات عن زيارته أنقره سعياً إلى تغطية تركية وتحديدا أردوغانية لـ”وحدة الصف السني” وراء زعامته
وكما حاول كسب الرضا الإيراني، فإن الحلبوسي وفي لقائه مؤخراً شيخ الأزهر أحمد الطيب في القاهرة، ودعوته له لزيارة العراق لكونها “ستكون زيارة تاريخية لدعم العلاقات الأخوية بين القاهرة وبغداد”، يحاول أخذ غطاء من مرجعية الأزهر (ومن مصر بطبيعة الحال) يحفظ له مكانته ويعززها في الداخل السني في العراق. غير أن الأمر كان ليكون أسهل لولا الخلافات السنية على المكاسب (لا على المشاريع)، إذ تحتدم المنافسة اليوم بين الحلبوسي وخميس الخنجر زعيم “المشروع العربي” وتحالف العزم البرلماني، فيما تقل حدتها بينه وبين أسامة النجيفي رئيس الجبهة العراقية، وهي منافسة ستؤدي إلى مزيد من انشطار القوى السنية كما يرى المراقبون، لا سيما وأن كل قطب منها له تحالفاته السياسية المختلفة، الأمر الذي سيضعف بطبيعة الحال الموقف السني واستحقاقه في الحكومة المقبلة، وسيبقي المشهد السني خالياً من أي زعامة دائمة، ويرهنها لمن يتولى السلطة فقط، فمن سيدير المكون السياسي السني عملياً هو فقط من سيمتلك عدداً أكثر في البرلمان.
ولا يمثل المتنافسون حالات محلية معزولة عن الخارج، فالحلبوسي إستفاد من موقعه السابق كمحافظ من أجل بناء شعبيّة في الأنبار. وهذا ما سهل له فتح خطوط على كل من الإمارات والسعودية، قبل أن يبادر مؤخراً إلى فتح خطوطه أيضاً مع الأتراك، حيث راجت معلومات عن زيارته أنقره سعياً إلى تغطية تركية وتحديدا أردوغانية لـ”وحدة الصف السني” وراء زعامته. يسري ذلك على الخنجر الذي تواصل مؤخراً مع القيادة التركية للهدف نفسه مستفيداً من كونه يشكل تقاطعاً قطرياً – تركياً وموضع ثقة أكبر عند كل من أنقرة والدوحة!
وليس خافياً على أحد أن الإحتضان الخليجي لهذا أو ذاك من المرشحين لا يقتصر على توفير الغطاء السياسي بل يوفر مالاً سياسياً يُستخدم الجزء الأكبر منه في المواسم الإنتخابية.
ومن المفيد الإشارة إلى النقلة النوعيّة التي قام بها خميس الخنجر من خصومة إيران وتأييد تحرّكات السنّة في 2011، إلى متحالفٍ معها في انتخابات 2018، والإبقاء على العلاقة الطيبة مع حلفائها!
وكانت المنافسة بين الحلبوسي وخنجر قد بلغت منحىً سيئاً قبل أشهر، في محاولة كل واحد منهما أن يظهر خصمه في صورة من لا يستحق أن يكون ممثلاً للشارع السني. وقد تصاعدت حدة الكلام بين الرجلين، إذ كتب الحلبوسي في ما سرّب من رسالة له إلى الخنجر: “حاولت أن أصدّقك أكثر من مرة وأغضّ النظر عن نباح كلابك ومغامراتك بأهلنا لعلّ وعسى ينصلح حالك”، فما كان من الخنجر إلا أن ردّ قائلاً: “لست بحجمك ووزنك حتى أستخدم نفس الألفاظ، لكني أعدك أنني سأبقى مدافعاً عن حقوق أهلي التي ضيّعتها خوفاً على منصبك الذي اورثك ذلاً يسمح لك بالتطاول على شركائك في المكون فقط، بينما لم نسمع لك إلا الخنوع والتصفيق أمام الآخرين”.
ولئن أتت هذه الرسائل على سبيل المثال لا الحصر، غير أنها تعكس صورة وطبيعة الصراع السني السني الذي دخل مرحلة كسر عظم، وانتفى منه المشروع الجدي الذي يعمل لمصلحة المكون السني في العراق، بحيث باتت أطياف واسعة منه فاقدة للثقة بكل القيادات العاملة في الساحة، ولا ترى فيها سوى واجهة لمنافسة على رئاسة البرلمان، بين الحلبوسي أو أحد المدعومين من خميس الخنجر. أما والحال هذه، فإن الانتخابات العراقية الآتية لن تنتج زعامة سنية وطنية بقدر ما ستترجم الصراع السني السني بأبعاده الخارجية والداخلية في آن معاً.