قررت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات مالية على ثلاث شخصيات لبنانية هي: النائب جميل السيد، المقاول جهاد العرب والمقاول داني خوري. لو سلمنا مع الأميركيين أن “الفساد” الذي “جنته” أيدي هؤلاء الثلاثة وقبلهم الثلاثي جبران باسيل ـ علي حسن خليل ـ يوسف فنيانوس هو بحدود المليار دولار، ماذا عن الـ 100 مليار دولار إجمالي ودائع اللبنانيين وغير اللبنانيين التي “تبخرت” من المصارف اللبنانية وحتماً يعرف الأميركيون من خلال المقاصة في نيويورك كيف يتحرك كل دولار في العالم في نهاية مطاف رحلته؟
لم تكن العقوبات الأميركية في تاريخها عادلة وشاملة. هي عقوبات سياسية إستنسابية، بشهادة من يحبون “الأنكل سام” أو من يكرهونه. لن يجد من تشملهم العقوبات إجماعاً على “أودمتهم” أو “شيطنتهم”. المسألة تخضع لإعتبارات لبنانية تتصل بالولاء السياسي والطائفي والحزبي إلخ.. لكن الأكيد أن هذه العقوبات، سواء أكانت عن وجه حق أم ظلماً، تأتي تعبيراً عن فراغ ما. عن ثقب ما في نظامنا السياسي والإقتصادي والمالي. ثقب يتيح للأميركي وغير الأميركي أن يحل محل مؤسسات الرقابة والمحاسبة والتدقيق المحلية، فتصبح وزارة الخزانة الأميركية بدل ضائع لبناني إسمه لجنة الرقابة أو حاكم مصرف لبنان المركزي.. لكن الأخطر من ذلك أن من يجب أن يقوموا بالرقابة والمحاسبة في النموذج المصرفي اللبناني هم في طليعة المتهمين أقله من محكمة الرأي العام.. وهي محكمة تحاكم بحدسها، وغالباً لا دخان بلا نار.
لا بد من إستذكار محطة لبنانية فاصلة. في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، تاريخ “الإنتفاضة اللبنانية”، “صُودف” أن جميع قادة القطاع المصرفي في لبنان من “الحاكم” إلى بقية “المتحكمين” بالقطاع كانوا في الولايات المتحدة سوية. “صودف” أيضاً أنهم قرروا مجتمعين إقفال مصارف لبنان في اليوم التالي ولمدة شهر تقريباً. هذا الفاصل الزمني (للصدفة)، هو فاصل بين ما قبل وما بعد.. مصرفياً. من بعد ذلك الإقفال الذي لم يحصل مثيله في أثناء كل حروب لبنان أو الحروب على لبنان، كتب القطاع المصرفي نهايته بيده ومن واشنطن تحديداً. صارت المصارف عبارة عن “دكنجية” أو “محلات صيرفة” بأحسن تعبير.. وحتى تعود إلى سابق عهدها (ولن تعود)، لا بد من ثقة، ومثل هذا الفاصل الزمني حتى تعود مثل تلك الثقة، سيكون كفيلاً إما بملئه من آخرين (دول أخرى في الإقليم).. وعندها “يلي ضرب ضرب ويلي هرب هرب”!
يُحيلنا هذا الأمر على شاهد آخر. لا الولايات المتحدة ولا فرنسا ولا ألمانيا ومعهم عشر دول في “العالم الأول”، وافقوا على أن يقدموا صورة جوية واحدة لمرفأ بيروت (عبر الساتلايت) في لحظة إنفجاره. كل أجهزة هذه الدول “صودف” أن أقمارها الصناعية كانت في لحظة الإنفجار غير مصوبة نحو بيروت. أما ما قبل الإنفجار وما بعده، فالصور موجودة “وبخدمتكم.. مع حبة مسك”.. ولكن ما هي الحاجة إليها وهي متوفرة وبكثرة؟
لماذا إستعادة هذه الواقعة الآن؟
خلال جلسة المحادثات المغلقة التي عقدت بين رئيسي وزراء لبنان نجيب ميقاتي والعراق مصطفى الكاظمي في بغداد، الأسبوع الماضي، بحضور مدير عام الأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم، إنبرى الكاظمي لسؤال نظيره اللبناني: “ما هي جدوى إعادة إعمار مرفأ مثل مرفأ بيروت في عاصمة تضج بأهلها والوافدين إليها كما بالسيارات والشاحنات؟ كل العواصم العالمية تتجه إلى التخلي عن المرافىء البحرية لمصلحة مدن أخرى (طرابلس وصيدا وغيرهما). أنا سمعت من الألمان (أنجيلا ميركل) ومن الفرنسيين (إيمانويل ماكرون) كلاماً من هذا النوع. قالوا لماذا لا يحوّل اللبنانيون مرفأ عاصمتهم إلى “بارك” سياحي وخدماتي وبيئي كبير لجذب السائحين.. وثمة مشروع ألماني كبير يصب في هذا الإتجاه”؟
المؤسف أن عصا العقوبات ـ عدا عن ضررها المباشر على المستهدفين وعائلاتهم ـ قد تكون وظيفتها كل شيء إلا محاربة الفساد ومحاكمة ثلاثين عاماً من الفساد والفاسدين. يمكن أن تستخدم في حروب تصفية الحسابات السياسية الداخلية في لبنان وبالتالي تؤدي إلى تعقيد وضع داخلي أصلاً هو آخذ بالتعقيد
حتماً، لا يضمر الكاظمي شراً لبلدنا، وهو الأكثر حماسة، عربياً ودولياً، لمساعدة لبنان، لكن “السمع العراقي” والهمس الفرنسي ـ الألماني يحيلنا إلى الحيثيات التي تجعل دولاً كفرنسا تتبنى مثل هذه الرؤية ربطاً بـ”النموذج” اللبناني الجديد، وهو الأمر الذي يجيز طرح السؤال الآتي: من أحضر “العبوة الناسفة” إلى مرفأ بيروت ولأي هدف وهل المطلوب سقوط النموذج اللبناني كلياً (الترانزيت في صلبه تاريخياً)، وأين أصبحت الجامعة والمدرسة والمستشفى والمطعم في لبنان إلخ..
ماذا يمنع أن يأتي أحدهم غداً للقول تعالوا نبيع مرفأ بيروت إلى شركة دولية (موانىء دبي نموذجاً) بعشرات مليارات الدولارات، وعندها “نُجدّد شباب النموذج”؟ أما ماذا تفعل “موانىء دبي” أو غيرها، فذلك أمر آخر. يسري ذلك على التنقيب عن النفط والغاز. لم يعد خافياً أنه ممنوع على لبنان أن يحفر لمجرد الإستكشاف وليس لأجل الإنتاج.. وما تقوم به شركة “توتال” في البلوك التاسع جنوباً خير دليل، من تأجيل إلى تأجيل وحتماً لن تحفر لأجل الإستكشاف لا في العام 2022 ولا في العام الذي يليه، حتى تُنجز تل أبيب كل عقودها التجارية لعشرات السنين وحتى تضمن مستقبل أجيالها، بينما يغرق لبنان حالياً وأجياله المستقبلية في بحور الفساد والفقر والإستجداء والتسول.
لست خبيراً إقتصاديا ولا مالياً. ما أكتبه مجرد إنطباعات. من وحي العقوبات الأميركية الجديدة. عقوبات توقيتها سياسي بإمتياز. إعلان بإنتهاء فترة السماح من قبل إدارة جو بايدن. تصيب أكثر من عصفور بحجر واحد. في مواجهة إستحقاقات سياسية داخلية (إنتخابات نيابية ورئاسية) وربما إستحقاقات أكبر. حالها كحال تعامل الخليجيين مع “زحطة” الإعلامي جورج قرداحي، وهو أمر لم يكن يحتاج لا إلى حملات دفاعية عنه ولا إلى إلتفات إلى كل الهمروجة الخليجية، وتحديداً الآتية من الرياض ودبي اللتين تديران ظهرهما كلياً للبنان، سواء بالقرداحي أو من دونه. هم يريدون رأس حكومة نجيب ميقاتي، لكن الأخير ليس لديه ما يغريه بأن يقدم نفسه أو حكومته كبش فداء اللاثمن سياسياً وإقتصادياً، حتى أن من حقه أن يقطع الأمل بمن رفضوا آخر محاولة فرنسية لفتح أبواب الخليج أمامه.. وأمام لبنان!
يصبح السؤال ماذا سيستفيد لبنان من هذه العقوبات الأميركية مستقبلاً؟
المؤسف أن عصا العقوبات ـ عدا عن ضررها المباشر على المستهدفين وعائلاتهم ـ قد تكون وظيفتها كل شيء إلا محاربة الفساد ومحاكمة ثلاثين عاماً من الفساد والفاسدين. يمكن أن تستخدم في حروب تصفية الحسابات السياسية الداخلية في لبنان وبالتالي تؤدي إلى تعقيد وضع داخلي أصلاً هو آخذ بالتعقيد يوماً بعد يوم مع تزاحم الإستحقاقات الداخلية وإقتراب لحظة “الحقائق الكبرى” في الإقليم، ولا سيما “لحظة ما بعد مأرب”.
لقد اصاب الأميركيون في عقوباتهم ثلاثة عناوين سياسية بحجر واحد. أن يصيبوا جميل السيد، بما ومن يُمثل فهذا أمر محسوب ومتوقع، ففي معظم اللوائح التي كان يجري تسريبها، كان يتكرر إسم هذا الرجل. أن يجري إستهداف داني خوري من بعد إستهداف جبران باسيل، فليس في الأمر ما يثير عجباً وتعجباً. ينبغي كثيراً التوقف عند معنى إستهداف المقاول جهاد العرب. هو إستهداف لسعد الحريري مباشرة. للحلقة الضيقة جداً التي تحيط به. هنا يصبح السؤال: هل ما يردده الحريري مؤخراً في حلقاته الضيقة عن نيته عدم خوض الإنتخابات النيابية في مكانه ولماذا ومن هو بديله في الشارع السني، لا سيما إذا سار ميقاتي على درب الإنسحاب من المعركة النيابية؟ هل البديل هو التطرف السني مجسداً بأحمد الأسير أم المجتمع المدني ممثلاً بإبراهيم منيمنة؟
الوضع اللبناني يزداد تعقيداً. صار سؤال الإنتخابات النيابية مُحقاً أكثر من أي وقت مضى، أما ما قاله جميل السيد اليوم في مؤتمره الصحافي، فلن يكون صداه إلا تبعاً لمن يضمر له خيراً هنا أو شراً هناك أو بين بين. أحد “الدهاة” إستل تغريدة لجميل السيد يوم فُرضت العقوبات على كل من علي حسن خليل ويوسف فنيانوس وقال فيها:”من آخرها، لن أتضامن مع فاسدين أفلسوا البلد ودمروا الدولة وأفقروا الناس حتى ولو عاقبهم عفريت أو شيطان. هم والعفاريت والشياطين حلفاء وأخوة ولو إختلفوا. بالخلاصة، هم أقرب إلى بعض من أي أحد آخر”.. وللبحث صلة.