العالم يتغيّر.. والأقطاب لا يتقاتلون مباشرة

لن تمر تجربة الغزو الروسي لأوكرانيا أياً كان شكل نهايتها مرّ الكرام عليها، ولا على روسيا الغاضبة، ولا على أوروبا التعيسة، ولا على الصين الصاعدة، ولا على أمريكا المنهكة، ولا على بقية دول العالم ونحن بخاصة.

لا أظن أن دولة من هذه الدول سوف تقف بعد الآن ساكنة أو راضية بحالها وبسياساتها الخارجية إلا العاجز تماماً منها والفاقد الأمل والمستسلم لقدره. لنا سنوات وأكثرنا من المعلقين يتابع بغير كثير اكتراث ملامح التغيُر في النظام الدولي؛ بعض هذا التغير حدث متدرجاً في أحيان فلم نلحظه وأقله فاجأنا في أحيان أخرى فاستهنا أو لم نكترث. من هذا القليل، أو آخره، غزو الروس لأوكرانيا. الآن نهتم وسوف نهتم أكثر في الأيام والشهور والسنوات القادمة، فالعالم بالفعل نراه بمجرد المشاهدة يتغير وبعض آثار التغيير صار يمس حياة الأفراد وليس الدول فحسب. لم يعد ممكناً أو مريحاً استمرار كثير من المسئولين في دول عديدة إنكار التغيير الحاصل أو الاستهانة بآثاره المباشرة وغير المباشرة على كافة الدول كبيرها وصغيرها. صدق مسئول كبير في دولة أوروبية في تصريح قبل أيام قليلة عبّر فيه عن الواقع الجديد قائلاً إن العالم الذي نعيش فيه تغيّر وعلينا أن نُغيّر سياساتنا.

***

نعم تغير العالم وفي أيام قليلة تغيرت سياسات واتخذت دول بعينها مواقف لم تكن تتخذها من قبل. مسئولون في دول أخرى رفعوا قليلاً الغشاوة عن عيونهم ليروا حقيقة ما لم يكونوا يرونه من قبل أو كانوا يرونه تحت غيمة من الإنكار وعدم التصديق أو تحت غيمة من الضغط الخارجي أو الداخلي. يرون الآن واقعاً مختلفاً ويرون بعيونهم واقع أو ملامح تغييرات قادمة في سياسات أستطيع بكثير من الجرأة أو التطاول الكتابة عن بعض منها.

***

أولاً: حصلت روسيا، صاحبة فعل التغيير هذه المرة، على حق الاعتراف بها قطباً، ثانياً أو ثالثاً، في النظام الدولي الجديد أو المعدل. أتصور أن الفعل، وهو في هذه الحالة لم يكتمل، كافٍ بما أحرزه أو تسبب فيه لتأكيد حق روسيا في أن يكون لها صوت وحق الفعل في القارة الأوروبية، ليس كدولة كبرى في الإقليم ولكن من واقع أنها قطب دولي “عائد” صاحب حق، وواجب، في المشاركة في إقامة نظام إقليمي مستقر وضامن للسلم في الإقليم وفي العالم. حجة روسيا، وستظل نموذجاً تحتذي به أي قوة صاعدة في أوروبا بحكم أحقيتها التاريخية أو بحكم وزنها في ميزان القوة الدولية والإقليمية، حجتها وهي مقنعة نظرياً، وإن كانت غير مقبولة عملياً الآن، أن النظام الإقليمي الأوروبي القائم فشل في القيام بدور فعال لضمان السلم والأمن والاستقرار في القارة العجوز. هذا النظام فشل في منع وقوع غزو عسكري من دولة في الإقليم لدولة أخرى في نفس الإقليم. فشل لأنه اعتمد على حليف من الخارج ليس بين أولوياته الدفاع عن أوكرانيا، أي الدولة الأوروبية المعرضة للغزو. بمعنى آخر، تستحق أوروبا الآن نظاماً أمنياً مختلفاً يعتمد على مكونات أوروبية محضة كالنظام الذي عاشت في ظله معظم سنوات القرن التاسع عشر.

صدق مسئول كبير في دولة أوروبية في تصريح قبل أيام قليلة عبّر فيه عن الواقع الجديد قائلاً إن العالم الذي نعيش فيه تغيّر وعلينا أن نُغيّر سياساتنا

***

ثانياً: ألمانيا تتسلح. نعرف أن ألمانيا التزمت على امتداد مرحلة نظامي القطبين والقطب الواحد بقواعد وضعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وأهمها الالتزام بعدم تسليح ألمانيا وعدم السماح لها بتسليح نفسها. نعرف أيضاً أنها بفضل هذه القواعد حقّقت معجزة اقتصادية وسياسية سواء في بناء الدولة الألمانية الموحدة ورفيعة المستوى الصناعي أو في تنفيذ مشروع الوحدة الأوروبية. الآن يتغير الوضع من جذوره. الدول المنتصرة في الحرب العالمية وصاحبة قواعد العمل المعمول بها في النظام الدولي والتي تبنتها هي نفسها صارت تتخلى بدون خشية أو رهبة عن التزامها بتلك القواعد. أمريكا تخلت مراراً عن هذا الالتزام عندما شنّت غزوات متكررة على دول أخرى إثباتاً لحقها في أنها أصبحت القطب الأوحد في نظام دولي مختلف عن نظام القطبين. أما أن تفعل روسيا الآن الشيء ذاته فهذا تطور يعني للألمان وغيرهم أحد أمرين؛ أولهما، أن النظام الدولي ذا القطبية الأحادية بالفعل يتغير ولم تعد قواعد عمله، التي هي قواعد عمل النظام السابق، محل التزام القوى العظمى كافة. وثانيهما، أن فراغ القوة في النظام الإقليمي الأوروبي صارت له قوة جذب صعبٌ جداً على روسيا مقاومتها؛ روسيا هذه القوة المجاورة والكبيرة والمتطلعة للاستفادة من التغيير، برغم أنها كانت في القرن التاسع عشر القوة الأوروبية الأكثر محافظة والمعادية للتغيير باستثناء المرحلة البلشفية، وفي ظني أنها تعود. لو صح هذا المعنى، علينا أن نتوقع خلال الفترة القادمة سباق تسلح بين دول أوروبا يقوي من ساعد احتكارات السلاح العملاقة ويضاعف من نفوذها السياسي. علينا أن نتوقع في الوقت نفسه زيادة في وتيرة صعود التيارات والزعامات الشعبوية في أوروبا.

***

ثالثاً: درس للصين. لفت نظري ونظر كثيرين التغيرات في السلوك السياسي للصين مرتين على الأقل في الأسابيع الأخيرة، كانت المرة الأولى عندما قرأت بعناية ما تعمدت الصين النص عليه في وثيقة البيان الصادر بمناسبة اجتماع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينج في بكين عشية إطلاق شرارة أنشطة الأولمبياد الشتوي. وكانت المرة الثانية عندما امتنعت الصين عن التصويت على قرار في مجلس الأمن يدين تصرفات روسيا وغزوها لأوكرانيا. لم تستخدم الصين حق النقض. حدث هذا على الرغم من موقفها الناعم المؤيد بتحفظ لروسيا خلال الساعات الأولى من الغزو. يجب أن أذكر هنا أنها ربما أصابها بعض الارتباك تحت ضغط التطورات في أوكرانيا وأوروبا بشكل خاص. إن صحّ وجود ارتباك فلن يطول لأن الصين معرضة أكثر من أي وقت مضى لاتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بمستقبلها وربما بمستقبل العالم كله.. بكلمات أخرى الصين في ظروف عالم اليوم لا تملك رفاهية الارتباك والتردد في المواقف.

قد تثبت السنوات القادمة أن الصين خرجت المستفيد الأكبر من غزو روسيا لأوكرانيا. لا شك في أن تطورات الغزو كانت من نواحٍ متعددة درساً للصين خلال تجارب صعودها إلى القمة الدولية منفردة أو مشاركة. لا مهرب للمحلل السياسي من انحيازه لفكرة الشبه بين أوروبا من ناحية وجنوب شرق آسيا من ناحية أخرى في علاقتيهما بالقوة الكبيرة الرابضة في الجوار القريب، روسيا بالنسبة لأوروبا والصين بالنسبة لجنوب شرق آسيا. لا أظن أنه يهم قادة الصين كثيراً أو قليلاً أن تصعد روسيا من غياهب الإنكار أو الإهمال الغربي إلى موقع قطب دولي ثان أو ثالث فالمهم أن لا تنافسها في صعودها للموقع الأول الذي تصبو إلى احتلاله ولو بعد حين. وأظن أن روسيا بتصرفها تجاه أوكرانيا خاصة والعالم الخارجي برد فعله المتأخر والمتردد والضعيف كلاهما منحا الصين رخصة هامة يمكن أن تستخدمها عندما تقرر استعادة تايوان إلى الوطن الأم تاريخياً وقومياً. يمكن أيضاً أن تتعظ منها كدرس لعدم الانجرار وراء الأساليب الامريكية التي “جرجرت” روسيا إلى فخ الأزمة في أوكرانيا.

أخشى ما أخشاه، أنا وكثيرون في العالم النامي، أن تفلح السياسة الأمريكية الساعية حالياً لتحجيم روسيا وإعادتها إلى الموقع الذي رسمته لها في عهد الرئيس بوريس يلتسين، عندئذ تخلو الساحة تماماً من قوة بيضاء تنافس أمريكا فتتفرغ هذه الأخيرة لفرض هيمنتها كاملة على البشر كافة وفي مقدمتهم الصين

الثابت الوحيد والمؤكد في واقع العلاقات الدولية هو أن الدول العظمى، سواء كانت أقطاباً فاعلين أو أقطاباً صاعدين أو أقطاباً عائدين، لم تتقاتل مباشرة حتى في أشد حالات التوتر أو في أخطر الأزمات. لم تتقاتل روسيا وأمريكا أثناء الحرب الكورية في عقد الخمسينيات، وأشك أن الصين لن تتدخل الآن أو في المستقبل لو تكررت الحرب الكورية بطرفيها الكوريين والولايات المتحدة. وقتها لم تكن الصين قطباً يُحسَب له حساب. الآن الصين قطب صاعد ولن يعطي منافسيه فرصة لزجه في حرب تعطل صعوده. لن يخطئ الرئيس شي خطأ الرئيس بوتين. لم يتقاتل القطبان الدوليان، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، عندما نشبت أول أزمة شديدة بينهما حول بناء حائط برلين أو عندما جربت روسيا إقامة حائط صواريخ في كوبا على بعد أميال معدودة من ساحل فلوريدا أو عندما دخلت القوات الأمريكية إلى أفغانستان أو قبلها خلال حرب الوكالة التي شنتها أمريكا ضد القوات السوفييتية المنسحبة منها. وأخيراً لم يتقاتلا حتى الآن على الأقل من يوم بدأ فيه غزو روسيا لأوكرانيا، وأظن أنهما لن يتقاتلا حتى يوم يخرج فيه أحدهما أو كلاهما من سباق القطبية.

إقرأ على موقع 180  هل يَشُلّ "التعايش الحكومي" ولاية ماكرون الثانية؟

يجب ألا نغفل حقيقة هامة وهي أن روسيا موجودة الآن في الشرق الأوسط وبخاصة في قلبه. روسيا، سواء خرجت من هجمتها الحالية أضعف قليلاً أو خرجت أقوى قليلاً، لن تتخلى عن مواقع انتشارها في الشرق الأوسط بعد أن صارت هذه المواقع مصادر قوة معتبرة للسياسة الخارجية الروسية. الواضح أن هذه المواقع  لم تُمس بالضرر نتيجة أحداث الغزو الروسي لأوكرانيا بل على العكس بثت تطورات الغزو روحاً جديدة في بعض دول المنطقة مثل إسرائيل وتركيا اللتين ذهبتا بعيداً في تصورهما إمكان أن تلعبا أدواراً في لعبة لعلها من أخطر ألعاب الحرب والسلم في العصر الحديث.

***

رابعاً، عالمنا النامي: نخطئ لو سايرنا البعض من أقراننا في العالم النامي وبخاصة في الشرق الأوسط ورحنا “نكنس” غضب شعوبنا على أمريكا والغرب ونخفيه تحت السجادة. حدث خلال هذه الأيام الأخيرة الكئيبة أن تأكدت شعوب كثيرة ملونة بشرتها بلون غير الأبيض أن الصراع المرير الناشب منذ قرون بين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة غير البيضاء يهدد بالانفجار مجدداً في اللحظة التي يتوحد فيها بيض الوجوه تحت قيادة من بني جلدتها. أخشى ما أخشاه، أنا وكثيرون في العالم النامي، أن تفلح السياسة الأمريكية الساعية حالياً لتحجيم روسيا وإعادتها إلى الموقع الذي رسمته لها في عهد الرئيس بوريس يلتسين، عندئذ تخلو الساحة تماماً من قوة بيضاء تنافس أمريكا فتتفرغ هذه الأخيرة لفرض هيمنتها كاملة على البشر كافة وفي مقدمتهم الصين باعتبارها قوة غير بيضاء مرشحة لقيادة شعوب العالم الملون ضد هيمنة الرجل الأبيض. لا شك أن وجود أقطاب منافسة من نفس اللون يخفّف بعض الشيء من وقع الصراع إن احتد مجدداً أو انفجر. المثال البارز أمامنا هي المعاملة التي يلقاها اللاجئون من أوكرانيا في بلاد أوروبية سكانها بيض البشرة مقارنة بما يلقاه لاجئون لجأوا من قبل من إفريقيا والشرق الأوسط وأواسط آسيا أو وصلوا حديثاً جداً في ركاب لاجئين بيض من أوكرانيا وغيرها. أنظر أيضاً واقرأ وأتمعن في مواقف واتجاهات شعوب في إفريقيا وآسيا ومعظم أمريكا الوسطى والجنوبية تجاه التطورات الأخيرة في الأزمة الأوكرانية وحملة أمريكا لحشد الرفض للتدخل الروسي في شئون شعب آخر كما لو كانت أغلب دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة لم تمارس عنفاً أشد ومعاملة أسوأ خلال جميع مراحل استعمار الرجل الأبيض لثروات وأراضي وشعوب العالم غير الأبيض. بعض هذه الدول وشركاتها ما تزال تمارس هيمنتها بأساليب مختلفة وتحت عناوين أحدث.

لا سبيل أمامنا لتوقع عالم أفضل في قريب الأيام إلا بتغيير جذري في هيكل النظام الدولي القائم بما يسمح بصياغة عقد عالمي جديد يعتمد العدالة والمساواة بين كل البشر أساساً له وعقيدة

***

حتى الآن وعلى ضوء ما وقع ويقع لأوكرانيا، وعلى ضوء ما تسببت فيه بإرادتها الحرة أو تحت ضغط وغواية إرادة خارجية، لا سبيل أمامنا لتوقع عالم أفضل في قريب الأيام إلا بتغيير جذري في هيكل النظام الدولي القائم بما يسمح بصياغة عقد عالمي جديد يعتمد العدالة والمساواة بين كل البشر أساساً له وعقيدة. لا بد من نهاية لعصر الحروب والأزمات حتى لو كانت حروباً بين البيض بعضهم البعض. قرأنا خلال الأيام الأخيرة، حتى الملل، عشرات أو قل مئات التعليقات في أمريكا وأوروبا تتحدث عن الحروب الأوروبية على امتداد قرون وعن الحربين العالميتين وعن أزمات بين الغرب والسوفييت والروس. ليس من تعليقات كثيرة تذكرت حروب الاستعمار الغربي في الهند والصين وإفريقيا ثم أزماته مع العرب والهنود الحمر، باعتبار أن حروب البيض مع غير البيض لا تحسب فغير البيض شعوب غير متحضرة. غزو الإسرائيليين المستمر بلا هوادة لفلسطين غير محسوب في سجلات حروب البيض والكثير من عمليات الإبادة لغير اليهود لا يسجلها تاريخ الحضارة.

***

أوكرانيا، كم من تاريخ منسي وحاضر لم يُرصد عُدنا بفضل أزمتك ننبش التراب عنه ومن حوله، لنكتشف هول كارثة تتجاوز عذاباتها في قسوتها المتاعب التي أصابت قادتك وشعبك.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  روسيا الكبرى.. أمنها الإقليمي أو الأوروبي؟