هكذا تلوح في الأفق صورة لعالم تنزاح فيه مقومات القدرة من الغرب الأطلسي إلى الشرق الآسيوي، في ظل صعود الصين وتأكيد القوى الإقليمية على أولوية مصالحها ودورها في رسم عالم جديد متعدد الأقطاب. وقد يكون هذا المعنى الجيوسياسي العميق لعلاقة التفاعل بين القمّتَين، بالنظر إلى المشاكل التي طُرحت فيهما، وفي مقدّمها الدور الروسي والصيني في الشرق الأوسط، وأزمة النفط والغاز المرتبطة بالعقوبات على روسيا بسبب حرب أوكرانيا، والموقف من إيران ومحاولة إدماج إسرائيل أمنياً بالمنطقة وسط تراجع موجة التطبيع.
الرسالة التي حملتها قمة جدة تقول إن الشراكة الاستراتيجية لا تعني التبعية للشريك الأميركي الذي لا يمكنه التحكم بالعلاقة العربية بروسيا والصين، أو فرض حسابات إسرائيلية على عالم عربيٍّ أخذ يستعيد عنفواناً مفقوداً منذ الثورة الناصرية وعاصفة حرب تشرين 1973. وتأتي قمّة طهران لإكمال الرسالة من خلال التأكيد أن المجال الإيراني/التركي محكوم بتفاهمات وتسويات مع اللاعب الروسي الكبير الذي يتعين عليه مراعاة مصالح إيران وأنقرة في أوراسيا القارّة النابضة بالحيوية والثروة والتدفق المالي.
لقد تُوّجت أعمال قمّة جدّة، بحسب الوقائع المتداولة بفشل أميركي في الحصول على موافقة عربية على محورٍ أمني إقليمي تقوده إسرائيل في مواجهة إيران، وخلافاً لذلك فقد اختارت السعودية بدعم من مصر والعراق والأردن طريق الحوار للتعايش مع إيران. ويبدو أن المطلب الأميركي المُلح في شأن زيادة إنتاج الغاز والنفط للجم الارتفاع الجنوني للأسعار العالمية، قد تحوّل إلى آليات ضبط سعوديّة/روسيّة في إطار “أوبك +”.
الرسالة التي حملتها قمة جدة تقول إن الشراكة الاستراتيجية لا تعني التبعية للشريك الأميركي الذي لا يمكنه التحكم بالعلاقة العربية بروسيا والصين، أو فرض حسابات إسرائيلية على عالم عربيٍّ أخذ يستعيد عنفواناً مفقوداً منذ الثورة الناصرية وعاصفة حرب تشرين 1973
مفارقات الارتباط
وكان لافتاً للإنتباه في قمة طهران مستوياتها المتعددة للتداول والتفاوض، وذلك لتنوع سياسات أقطابها فضلاً عن توسع هامش المناورة والمساومة لديهم في ما يشبه منظومة تعددية تتطلع للمستقبل.
وركّزت قمة طهران على آلية آستانة لإدارة الأزمة السورية التي يبدو أن تفعيلها مجدداً عقب فترة من الجمود، أسفر عن إعادة ضبط التوازنات على الساحة السورية ووضع ضوابط للتحركات العسكرية التركية وسط تحذيرات إيرانية موجهة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوجوب التزام التهدئة. وفي الأثناء، دار حوار “حميم” بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمرشد الإيراني علي خامنئي، تناول ـ حسب مصادر روسية ـ اتجاهات العمل في أوراسيا وآفاقها المستقبلية. وشدّد المرشد الإيراني في سياق الإشادة بسياسات بوتين في مواجهة حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، على أهمية مقاومة الصهيونية.
ومثلُ هذا الحوار في إطار علاقة الارتباط الإيرانية ـ الروسية يثير مسألتين، الأولى هي تجاوز حالة الريبة وعدم الثقة المتبادلة منذ عهد القياصرة، والتي تتجلى في الخلاف على الحقوق والحصص في حوض بحر قزوين حيث يُمنع على إيران حتى الآن إنزال بواخر تجارية أو عسكرية.
المسألة الثانية هي التحوّل في العلاقات الروسية – الإسرائيلية عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، والتقاطع إلى درجة التواطؤ بين التموضع العسكري الروسي في سوريا، والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة تحت غطاء وقف التمدّد الإيراني ومنع وصول الأسلحة الكاسرة للتوازن مع إسرائيل. وفي هذا السياق، أتصوّر أن الحوار الروسي ـ الإيراني بات مفتوحاً على الرهان على تغيّرٍ ما في العلاقة الإسرائيلية ـ الروسية على خلفية الحرب الطويلة في أوكرانيا وانحياز تل أبيب إلى جانب حكومة كييف.
مسألة أخرى تنطوي عليها مفارقات قمّة طهران، هي مدى استقرار الموازنة التركية بين العضوية في حلف شمال الأطلسي من جهة، والاستقطاب الأوراسي الذي تطغى عليه القدرة الروسية من جهة ثانية. واقع الحال يفيد بأنه حتى إشعار آخر، يمكن لهذا التموضع التركي الفريد والخطر في آنٍ معاً، أن يُمثّل عامل ضغط لمصلحة الاستراتيجية الإقليمية لتركيا بالنظر إلى نفوذها الواسع لدى الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، كما أنه يفيد رهان بوتين على شريكٍ أو حليف مؤقت عابر للحدود الأطلسية، هذا فضلاً عن التخفيف من وطأة الضغوط الغربية التي تفعل فعلها في الأزمة الاقتصاديّة والماليّة الخانقة في تركيا. وبالفعل تمكن أردوغان بفضل حنكته السياسية التي تتمحور حول “العثمانية الجديدة” من التوسط لتوقيع اتفاق بين موسكو وكييف لنقل مخزون الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود.
إذا كان الترابط الدولي في قطاعَي التجارة والمواصلات، يُعتبر وسيلة لممارسة النفوذ الإقليمي في أوراسيا، فإن إيران تملك فرصاً في أوراسيا لتوسيع نطاق تأثيرها نحو آفاق جديدة
فرص أوراسية
ثمّة جانبٍ جيواقتصادي وجيواستراتيجي شديد التعقيد في علاقة الارتباط الروسيّة ـ الإيرانيّة، إذ تُدرك طهران أن روسيا تُمثّل محوراً حيوياً في التوازن الأوراسي التي ترغب إيران في أن تكون جزءاً منه، مثلما يفترض “التوجّه نحو الشرق” الذي بات يقود سياستها الخارجية. ويتطلب هذا الخيار أن تعمل طهران لتحسين قدرتها على المساومة مع موسكو التي تُفضّل بدورها قطع الطريق على تحوّل الاتحاد الأوروبي نحو إيران لتنويع واردات الطاقة الأوروبية بمعزل عن روسيا، والحؤول دون التسويق لممرّ النقل الدولي بين الخليج الفارسي والبحر الأسود، والذي ينطلق من الموانئ الإيرانيّة عبر أرمينيا وجورجيا ثمّ البحر الأسود وصولاً إلى البرّ الأوروبي. وإذا كان الترابط الدولي في قطاعَي التجارة والمواصلات، يُعتبر وسيلة لممارسة النفوذ الإقليمي في أوراسيا، فإن إيران تملك فرصاً في أوراسيا لتوسيع نطاق تأثيرها نحو آفاق جديدة، والتموضع وسط عمليات انتقالية طويلة الأجل اقتصادياً وسياسياً.
كذلك يمكن موسكو أن تستخدم التقاطع بين المصالح الإيرانيّة والروسيّة لتجني منه فوائد تخدم سياساتها. وقد جرّبت هذا التكتيك عندما حاولت ربط المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي للعام 2015، أو “خطة العمل المشتركة الشاملة”، بإعفائها من العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا. وقد طالب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في آذار/مارس الماضي بتعهدات أميركية بأن تشمل عملية إحياء الاتفاق النووي مع إيران، ضمانات لإعفاء التجارة الروسيّة/الإيرانيّة من العقوبات. لكنّ الرفض الشديد الذي أبداه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته لموسكو في 15 آذار/مارس الماضي في شأن ربط الاتفاق النووي بالحرب في أوكرانيا، لم يترك أمام روسيا سوى خيار تجنّب النظر إليها بأنها تتسبّب في تعطيل إعادة إحياء الاتفاق النووي.
محادثات قمّة طهران تزامنت مع اتفاق وقعته شركة “غازبروم” الروسية للاستثمار في صناعة النفط الإيرانية بمبلغ 40 مليار دولار، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان صفقة صينية – إيرانية في هذا المجال تبلغ قيمتها 400 مليار دولار، من دون أن ننسى التذمر الإيراني الخفي إزاء المنافسة الروسية في تصدير موارد الطاقة إلى الهند والصين بأسعار متدنية.
ترميم النظام الإقليمي
وإذ سريعاً إلى مربط الخيل العربي في قمة جدّة، نرى أن وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تمكّن من استدراج الرئيس الأميركي جوزف بايدن إلى “منازلة” كشفت ضعف الشريك الأميركي أمام وحدة الموقف العربي بين دول مجلس التعاون ومصر والعراق والأردن، وذلك وسط الانطباع العام بأن لا إستعداد عربياً للابتعاد عن الصين وروسيا، كما أن لا مصلحة عربية في انتهاج خيار التصعيد مع إيران.
ليس واضحاً ما إذا كان في الإمكان الرهان على تماسك هذا التكتل العربي الإقليمي واستمراريّته مدخلاً لإعادة ترميم النظام الإقليمي العربي، لكن الأكيد أن هناك نبرة جديدة لم تكن متوقعة في الخطاب الرسمي العربي.
غياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة لدى الرئيس الأميركي والفريق العامل معه لم يساعدهما في إدراك حقيقة أن دول المنطقة العربية تتصرّف بناءً على أولويّاتها، وهو الأمر الذي ينفي الاعتقاد أن الشرق الأوسط هو مجرّد ساحة مفتوحة أمام تجاذبات القوى الدولية الكبرى، وبالتالي لا يمكن التغاضي عن دور القوى الإقليمية في التأثير في سير الأحداث سواء داخل المنطقة أو خارجها. ومن هنا فإنّ نتائج جولة بايدن الأولى في المنطقة تعزّز الفكرة أن القوى الإقليمية قادرة على التصرف وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة عندما تتعارض هذه المصالح مع أهداف الولايات المتحدة.
وقد تجلّى ذلك بصورة واضحة في عودة بايدن إلى واشنطن من دون الحصول على وعود جدّية من دول الخليج بشأن زيادة إنتاج النفط، فضلاً عن نفي السعودية رسمياً أن يكون قرار فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيليّة المدنيّة مقدمة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وأصبح واضحاً أن القوى الإقليميّة العربيّة لا تريد الانخراط في تحالف أمني إقليمي ضدّ إيران تشارك فيه إسرائيل، بل تُفضّل الجلوس على طاولة المفاوضات مع إيران، مثلما هي حال المحادثات السعوديّة ـ الإيرانيّة المتواصلة في بغداد بغية التوصل إلى صيغة للتعايش وتنظيم الخلافات.
نتائج جولة بايدن الأولى في المنطقة تعزّز الفكرة أن القوى الإقليمية قادرة على التصرف وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة عندما تتعارض هذه المصالح مع أهداف الولايات المتحدة
لا مصداقية أميركية
ويبدو أن تراجع بايدن عن قراره مقاطعة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، مردّه إلى ثبات دور السعودية لاعباً إقليمياً قادراً على إرساء ترتيبات سياسية مع إيران وكذلك مع دول المشرق العربي في شأن التطبيع مع النظام السوري، وعلى تجنّب توقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل ما دامت الدولة اليهودية تُعرقل التقدّم نحو تطبيق حلّ الدولتين وتمارس سياسة التمييز العنصري مع الفلسطينيين.
ومع أن بايدن لمّح في محطته الإسرائيليّة إلى حقوق الشعب الفلسطيني داعياً إلى محاسبة المسؤول عن مقتل الصحافية الفلسطينيّة الأميركيّة شيرين أبو عاقلة، فإن هذه التصريحات بدت فاقدة للمصداقية لصدورها عقب توقيع “إعلان القدس بشأن الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل” الذي يُلزم واشنطن بمعارضة الجهود الفلسطينيّة الديبلوماسيّة والقانونيّة في الأمم المتحدة وفي المحكمة الجنائيّة الدوليّة، ومقاومة جهود منظّمات المجتمع المدني الرامية إلى محاسبة إسرائيل عن انتهاك حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة.