“طوفان الأقصى” يُغرق إسرائيل في “سبت أسود”

خطوة جبّارة، لا بل استراتيجية، أن تنتقل المقاومة الفلسطينية من الدفاع إلى الهجوم وأن تُسيطر على مواقع عسكرية ومستوطنات تحوطها معسكرات من كل حدب وصوب. هذا تطورٌ غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني مع إسرائيل.

السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تاريخ يُعيد الى الأذهان حرب السادس من أكتوبر في ذكراها الخمسين، مع فارق أن عبور الجيشين السوري والمصري في العام 1973 تمّ على أيدي جيوش تمتلك كل القدرات والأعداد التي تُؤهّلها لخوض الحرب. أما أن تُقدم عليها فصائل المقاومة الفلسطينية، فهذا إنجاز يحتاج إلى جرأة في القرار وإتقان في التخطيط والتنفيذ.

قرار العملية.. نقلة نوعية

يمكن الإفتراض على نحو معقول أن ما أقدمت عليه فصائل المقاومة الفلسطينية هو وليد قرار تم إنضاجه بعد مشاورات واسعة في الداخل والخارج. ذلك أن قيادة المقاومة في غزة تدرك بحكم تجربتها الطويلة ما سيترتب على هذه العملية من نتائج عسكرية واستراتيجية. وإضافة الى الإمكانيات التي ينبغي توفيرها لاستمرار المعركة إلى وقت طويل ربما، عليها أن تتأكد مسبقاً من أن هذه الخطوة ستتم تغطيتها من قبل محور المقاومة بطريقة أو بأخرى حتى لا يتمكن العدو لاحقاً من الإستفراد بقطاع غزة المحاصر أصلاً. ولقد ألمح القائد العام لـ”كتائب القسّام” محمد الضيف لاستناد المقاومة الفلسطينية إلى ظهر “المحور” عندما توجّه إلى “إخواننا في المقاومة الإسلامية في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا”، مؤكداً أنّ “هذا اليوم هو اليوم الذي ستلتحم فيه مقاومتكم مع أهلكم في فلسطين”.

لقد بلوّرت المقاومة بمختلف فصائلها خلال الفترة الماضية مفهوم “وحدة الساحات”، وتُرجم من خلال تشبيك القدس مع الضفة وغزة، ومن خلال ترابط المقاومة في فلسطين مع المقاومة في لبنان والمنطقة. ووفّر ذلك تغطية ميدانية حدَّت من حجم الإعتداءات الاسرائيلية في القدس والضفة وغزة، وإن لم تردعها تماماً. وقد تعمّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مؤخراً أن يظهر في صورة تجمعه مع القيادي في حركة “حماس” صالح العاروري الذي يُنظر إليه إسرائيلياً  على أنه الموجِّه للعمليات في الضفة الغربية، والأمين العام لـ”حركة الجهاد الاسلامي” زياد النخالة، في رسالة تحدٍّ للتهديدات الإسرائيلية بالنيل من رموز المقاومة المقيمين في لبنان.

وربما تكون النقلة الجديدة للمقاومة في غزة باتجاه مستوطنات العدو ومواقعه المحاذية للقطاع بداية مرحلة جديدة تترك بصماتها على أداء محور المقاومة في الصراع مع العدو. وتكتسي هذه النقلة أهمية خاصة من خلال الحاجة إلى كسر رتابة الهدنة والإنتقال إلى موقع الهجوم وردّ الحصار المتمادي عن فلسطين ولبنان وسوريا وايران واليمن، إضافة الى دفع مشاريع التطبيع إلى الأدراج.

وتلتقي خطوة اجتياح مستوطنات “غلاف غزة” مع التصور الذي وضعه “حزب الله” للسيطرة على الجليل الفلسطيني الأعلى في أي حرب مقبلة، مما يشير إلى أن المقاومة بمختلف تشكيلاتها إنتقلت في مستوى التخطيط إلى مراحل متقدمة مع حشد الإمكانات الضرورية لذلك.

المفاجأة.. بقيادة الضيف 

شكّلت عملية إقتحام مستوطنات العدو المواجهة لقطاع غزة مفاجأة صادمة لم تستوعبها قيادات الإحتلال لساعات عدة. فبرغم التحذيرات الأمنية التي سبقت الأعياد اليهودية بأن هناك تهديدات للأمن الإسرائيلي وترافقت مع اجتماعات عسكرية- سياسية رفيعة المستوى “تحسباً لمواجهة عسكرية واسعة ومتعددة الجبهات”، فإن المبادرة الفلسطينية فاقت التصورات الإسرائيلية بأشواط. ويمكن أن تُعدّ هذه المفاجأة في حد ذاتها إنتصاراً مدوّياً، بصرف النظر عما سيليها من أحداث، ذلك أن إخفاء الإستعدادات للهجوم عن أعين العدو وأجهزته المختلفة بالرغم من مشاركة آلاف المقاتلين فيها براً وجواً (طائرات شراعية) وبحراً (زوارق) يستدعي احتياطات واسعة جداً لتوفير عناصر النجاح لها. وقد تم توقيت الهجوم في صبيحة عطلة السبت اليهودية، وتبينَ أن الكثير من الجنود كانوا نائمين في قواعدهم أو باللباس الداخلي، ولم تتمكن المعسكرات المزروعة حول المستوطنات من الصمود، كما تأخر الطيران الحربي في التدخل لا سيما مع تداخل الأوضاع على الأرض وصعوبة تمييز المقاتلين من الجانبين.

وعبّر موقع “والا” العبري عن هذه الحقيقة بالقول: “لقد انتصرت حماس بالفعل في هذه الجولة. إن حقيقة أن التنظيم تمكن من مفاجأة أفضل المخابرات وأكثرها خبرة في العالم والإستهزاء بأقوى نظام أمني في الشرق الأوسط، وأنه تمكن من السيطرة على الحدث لساعات طويلة، لن تُمحى من أذهان اللاعبين في المنطقة”. كما أشارت المراسلة العسكرية للإذاعة العبرية كارميلا مناشيه إلى أن  محمد الضيف “قاد عملية تضليل مذهلة، فكل تقديرات الإستخبارات الإسرائيلية كانت تشير إلى أن حماس لا ترغب بالتصعيد”.

التنفيذ.. بالصوت والصورة! 

على المستوى الميداني، إتسمت العملية بتخطيط أدهش المراقبين، القريب منهم والبعيد. فقد تم التمهيد لها بقصف صاروخي مكثف بلغ – وفق إعلان محمد الضيف – نحو خمسة آلاف صاروخ بلغ بعضها القدس وتل أبيب. وربما اعتقد العدو للوهلة الأولى أنها تندرج في سياق رد فلسطيني مألوف على الإنتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى والإقتحامات في الضفة الغربية. ثم تتالت بعدها موجات من المقاتلين على متن دراجات نارية وسيارات “بيك آب”، فضلاً عن المشاة الذين قاموا بنسف السياج الأمني الفاصل بالمتفجرات ومن ثم اقتحام النقاط الإسرائيلية المتقدمة قبل الدخول إلى المستوطنات في حركة سريعة ومباغتة. كما تم استخدام طائرات شراعية وزوارق بحرية للتمويه والإلهاء عن العملية البرية. وما يؤشر إلى التخطيط الجيد للعملية هو استمرار التواصل على الأرض بين المقاتلين المتقدمين والتعزيزات في الصفوف الخلفية، في شكل يفيد بأن الهدف ليس السيطرة السريعة وقتل جنود ثم الإنسحاب، وإنما تحقيق سيطرة لأطول وقت ممكن بهدف إذلال العدو أمام مستوطنيه وتشكيل معادلة ردع فلسطينية قوية. كما لوحظ العمل السريع على نقل عشرات الأسرى وما تيسَّر نقله من الغنائم إلى الخطوط الخلفية، في شكل أمّن للمقاومة سلاحاً هاماً للتفاوض من أجل إطلاق آلاف الأسرى الفلسطينيين في المستقبل. ويمكن القول إن وفرة عدد الأسرى من العسكريين والمستوطنين ستتيح للمقاومة بأن تكون في موقع قوة يسمح لها بفرض كلمتها على العدو في هذا المجال.

إقرأ على موقع 180  زيارة غروسي إلى طهران.. أزمة جديدة أم تفاهمات جديدة؟

وما زاد من مفعول عملية المقاومة الفلسطينية أنها ترافقت مع توزيع أذرعتها الإعلامية صور النجاحات داخل المستوطنات والمواقع العسكرية، متيحةً بذلك مشاهدة تفاصيل ذات أهمية بالغة، وساهمت “السوشيال ميديا” في انتشارها. وقد وفّر ذلك زخماً هائلاً لصورة الإسرائيلي المهزوم.

كيّ الوعي الإسرائيلي 

صنّف رئيس وزراء الإحتلال بنيامين نتنياهو العملية الفلسطينية الكبيرة بأنها “حرب وليست معركة أو جولة”، وتمت الدعوة إلى تعبئة واسعة لقوات الإحتياط، ما يؤشر إلى أن الوضع سيتطور مع الوقت، خاصة مع هذه الضربة المُدمِّرة لصورة الردع الإسرائيلي ووجود عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين الذين سيشكلون أزمة في الوعي الإسرائيلي العام، في وقت لم يُشفَ هذا المجتمع من آثار استمرار أزمة أسرى حرب 2014.

وأياً يكن ما ستفعله إسرائيل بعد هذه العملية، ستبقى الصور المُذلة لهيبتها وقوة ردعها ماثلة في وعي مستوطنيها وعسكرييها ولن يتمكنوا من محوها لسنوات طويلة، تماماً كما حصل بعد حرب 1973: صور الأسرى الإسرائيليين وهم يُسحبون من آلياتهم ومواقعهم إلى داخل قطاع غزة، القتلى بالعشرات مُمددين على الأرض في المواقع العسكرية، الهروب الجماعي للمستوطنين من تجمعاتهم مشياً على الأقدام في أجواء رعب ملحمية. هذه عملية كيّ وعي كاملة للإسرائيليين الذين يختزنون ذكريات الأسر و”الخروج من الديار” عبر التاريخ.

فعلاً إنه “سبت أسود” إسرائيلي.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أزمة الذات الإمبراطورية.. فقدان المرجعية وأزمة التبعية