خبرتي الطبية في غزة.. يومَ مارستُها في لندن!

"سرديّة الجرح الفلسطيني - تحليل للسياسة العضوية الإسرائيلية"، هو كتاب من تأليف الطبيب الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة والكاتب اللبناني ميشال نوفل، صدر في العام 2020 عن دار رياض الريس للكتب والنشر، وفيه تختلط التجربة بالفكرة والجرح بالثورة والإغاثة بالحياة. ينشر موقع 180 بوست فصولاً من هذا الكتاب، لمناسبة الحدث الفلسطيني التاريخي الذي تعيشه غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، اليوم الذي شهد عملية "طوفان الأقصى".

“في بداية الانتفاضة الثانية في سبتمبر/أيلول 2000، قرّرت العودة إلى غزّة بعدما أخذت كل إجازاتي دفعة واحدة لمدة أسابيع.

كانت مرحلة قاسية جدّاً بسبب وجود المستوطنات الإسرائيلية داخل غزّة، وكان الأطفال يتظاهرون ضدّ المستوطنات ويتعرّضون لإطلاق النار عليهم بغزارة على طريقة “الرش”.

يومها عملت في مستشفى ناصر في خان يونس. ولأن عائلتنا عندما انتقلت من بئر السبع في الـ1948 إلى مخيم خان يونس فضّلت أن أكون هناك. وخلال عملي في المستشفى اكتشفت أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) يسمح بتغطية مصاريف أخصائي فلسطيني من الخارج يعمل في مؤسسات فلسطينية بالداخل.

وفي الشهر الثاني عشر من السنة 2000 تزوجت، وبعدها بأشهر عدتُ إلى غزّة لتمضية 6 أشهر عملت خلالها في مستشفى العودة، وهو المستشفى الذي أنشأته لجان العمل الصحّي بمخيم جباليا لعلاج إصابات الانتفاضات. وكانت هذه أطول فترة من حياتي أمضيتها في فلسطين، وتحديداً في القطاع حيث تسكن عائلة زوجتي وأعمامي أيضاً، وأنا قرّرت الإقامة في منزل عمّي وكنت أذهب لمستشفى العودة وأعود منها يوميّاً.

تفكيك رصيد الانتفاضة

هناك أمور معقّدة يتعيّن التوقف عندها في المرحلة الملازمة للانتفاضة الثانية وظهور ما يسمى “طبقة أوسلو” في المجتمع الفلسطيني في ضوء عملية التدمير التي عملت تفكيكاً في رصيد الانتفاضة. الغريب في الانتفاضة الثانية هو المرحلة التي شهدت العسكرة والعمليات الموجهة ضد المستوطنين الإسرائيليين خاصة في قطاع غزّة، ومن ثم العمليات الاستشهادية التي حصلت في الوقت نفسه في غزّة؛ كانت ثورة مؤلمة أكثر للإسرائيلي من الناحية العسكرية ولكن خالية من أي مضمون فلسطيني داخلي، إذ لم يكن هناك التعبئة الكافية التي عرفتها الانتفاضات سابقاً، فضلاً عن بروز التناقض الصارخ بين “طبقة أوسلو” التي تعيش حياتها بالطول والعرض وبين الذين اختاروا أن يواجهوا الإسرائيليين بدمهم سواء من التنظيمات الوطنية الفلسطينية أو من حركة حماس وغيرها. كانت هذه الحالة محبطة جدّاً لأنه كانت هناك فئة منغمسة في حرب مع الإسرائيليين ومستهدفة بالاغتيال وبالقتل أو الإصابة نتيجة عملها الفدائي، وفئة أخرى لها “مزايا أوسلو” كأن شيئاً لم يتغيّر!

في ليلة من الليالي وكانت أزفّت الساعة الثالثة والنصف فجراً اتصل صديق يدعى قاسم كفارنة وقال لي جهّز نفسك وسوف يأتي أحدهم ليستقلّك لأن شقيقاً لصديق لي قد أُصيب وأرسلنا بطلبك إلى المستشفى من أجل معاينته. جاءت السيارة وأقلّتني إلى مستشفى ناصر حيث تعرّفت إلى جمال أبو سمهدانة. وفي تلك الفترة كان جمال أبو سمهدانة وإخوانه من الفدائيين يعتمدون لقلة الإمكانيات على مهرّبي السلاح المصريين، أو على بقايا الأسلحة، وعلمت أنهم كانوا يحاولون تركيب قاذف “B7” على قاعدة “B10” لكنه انفجر بيد جمال. ولما وصلت إلى غرفة العمليات، كان قرار البتر قد اتّخذ، ولكن بعد عمليّة استغرقت نحو 4 ساعات تمّ سحب شرايين من قدمه وزرعها في ذراعه واستطعت على هذا النحو تجنيبه عملية البتر. انعقدت الصداقة بيننا وأساسها العلاقة الطبيعية بين المريض وطبيبه، فضلاً عن أن عائلة أبو سمهدانة تنتمي إلى العشيرة إيّاها التي ننتمي نحن إليها، فضلاً عن عامل آخر يعود إلى صداقتي مع منير خلف، وهو صديق الطفولة في المدرسة وهو إبن “أبو إياد”، وعلاقة جمال أبو سمهدانة الذي كان مرافقاً لأبو إياد في وقت ما بمنير خلف. هؤلاء “جميعاً” كانوا ينتمون إلى تيار تبلور في لجان المقاومة الشعبية التي تحوّلت بدورها إلى ألوية صلاح الدين، وهم كانوا جميعاً من أبناء حركة فتح والأصح أنهم كانوا من إسلاميي حركة فتح.

حصل تفجير قطارات الأنفاق في لندن في 7 تموز/يوليو 2005، واستقبل رويال لندن أكثر من 200 جريح. يومها وجدت أن كل ما تعلّمته في قطاع غزّة أمارسه لأوّل مرّة في بريطانيا نتيجة الخبرة عندي وخبرة الدكتورة سوِي وكفاءة جراح أوعية دموية كان عملَ في الكونغو وسيراليون. وقد تصدّرنا نحن الثلاثة العمليّات الجراحية

جمال شخصية مميّزة فلسطينياً لأنه بقي في حركة فتح، وهو عسكري محترف خرّيج الكلية العسكرية في برلين حيث أمضى 5 سنوات. عندما عاد إلى فلسطين اتّخذ قراراً بأن تطبيقات “عملية أوسلو” ستكون غطاءه للعمل الإسلامي، وكان العديد من الأشخاص المحيطين به على الخلفيّة إيّاها. كان هناك أشخاص آخرون على مثاله، ومنهم أحد أبناء أم نضال فرحات التي اشتهرت بوداعها لإبنها الذاهب إلى القيام بعملية استشهادية، وأعتقد أن أولادها الأربعة كانوا من قيادات حماس واستشهد إثنان منهم بينما قمت بعلاج أحدهم وحصل تقارب بيننا. المحزن أنه منذ سنوات، وتحديداً في العام 2017 التقيت الدكتور علاء عزمي الذي كان جرّاح العظام في مستشفى العودة وقد أجرينا معاً الكثير من العمليّات الجراحيّة، وهو بقي في غزّة فترة طويلة ربما حتى الـ2006 عندما حصل الانقسام بين حماس وفتح فترك وذهب إلى الضفّة. كنا نسأل عن المصابين ونُعلم أنّهم استشهدوا، أي تقريباً حوالي الـ90 بالمئة من الشباب الذين كنا قد أجرينا لهم عمليّات جراحية تمّت تصفيتهم أو استشهدوا بالحروب التي حصلت في تلك المرحلة.

إقرأ على موقع 180  نهاية حروب التحرر الوطني: الثورة تصبح حرباً أهلية

خبرة غزة في رويال بلندن!

بعد عودتي إلى بريطانيا، بدا أن كل الخبرة التي اكتسبتها في الميدان والتي تمثّل خبرة أساسية بالتروما وبعلاج إصابات الحروب، كانت انتحاراً مهنيّاً لأنها كانت تعتبر خارج النسق المهني المتّبع أو السيرة الذاتية. وكانوا في بريطانيا يعتبرون أن هناك نوعاً من التجربة لا يمكن الاستفادة منه في القطاع الصحّي العادي سواء في ليدز أو في لندن.

بعد أن تركت لندن ذهبت إلى ليدز حيث قمت بعملٍ بحثيّ، ومن ثم ذهبت إلى غزّة قبل أن أعود مجدّداً إلى لندن حيث قُبلت في القسم الأخير من تخصّصي، وكان ذلك في مستشفى رويال لندن التي تقع في شرق المدينة ومعروفة بأنها من أهم مستشفيات تروما الإصابات بسبب ظروف الفقر المحيطة بها، والإصابات الناتجة من حرب العصابات داخل المدن الأوروبية. بعد ذلك التقيت الدكتورة سوِي إنج واكتشفت أنها مختصّة بالعظام في المستشفى عينه، وقد كنت تعرّفت على سوي سابقاً في “MAP” عندما كانوا يستدعونها إلى اسكوتلندا لتتحدّث عن تجربتها في مخيّمي صبرا وشاتيلا فضلاً عن تجاربها في المستشفى المعمداني وفي حرب المخيمات في لبنان.

وبعد ذلك بسنة حصل تفجير قطارات الأنفاق في لندن في 7 تموز/يوليو 2005، واستقبل رويال لندن أكثر من 200 جريح. يومها وجدت أن كل ما تعلّمته في قطاع غزّة أمارسه لأوّل مرّة في بريطانيا نتيجة الخبرة عندي وخبرة الدكتورة سوِي وكفاءة جراح أوعية دموية كان عملَ في الكونغو وسيراليون. ومع أنّني لم أكن في حينه الطبيب الاستشاري لأنني كنت ما زلت أتابع تخصّصي، فقد تصدّرنا نحن الثلاثة العمليّات الجراحية.. والغريب أننا كنا نتعامل مع عمليات بتر بسبب تفجيرات في وسط لندن!

كانت المرة الأولى هذه في حياتي التي تشهد تقارب النسقَين الطبّيَين وكان هناك إحساس لأول مرّة في المجتمع الطبّي البريطاني بأن هذا النوع من الإصابات وصل إلى بريطانيا ويجب توعية الأطباء الذين كانت طريقة علاجهم تقتصر على علاج الإصابات المدنية كحوادث السير والدهس والوقوع من المرتفعات، لذلك حصل نوع من التصديق (Validation) لهذه الخبرة التي اكتسبتها في غزّة.

في تموز/يوليو 2006 عندما وقعت حرب إسرائيل على لبنان كان ابني سليمان طفلاً لم يتجاوز عمره السنة والنصف، ولم يكن باستطاعتي حينذاك أن أتصالح مع نفسي المرتبطة بالمسؤولية تجاه هذا الطفل الذي أنجبته إلى الحياة، في حال أقدمتُ على المجازفة بالذهاب إلى لبنان.. ولا أزال نادماً لأنها الحرب الوحيدة التي لم أشارك فيها”.

Print Friendly, PDF & Email
غسان أبو ستة

طبيب وأكاديمي فلسطيني ـ بريطاني، عايش الحروب والإعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ العام 2000 حتى يومنا هذا.

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  البحر الأحمر بين مصر واليمن.. نظرية "الخنق الإستراتيجي"