“فورين أفيرز”: حرب غزة تُغيّر الشرق الأوسط.. وتُشعل شرارة التطرف

"محور المقاومة" يُعزز بصبر ومنهجية تحالف قواه عبر ساحة معركة إقليمية، ويفرض نفسه واقعاً صعباً لن تستطيع أميركا ولا الغرب تفكيكه بسهولة، بل عليهم الإستعداد لمواجهته لسنوات عديدة مقبلة ما لم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية في غزة وينال الفلسطينيون دولتهم المستقلة القابلة للحياة، بحسب "فورين أفيرز" (*).

فيما تزعم الدول الغربية والإقليمية أنها لا تريد أن تتطور حرب غزة إلى حريق إقليمي، يعمل “محور المقاومة” بصبر ومنهجية وثبات على تعزيز تحالف قواه عبر ساحة معركة إقليمية. إن قوى هذا المحور (إيران، “حزب الله” في لبنان، حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وفصائل مقاومة أخرى في فلسطين، حركة أنصار الله الحوثية في اليمن، “الحشد الشعبي” في العراق وميليشيات أخرى متحالفة في سوريا) باتت اليوم تشكل تحدياً حقيقياً ومباشراً للنظام الإقليمي الذي كان الغرب قد أنشأه في الشرق الأوسط ودافع عنه لعقود من الزمن. كما أصبح يشكل تهديداً للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة؛ كما تُظهر الهجمات التي تستهدف ممرات الشحن في البحر الأحمر.

منذ عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ظهرت قدرات “المحور” الهائلة كما لم تظهر من قبل. كما ثبُتت حقيقة توسع نفوذه الذي بات يمتد من الأراضي الفلسطينية إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران. في رأي الغرب أن طهران (الحرس الثوري على وجه الخصوص) هي “العقل المُدبر”، وهي من يزوَّد “المحور” بقدرات عسكرية حديثة ومتطورة وتقدم له كل أنواع الدعم (…).

ومع ذلك لا يمكن القول إن طهران هي من “يحرك دُمى المسرح من وراء الكواليس”، فالواقع يقول إن المحور متماسك جداً ودوره الإقليمي يتخطى إملاءات إيران. الرابط المشترك الأكبر بين أعضائه: الكراهية لـ”الاستعمار” الأميركي والاحتلال الإسرائيلي (…). وكما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، فإن الجماعات المتباينة، سواء كانوا لبنانيين أو فلسطينيين أو يمنيين، توحدهم حقيقة واحدة مفادها أنهم يواجهون القضايا ذاتها والعدو ذاته (…). ولا يرى المحور نفسه كـ”أدوات إيرانية” بل كـ”تحالف” مبني حول أهداف استراتيجية مشتركة، ويعمل بروح واحدة ووفق مبدأ “الكل للواحد.. والواحد للكل” وتعتقد قوى المحور أنهم جميعاً يخوضون اليوم الحرب نفسها ضد إسرائيل، وبشكل غير مباشر ضد الولايات المتحدة. وهذا يعني أن التحذيرات والهجمات الأميركية لن تُجبر “المحور” على التراجع أو التنحي. وما لم توقف إسرائيل حربها على غزة، وما لم تنطلق عملية سياسية جادة وتُحل كافة القضايا العالقة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن أميركا لن تكون قادرة على تفكيك هذا الحلف بل ستجد نفسها في دوامة من الخطر المتصاعد.

هدف طهران الكبير

بدأ “محور المقاومة” بالتشكل في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، عندما سعى قائد فيلق القدس آنذاك، الجنرال قاسم سليماني، إلى إنشاء “شبكة” مرنة حيث يكون كل جزء من المحور مكتفياً ذاتيا، أي أن التدريب والذخائر تأتي من إيران، لكن كل “وحدة” تتقن وتنشر التكتيكات والتكنولوجيا والأسلحة التي تراها مناسبة. لاحقاً، استكمل خليفته، إسماعيل قاآني، السير على هذا الإرث وزاد من “لامركزية” المحور.

في البداية، كان الهدف الأساس لـ”المحور الناشئ” هو هزيمة الخطط الأميركية في العراق. العلاقات الوثيقة التي تربط بين إيران و”حزب الله”، وتجاربهما القتالية المهمة (إيران في حربها مع العراق و”حزب الله” في حربه مع إسرائيل) ساعدت في إنشاء وتسليح وتدريب جماعات عراقية محلية قاتلت القوات الأميركية. وبعد سيطرة تنظيم “داعش” على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، في عام 2014، تم إنشاء جماعات مماثلة لمحاربة القوى التكفيرية التي هدَّدت نظام بشار الأسد في سوريا. كانت الحرب السورية نقطة تحول مهمة، فالقتال كان ضد “التكفيريين”. ومن أجل ذلك جرى تعزيز القدرات العسكرية والاستخباراتية وصقل المنطق الاستراتيجي لـ”التحالف”. في الوقت نفسه، عزَّزت إيران علاقاتها مع “حركة أنصار الله” الحوثية في اليمن، وضمتهم إلى “التحالف” الذي أصبح ناشطاً، وتبنى راية “محور المقاومة”.

على مدى العقد الماضي، نشرت إيران وحزب الله صواريخ متطورة وطائرات حربية مسيَّرة في غزة والعراق وسوريا واليمن. وفي الوقت نفسه اهتم الطرفان بتدريب فصائل المقاومة الفلسطينية (“حماس” على وجه الخصوص) والحوثيين على كيفية بناء منظومة أسلحتهم الخاصة بأنفسهم. ويتجلى نجاح هذا النهج في المعارك يخوضها الفلسطينيون في غزة، وكذلك في المعارك التي خاضها الحوثيون ضد قوات التحالف السعودي-الإماراتي وما يفعلونه اليوم في البحر الأحمر.

“محور المقاومة” يعزز بصبر ومنهجية وثبات تحالف قواه عبر ساحة معركة إقليمية ويخاطب الرأي العام العالمي بمفردات وعبارات مألوفة من أدبيات حقوق الإنسان والقانون الدولي

لا شك أن إيران كان لها دائماً غاية أساسية من وراء إنشاء ودعم وتعزيز هذا المحور: إخراج أميركا من منطقة الشرق الأوسط (هدفها الأساس منذ ثورة 1979). وبالفعل، كان لوجود “المحور” قيمة كبيرة بالنسبة لها لأنه صرف انتباه القوات الأميركية بعيداً عن حدودها (…) وساعدها كثيراً في إدارة ملفها النووي، خصوصاً بعد إنسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي (2018) وتشديد العقوبات عليها واغتيال سُليماني (2020). هذه الممارسات أقنعت طهران بأهمية وجود محور حلفاء أكثر قوة وتماسكاً، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج العربي، لزيادة الضغط على واشنطن. وفي هذا السياق، أصبح البرنامج النووي الإيراني مهماً ليس فقط كورقة مساومة للتفاوض على رفع العقوبات، ولكن أيضاً كـ”رادع” يمكن أن يحمي “المحور” من أي هجوم أميركي أو إسرائيلي.

ويصطف الأعضاء الآخرون في محور المقاومة مع أهداف طهران في جميع أنحاء المنطقة، والتي تعكس أيضاً مصالحهم المحلية. فحزب الله، على سبيل المثال، تحركه الرغبة في حماية جنوب لبنان من “طموحات إسرائيل التوسعية”، والتي يعتقد أنها قد تمتد أيضاً لتشمل مناطق في سوريا والأردن. وتركز الميليشيات الشيعية في العراق على إخراج القوات الأميركية من البلاد، في حين يريد الحوثيون السيطرة على كامل اليمن، وتحريره من التهديدات التي تمارسها السعودية والإمارات (…).

الحرب الناعمة

كانت الكاميرات في عملية “طوفان الأقصى” لا تقل أهمية عن الأسلحة الحديثة والمتطورة التي استخدمها المهاجمون. بفضل كاميرات GoPro المثبتة على مقاومي الفصائل الفلسطينية المشاركة وعلى طائرات حربية مسيَّرة، تمكن المهاجمون من تسجيل كيفية اختراقهم الجدار الأمني الإسرائيلي، وهو إنجاز عسكري كبير. وفي غضون ساعات قليلة فقط بدأت “حماس” في نشر مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، وسيطرت على السردية منذ البداية. ومنذ ذلك الحين، تبرعت فصائل المقاومة الفلسطينية في إستخدام وسائل الاتصالات لصالحها. على سبيل المثال، خلال فترة الهدنة وتبادل الرهائن في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أطلقت الحركة سراح أسراها الإسرائيليين في وسط مدينة غزة في شمال القطاع، وكانت الكاميرات جاهزة لالتقاط ابتساماتهم ومصافحاتهم وتبادل القبل مع آسريهم. كان العمل متقناً للغاية، وبه نجح الفلسطينيون في تكذيب روايات كبار الساسة الإسرائيليين الذين لم يتوقفوا عن الزعم بأن المعركة هي مع “إرهابيين متوحشين” وحيوانات بشرية”. إن الرأي العام في مختلف أنحاء العالم بات مقتنعاً اليوم بأن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون إلا بزوال الاحتلال القائم منذ عقود، وليس كما يروّج الإسرائيليون بأنه مواجهة مع الإرهاب الإسلامي. وهذا يؤكد ضمنياً صحة نظرية “المحور” المناهضة للاستعمار، ويساعد في جعل “المحور” أكثر شعبية في جميع أنحاء المنطقة.

دور الكاميرات في عملية “طوفان الأقصى” لا يقل أهمية عن دور المقاتلين أنفسهم وأسلحتهم الفتاكة

ويأمل “المحور” أن تزداد شعبيته العالمية أيضاً. فللمرة الأولى، منذ عقود، تبرز القضية الفلسطينية على الساحة الدولية كقضية جوهرية، وهو ما يعتبره قادة المحور “نعمة”، فهذا يؤدي إلى عزلة إسرائيل وأميركا، ويزيد من الانتقادات العالمية للاستعمار الاستيطاني والاحتلال والفصل العنصري. يرحب قادة المحور بالمواجهة مع الغرب في وقت تكتسب فيه الأفكار المناهضة للغرب اهتماماً جديداً. ولتحقيق هذه الغاية، صاروا يستندون إلى هذه المفاهيم في مجمل خطاباتهم ورسائلهم. لقد اختفت المصطلحات الدينية الغامضة التي كانت لفترة طويلة عنصراً أساسياً في خطاب إيران و”حزب الله”؛ وحلت محلها مفردات وعبارات مألوفة من أدبيات حقوق الإنسان والقانون الدولي. وقد حدث مثال مفيد مؤخراً، عندما نشر الحوثيون مقطع فيديو باللغة الإنكليزية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، يعلنون فيه أن الهجمات التي ينفذونها في البحر الأحمر ضد السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية “تلتزم بأحكام المادة الأولى من اتفاقية منع وقوع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها” (…)، وبأن الحصار المفروض “سيتوقف عندما تتوقف الإبادة الجماعية في غزة”. وعندما شنَّت أميركا وبريطانيا غارات على اليمن في اليوم نفسه الذي رفعت فيه جنوب أفريقيا قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية (12 كانون الثاني/يناير)، انتشرت رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن جنوب أفريقيا واليمن يعملان لوقف الإبادة الجماعية، بينما واشنطن ولندن “تدعمان الجريمة والقمع” (…).

 أميركا لن تستطيع تفكيك “المحور” بسهولة.. والسبيل الوحيد لجعل الرياح تجري بما لا تشتهيه أشرعة “المحور” هو وقف حرب غزة وإقامة دولة فلسطينية

إذن، يقاتل “المحور” الآن إسرائيل وأميركا ليس فقط في ساحات القتال في الشرق الأوسط ولكن أيضاً في مختلف الساحات الإقليمية والعالمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويجذب المزيد من الرأي العام العالمي كل يوم. والحقيقة أن تصريحات السيد نصرالله والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي تشير إلى أن قادة المحور ينظرون إلى الرأي العام الدولي باعتباره الجائزة الاستراتيجية الأكثر أهمية على المدى الطويل. إنهم يعلمون أنهم لا يستطيعون هزيمة أميركا عسكرياً، ولذلك يأملون في خلق ضغط شعبي كافٍ لإجبارها على احترام إرادة وحقوق شعوب المنطقة، الفلسطينيون على وجه الخصوص. ولهذا السبب احتفل السيد نصرالله بحقيقة أن “إسرائيل بات يُنظر إليها الآن على أنها دولة إرهابية تقتل الأطفال. وأن أميركا مسؤولة وشريكة في كل ما يجري في غزة والعالم يعرف ذلك جيداً اليوم، وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي”.

إقرأ على موقع 180  نتنياهو يُلاقي التفاوض بمذبحة جديدة.. الفرص تضيق والرد...

لقد أدركت إيران وحزب الله منذ فترة طويلة أهمية “القوة الناعمة” (…)، وقد أمضيا العقد الماضي في بناء بنية تحتية إعلامية قوية وذكية – تنشط الآن بلغات متعددة – لهذا النوع من اللحظات بالضبط. واليوم، ينشر محور المقاومة مقاطع فيديو يومية للعمليات في ساحة المعركة، معززة بمؤثرات صوتية وحركية لتسليط الضوء على الانجازات البطولية التي يسجلها المقاومون على أرض المعركة (استهداف الجنود والمنشآت العسكرية الإسرائيلية). كما ينشر مقاطع فيديو للحوثيين وهم يرقصون على متن السفن التي يتم الاستيلاء عليها في البحر الأحمر. وينتج محتوى يهدف إلى بناء قاعدة جماهيرية عالمية لشخصيات المحور الرئيسية، بما في ذلك المتحدث باسم “حماس” أبو عبيدة. ويتم إنتاج المحتوى أيضاً للاحتفال بالسيد نصرالله، ومقارنته برؤساء الدول العربية المتهمين بعدم فعل الكثير من أجل الفلسطينيين. ويكتمل هذا الناتج مع ما يتم إنتاجه في الخارج لدعم فلسطين، مما يوسع نطاق شعبية المحور بطرق ايجابية فعَّالة غير مسبوقة.

إن الحملات العسكرية وحملات القوة الناعمة التي يديرها “المحور” تمثل تحديات إقليمية غير مسبوقة للغرب، ولواشنطن على وجه الخصوص. إن توسع الصراع إلى ما هو أبعد من غزة لن يؤدي إلا إلى تغذية الغضب في المنطقة وزيادة تأجيج الرأي العام وترسيخ نفوذ “المحور”. ولا يمكن لواشنطن عكس هذا الاتجاه إلا من خلال وقف الحرب على غزة، وإطلاق عملية سلام ذات مصداقية تؤدي إلى تسوية نهائية وعادلة للفلسطينيين، وإلا عليها أن تستعد لمواجهة منطقة مضطربة وناقمة.

لقد أعطت الحرب في غزة محور المقاومة أكبر فرصة ليفرض نفسه بالفعل في المنطقة من خلال أسلحته وجنوده، وعلى المستوى العالمي من خلال رسالته ومهمته.

إن حرب غزة غيّرت منطقة الشرق الأوسط: فقد نشأ غضب شعبي كبير وعداء شبه مطلق للغرب مما ينذر بإشعال شرارة التطرف من جديد وزعزعة الإستقرار السياسي. كذلك غيرت الحرب الافتراضات التي كان بعض حكام المنطقة يسلمون بها بشأن أمنهم وعلاقاتهم مع الغرب (حتى أولئك الذين تعتبرهم واشنطن حلفاء). لن تستطيع أميركا تفكيك “المحور” بسهولة ولا هزيمة الأفكار التي أفرزها. والسبيل الوحيد لجعل الرياح تجري بما لا تشتهيه أشرعة “المحور” هو وقف حرب غزة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. وغير ذلك، سيبقى “المحور” واقعاً إقليمياً يتعين على واشنطن والغرب مواجهته لسنوات عديدة مقبلة.

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

(*) نرجس باغوغلي، عالمة أنثروبولوجيا وأستاذة مساعدة في دراسات الشرق الأوسط – جامعة “جونز هوبكنز”. وهي مؤلفة مشاركة لكتاب “كيف تعمل العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية“.

(*) فالي نصر، أستاذ متخصص في الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة – جامعة “جونز هوبكنز”. وهو مؤلف مشارك لكتاب “كيف تعمل العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية“.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "صوت الشعب".. فيها تدوزنت أوتار حنجرتي