الإبادة في غزة.. هل يُحاسَب المحرّضون أيضاً؟

لم تخجل الولايات المتحدة في الإعلان المتكرر عن رفضها وقف إطلاق النار في غزة، على الرغم من المجازر اليومية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والتي ذهب ضحيتها حتى الآن حوالي التسعين ألف شهيد وجريح، فضلاً عن آلاف المفقودين.

ما يسري على أميركا، يسري أيضاً على العديد من الدول الغربية، وأبرزها ألمانيا. هذه الدولة لم تخجل ولم تأبه، بارتكاب دولة الإحتلال الإسرائيلي جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وجرّها إلى لاهاي للمثول أمام محكمة العدل الدولية وتوجيه الإتهام الرسمي لها، إذ كشفت صحيفة “ديرشبيغل”، في 16 يناير/كانون الثاني الجاري، عن عزم الحكومة الألمانية تسليم الجيش الإسرائيلي 10 آلاف قذيفة مدفعية لاستخدامها ضد أهالي غزة، وهو ما يُمكن أن يجعل ألمانيا، وغيرها من دول الغرب، مُحرّضة لا بل شريكة في ارتكاب الجريمة.

ومع مرور مائة وعشرة أيام على الحرب ـ المجزرة ـ الإبادة، بدأت بعض الدول الأوروبية تساير الرأي العام الذي كسر كل محاولات تقييد الأفواه وتحدّى الإجراءات ولا سيما تكبيل الإعلام الرسمي التقليدي بسردية إسرائيلية تبين أنها كاذبة في معظم مندرجاتها. في الوقت نفسه، لا يُمكن لأهالي ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة تصديق مواقف دول يُنظر إلى محاولة تعديل خطابها على أنها مجرد مسرحية للهروب من تحمل أية مسؤولية عن تحريض الحكومة الإسرائيلية على شنّ الحرب. تعديل مواقف هذه الدول ما كان مُمكناً، لولا انتشار صور الفظاعات التي اقترفها الجيش الإسرائيلي على نطاق واسع، وصولاً إلى تنفيذ جريمة إبادة جماعية بحق سكان غزة. وكذلك لم تكن لتصدر، إلا بعد رفع جنوب إفريقيا شكوى ضد الحكومة الإسرائيلية أمام محكمة العدل الدولية، تتهمها فيها بارتكاب جريمة الإبادة.

وفي هذا الإطار، أصدرت وزارة الخارجية البريطانية، في 4 يناير/كانون الثاني الجاري، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية الدموية على غزة، بياناً قالت فيه إنها ترفض أي اقتراح لتهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة، مضيفةً أن غزة أرض فلسطينية محتلة وستبقى جزءاً من دولة فلسطينية في المستقبل. الأمر ذاته فعلته الحكومة الألمانية، حين قال متحدث باسم الخارجية الألمانية، قبل يوم من البيان البريطاني، إن حكومته ترفض التصريحات الإسرائيلية بشأن تهجير سكان غزة. في حين قالت الخارجية الفرنسية إنها ترفض التصريحات التي تتحدث عن تهجير الفلسطينيين، وكذلك فعلت الخارجية الأميركية. وردّد منسق السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الكلام نفسه، معتبراً أنها “تسيء للفلسطينيين”. ومن الواضح أن الجميع قد انتهز فرصة تصريحات الوزيرين الإسرائيليين المتطرفين، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، حول تهجير سكان غزة وإعادة احتلال القطاع، من أجل إصدار هذه المواقف، وكأن الحرب التي ستنهي شهرها الرابع، ليست كفيلة بتهجيرهم إذا لم تتوقف، وبالتالي كان الأَولى بهم رفض الحرب قبل رفض التصريحات الداعية إلى التهجير.

إذا نجحت جنوب إفريقيا في تجريم دولة الإحتلال من خلال الدعوى التي رفعتها، والتي بدأت أولى جلساتها في لاهاي، في 11 يناير/كانون الثاني الجاري، للنظر في طلب محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكابها جريمة إبادة جماعية، فإن ذلك سيُشجّع على رفع قضايا أخرى لمحاكمة المُحرضين والمتورطين، إذا ما تشجعت دول أخرى ورفعته

ويُمكن تصنيف هذه المواقف نوعاً من الهروب من المسؤولية، كون أغلب الدول الأوروبية وأميركا وكندا وغيرهم من الدول، قد حرَّضت على الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين حين أعطت دولة الاحتلال الإسرائيلي الضوء الأخضر لشن حربها، بتسابقها في الإقرار بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. لا بل ذهب بعض هذه الدول حد القول إنه من حق إسرائيل استخدام أي وسيلة تراها مناسبة لضمان أمنها. وهذا الأمر يُعدُّ انتهاكاً لمبادئ الأمم المتحدة التي تعطي الشعب المحتلة أرضه الحق بتحريرها بأي طريقة، وكذلك تفرض على دولة الإحتلال حماية المدنيين الواقعين تحت احتلالها، وهو ما نقضته إسرائيل حين شنّت حرباً على الشعب الفلسطيني الذي تحتل أرضه، وشجعتها دول الغرب على نقضه. لذلك ما كان من الجيش الإسرائيلي، إلا أن يستغل هذا الدعم لاستباحة قطاع غزة بأسلحة فتاكة وأخرى مُحرّمة دولياً، واقتراف المجازر الممنهجة بحق الفلسطينيين في القطاع.

وإذ تغاضت الدول الغربية عن تلك المجازر، وعن تدمير قطاع غزة وتشديد الحصار عليه وقطع المياه والكهرباء والاتصالات عنه، ومنع دخول الأغذية والوقود والمساعدات الطبية والإنسانية إليه، قدّمت تلك الدول الدعم المعنوي والمادي للجيش الإسرائيلي، مع ازدياد الحرب توحشاً. إضافة إلى ذلك، لم تنسَ تلك الدول التضييق على حريات شعوبها، ومحاسبة الرافضين للحرب داخل هذه الدول، لمنع أي معارضة لها أو دعوة لوقفها، ما يُعد تغطية للجرائم التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة، وبالتالي تورطاً موصوفاً في الحرب وفي الإبادة الجماعية الجارية والمتعاظمة كل يوم. وتؤيد هذا القول الفقرة (ج) من المادة الثالثة من “اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، حول تجريم من يُحرّض على الإبادة، إذ تنص تلك الفقرة على انه يُعاقب كل من يعمل على: “التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية”.

إقرأ على موقع 180  مشهدا سريلانكا وبريطانيا.. أزمة مركز وأطراف

وإذا كانت دول أوروبية وغربية قد تورطت بهذه الإبادة، عبر دعم إسرائيل في حربها، وتوفير التغطية لها ومنع محاسبتها ورفض قرارات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في غزة، فإن الولايات المتحدة تُعدُ الأكثر تورطاً. فقد زار الرئيس الأميركي، جو بايدن، دولة الاحتلال والتقى بنيامين نتنياهو، وقدّم له الدعم المعنوي، وأعطاه الضوء الأخضر للاستمرار في الحرب، ونفى ضلوع جيش الإحتلال في مجزرة مشفى المعمداني حين قال يبدو أن “الطرف الآخر” هو المُتسبّب بها، من دون أن يستند إلى نتائج تحقيق دقيق يُظهر من هو المتسبب بذلك، وهو ما يُعد تغطية لجرائم الجيش الإسرائيلي.

لم يكتفِ بايدن بذلك، بل شارك في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، كما شارك وزيرا الدفاع لويد أوستن والخارجية توني بلينكن، في اجتماعات هذا المجلس. كذلك أمر الأميركيون بفتح مخازن الأسلحة الأميركية في دولة الاحتلال ليغرف منها الجيش الإسرائيلي ما يشاء من ذخائر. كما فعَّلت واشنطن جسراً جوياً لنقل الأسلحة والذخائر للجيش الإسرائيلي، وربضت حاملتا طائرات وقطع بحرية حربية أميركية قبالة سواحل فلسطين المحتلة لتقديم الدعم اللوجستي والمعنوي لهذا الجيش، وهو ما يجعل الأمر يتخطى موضوع التواطؤ في الإبادة الجماعية ليصبح مشاركة فعلية وعلنية سافرة فيها.

إذا نجحت جنوب إفريقيا في تجريم دولة الإحتلال من خلال الدعوى التي رفعتها، أمام محكمة العدل الدولية، والتي بدأت أولى جلساتها في لاهاي، في 11 يناير/كانون الثاني الجاري، للنظر في طلب محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكابها جريمة إبادة جماعية، فإن ذلك سيُشجّع على رفع قضايا أخرى لمحاكمة المُحرضين والمُتورطين، إذا ما تشجعت دول أخرى ورفعتها.

ولأن جريمة الإبادة الجماعية لا تخضع للتقادم، بحسب “اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية” لسنة 1968، كما أنها تنطبق على من يقومون بارتكاب الجريمة، وعلى المساهمين فيها ومن يُحرّضون تحريضاً مباشراً على ارتكابها، رُبما يعد أفضل تعليق على مواقف دول الغرب الأخيرة من تهجير الفلسطينيين هو ما قاله كثيرون في تلك الدول على وسائط التواصل الإجتماعي، ما فحواه، أنتم لا تريدون تهجير سكان غزة، تريدون بقاءهم في غزة لكي يستكمل الجيش الإسرائيلي إبادتهم. لذلك يتبين أن الوعي لهذه الجرائم قد ازداد لدى معظم الرأي العام العالمي وبقي أن تتنطح دولة مثل جنوب إفريقيا لمحاسبة المحرضين والمتورطين في الجريمة، إن لم يكن في الوقت الحالي، ففي الآتي من الأيام.

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "الأطلسيون مرّوا من هنا".. "المارينز" في المستنقع اللبناني