من حثَّ إسرائيل على تبني “استراتيجية مكافحة التمرد” في غزة هو الجنرال المتقاعد في الجيش الأميركي والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، ديفيد بتريوس، الذي قال لنظرائه الإسرائيليين (في خطاب ألقاه في 30 تشرين الثاني/نوفمبر): “لا تتوقفوا.. نظفوا، سيطروا، واستمروا!”، وذلك في تكرار للشعار الذي اتبعه في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. والفكرة هي أن يحتفظ الجيش الإسرائيلي بالأراضي بعد “تطهيرها” من مقاتلي “حماس” وغيرهم، ما يعني أنه سيعتمد أكثر على قوات العمليات الخاصة، والضربات الدقيقة، والغارات المستهدفة بدلاً من خوض قتال واسع النطاق عبر نشر الألوية الخاصة وشنّ الغارات الجوية.
الأمر ليس سهلاً كما يبدو. فالأبحاث التي أُجريت حول حملات مكافحة التمرد السابقة تشير إلى أن إتباع مثل هذا النهج في غزة من شأنه أن يُنتج مستنقعاً قد لا يستطيع الجيش الإسرائيلي الخروج منه لسنوات عديدة. ومن التجارب السابقة يمكن القول إن “حماس” والفصائل المقاومة الأخرى سوف تتكيف مع واقعها الجديد من خلال الاعتماد على شبكة الأنفاق التي بنتها تحت الأرض، واستغلال حتى أكوام الركام الهائلة الموجودة الآن في مختلف مدن القطاع (نتيجة التدمير الممنهج الذي مارسته إسرائيل) للإختباء وشن هجمات مضادة، بما في ذلك تنفيذ عمليات انتحارية ضد الجنود الإسرائيليين.
إن تطبيق رؤية الجنرال بتريوس لـ”مكافحة التمرد” في غزة سيكون كارثة بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وستتطلب إعادة احتلال غزة، وهذا بدوره يستوجب نشر آلاف نقاط التفتيش. كما أن تضييق الخناق على المدنيين يعني ببساطة استفزازهم للقيام بأعمال انتقامية. و”حماس” سوف تستغل الوضع وسوف تعمل على إشعال انتفاضة بعيدة المدى (…) من شأنها تحفيز الأطراف الآخرى في “محور المقاومة” لشن هجمات على أهداف داخل إسرائيل وخارجها.
بإختصار، إن اعتماد إسرائيل إستراتيجية مكافحة التمرد في غزة يعني أنها تُنتج حرباً بلا نهاية في المدى المنظور.
إخفاق سياسي.. وعسكري
لاتزال استراتيجية إسرائيل لـ”اليوم التالي” لحملتها العسكرية على غزة مجهولة، ولكن ثمة دلائل؛ من تصريحات بعض القادة الإسرائيليين؛ تشير إلى أن الفصل التالي سيكون عبارة عن “إعادة احتلال ومكافحة التمرد” (…). فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاينفك يكرر أن الحرب “لن تنتهي حتى تحقق جميع أهدافها.. حتى النصر المطلق”. وهذا ما يكرره أيضاً وزير دفاعه يوآف غالانت “مستمرون طالما كان ذلك ضرورياً”. وكذلك رئيس أركانه هيرتسي هاليفي “الحرب ستستمر لعدة أشهر”. لكن إذا تبنت إسرائيل نهج “مكافحة التمرد”، فقد تتحول الأشهر بسهولة إلى سنوات.
فهذا ما حدث للولايات المتحدة في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، حيث فشلت في تحقيق أية نتائج سياسية أو عسكرية. وإذا قررت إسرائيل “كبح التمرد” في غزة اليوم فستواجه ما حصل لها في لبنان، عندما قررت اجتياح البلاد في العام 1982 بهدف القضاء على مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية فغرقت في مستنقع الجنوب لعقدين من الزمن. وعندما انسحبت من هناك من دون شروط، في عام 2000، بقي التهديد الذي يشكله المقاتلون الفلسطينيون، ومعه ظهر تهديد جديد أكثر خطورة ما يزال يقض مضاجع إسرائيل حتى اللحظة، هو: حزب الله اللبناني.
لقد أصبح من الواضح للجميع أن لدى بنيامين نتنياهو حافزاً شخصياً يجعله يستميت من أجل إطالة أمد الحرب. والعديد من الإسرائيليين يريدون قيادة سياسية جديدة بمجرد انتهاء الصراع في غزة. ففي مقال افتتاحي، نُشر يوم عيد الميلاد في صحيفة “وول ستريت جورنال“، أعلن نتنياهو أن المتطلبات الأساسية لـ”السلام” بين إسرائيل والفلسطينيين تتلخص في تدمير “حماس”، ونزع سلاح غزة، واستئصال التطرف من المجتمع الفلسطيني. إن تحقيق ولو هدف واحد من هذه الأهداف، ناهيك عن الأهداف الثلاثة، سوف يتطلب التزاماً إسرائيلياً بإرسال قوات إلى كل من غزة والضفة الغربية على مدى سنوات عديدة مقبلة. وحتى لو استطاعت تحقيق ذلك فلا شيء يضمن ديمومة النجاح (…).
انتصار تكتيكي بطعم هزيمة استراتيجية
إذا تبنى الجيش الإسرائيلي استراتيجية مكافحة التمرد، فسيكون بذلك يخالف توصيات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي حذرت إسرائيل (منذ بداية معركة “طوفان الأقصى”) من إعادة احتلال غزة أو ارتكاب أخطاء مماثلة لتلك التي ارتكبها الجيش الأميركي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر. فمنذ بداية هذه الحرب تضغط واشنطن على نتنياهو لحسم العملية العسكرية، ووضع حد للمجازر التي تسببت حتى الآن بمقتل أكثر من 26 ألف فلسطيني؛ أكثر من 70% منهم من النساء والأطفال. وهذا ما عبَّر عنه قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، في أوائل كانون الأول/ديسمبر 2023، عندما قال: “في هذا النوع من القتال، يكون مركز الثقل هم المدنيون.. إذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية”.
بعد أربعة أشهر من القتال المستشرس في غزة، أصبح من الواضح أن إسرائيل ليس لديها استراتيجية سياسية محددة لـ”اليوم التالي”: نتنياهو؛ وبخلاف الإدارة الأميركية؛ يعارض بشكل قاطع فكرة أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع، والدول العربية مترددة في إرسال أي قوات لـ”حفظ السلام”، ما يعني أنه من المرجح أن ينتهي الأمر بإسرائيل بتسيير دوريات في غزة بينما تستعد “حماس” وغيرها من الفصائل الفلسطينية المقاومة لصراع طويل الأمد. في هذا السيناريو، ستواجه إسرائيل مقاتلين فلسطينيين يتسللون من تحت الأنقاض لتنفيذ هجمات كرّ وفرّ، ونصب كمائن مميتة، وقنص الجنود الإسرائيليين من أماكن لا يعلمها أحدٌ سواهم. فالجيش الإسرائيلي تعمد تدمير مدن القطاع ومحو تضاريسها، والمقاتلون الفلسطينيون جعلوا من أكوام الدمار مخابئ سريّة لهم تستعصي على الجنود الإسرائيليين، كما هو الحال بالنسبة لشبكة الأنفاق التي تشبه المتاهة الحقيقية، وهي من أسرار قوة المقاومة الفلسطينية.
إذا قرر الجيش الإسرائيلي إعادة احتلال غزة وبدأ تنفيذ استراتيجية “مكافحة التمرد”، فسيكون ذلك في مصلحة “حماس” والفصائل المقاومة الأخرى. فهؤلاء لا يرغبون في شيء أكثر من فرصة لإطالة أمد الحرب و”مواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة”. إستراتيجية المقاومة هي محاولة إرهاق الجيش الإسرائيلي ببطء حتى يطالب الجمهور الإسرائيلي بالانسحاب، وعندها تعلن النصر. ومن الممكن أن يتطور الصراع على نحو مماثل لتجربة أميركا في أفغانستان، حيث انتظرت حركة “طالبان” بصبر الانسحاب الأميركي لمدة عقدين من الزمن، ثم استعادت بسرعة السيطرة على البلاد (…).
ربما تكون “حماس” والفصائل الفلسطينية الأخرى قد بدأت بالفعل التخطيط للتمرد (…). فمع تمركز القوات الإسرائيلية ضمن مربعات أمنية صغيرة في أجزاء مختلفة من غزة، وعدم بذل أي جهد للتعامل مع السكان الغزاويين، ستصبح هدفاً سهلاً للمقاتلين. كما أن التجاهل المطلق؛ من قبل المسؤولين الإسرائيليين تجاه المظالم الفلسطينية المشروعة، يمنح “حماس” فرصة ذهبية لملء فراغ السلطة وتعزيز نفوذها في غزة.
هذا ما يفترض أن تكون إسرائيل قد تعلمته بالفعل من تجربتها في لبنان، وأيضاً من احتلالها السابق لقطاع غزة، والذي أدَّى حتماً إلى انسحابها من كلا الحالتين. ولكن العناصر اليمينية المتطرفة في الحكومة الإسرائيلية الحالية تتمتع بنفوذ هائل، وتدفع نتنياهو إلى التفكير في إعادة احتلال غزة إلى أجل غير مُسمى. ويقولون إن إسرائيل يجب أن تفعل ذلك اليوم قبل الغد وإستغلال فرصة غياب حكومة فلسطينية قوية.
لا نهاية في المدى المنظور
إذا تبنت إسرائيل هذه الإستراتيجية، فمن الأفضل أن تستعد لحرب طويلة المدى. فوفق دراسة أجرتها مجموعة من الباحثين في مؤسسة “راند”، تناولت حركات التمرد التي حصلت خلال فترة نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 2009 (مجموعها 71) تبين أن متوسط عمر الصراعات كان عشر سنوات. فعندما يتمتع “المتمردون” بدعم خارجي من دولة راعية؛ كما هو حال “حماس” مع إيران؛ فإن هذا غالباً ما يساعد في إطالة أمد “التمرد” (…). فعلى سبيل المثال لا الحصر، خلال الحرب الباردة، قدم الاتحاد السوفييتي والصين الدعم للمتمردين الشيوعيين في أنغولا، واليونان، وجنوب أفريقيا، وفيتنام. كذلك دعمت كلٌ من أميركا والسعودية وباكستان “المجاهدين الأفغان” ضد الجيش السوفييتي طوال فترة الثمانينيات الماضية. وفي معظم هذه الحالات، كان الدعم الخارجي حاسما في إدارة الصراع.
حتى الآن، لا تزال “حماس” قادرة على إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وهذا يعني أن إسرائيل لا تزال بعيدة عن تحقيق هدفها المتمثل في القضاء على “حماس”. علاوة على ذلك، تشير التقارير الحديثة إلى أن “حماس” تُعيد تجميع صفوفها في شمال غزة استعداداً لشن هجوم جديد. قد تميل الحكومة الإسرائيلية إلى ترك قوات دفاعها في غزة حتى تتمكن من تحقيق المزيد من التقدم. لكن الطريقة التي تحارب بها هناك مهمة أيضاً. في البحث الذي أجرته مؤسسة “راند” حول مكافحة التمرد، تبين أن الجيوش التي تبنت نهج “القبضة الحديدية”؛ أي التركيز على قتل “المتمردين”؛ كانت ناجحة في أقل من ثلث جميع الحالات التي تم تحليلها، حتى الآن. وهي أقل من المقاربات التي ركزت أيضاً على تخفيف مظالم السكان المدنيين.
إسرائيل تعتبر أن مكافحة التمرد خياراً جذاباً لأنه يسمح لقادتها بتأجيل القرارات السياسية الصعبة والتركيز بدلاً من ذلك على الانتصارات العسكرية قصيرة المدى. ولكن أحد الأسباب التي تجعل إسرائيل تجد نفسها في مأزقها الحالي هو على وجه التحديد لأن الساسة الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، قد عرقلوا باستمرار كل تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين.
قد تبدو الحرب بأسلوب مكافحة التمرد خياراً جذَّاباً، ولكنها لن تحقق هدف الجيش الإسرائيلي المتمثل في القضاء على “حماس” بشكل كامل. ومع تزايد الضغوط التي تمارسها إدارة بايدن، فإن الوقت ينفذ بالنسبة للجيش الإسرائيلي لإحراز تقدم في إضعاف البنية التحتية العسكرية لـ”حماس”. وسوف تستمر الخسائر المتزايدة في صفوف الجيش الإسرائيلي في فرض ضغوط إضافية على حكومة نتنياهو، التي تتعرض بالفعل لانتقادات بسبب كيفية تعاملها مع قضية الرهائن (…).
يجب على الإسرائيليين أن يجدوا طريقة للانتقال إلى “اليوم التالي” بعيداً عن خيار إعادة احتلال القطاع أو حتى إبقاء قوات هناك، لأن في ذلك هلاكهم المحتم. يجب إنهاء الحرب بتسوية سياسية جادة، وهو الأمر الذي يتهرب منه القادة السياسيون في إسرائيل حتى الآن. وإذا رفضت إسرائيل السماح لكيان فلسطيني بحكم غزة، فإن الإسرائيليين أنفسهم سوف يضطرون للقيام بذلك، وهو ما سوف يستلزم بدوره وجوداً طويل الأمد وقوة أشبه بالاحتلال.
أما إذا أصر الجيش الإسرائيلي على البقاء في غزة إلى أجل غير مُسمى، فعليه الإستعداد لمواجهة تحديات جمَّة: بدءاً من ضرورة الاستجابة لمختلف حالات الطوارئ الأمنية، وتجنب إستفزاز السكان، وتحمل المخاطر الكبيرة التي تتهدد قواته. وهذا سيناريو يبدو غير قابل للتصديق في ضوء الأهداف الحالية التي يتمسك بها نتنياهو.
إن صنع السلام أمرٌ بالغ الصعوبة، وخاصة بعد النتائج التي تركتها عملية “طوفان الأقصى” على “صورة” إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. ولكن من دون التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، قد تبدو غزة في عام 2024 أشبه بلبنان في عام 1982: حرب بلا نهاية.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) كولين ب. كلارك، مدير الأبحاث في “مركز صوفان”.