حين رأى العالم “جريمة القرن” في غزّة مباشرة على الهواء، خسرت إسرائيل ومعها أميركا معركة السرديّة الأخلاقيّة. وحين أوغلت القوات الإسرائيليّة بدعم أميركي كامل في حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني، بدا أنّ صحوة حقيقيّة راحت تظهر في شوارع العواصم الغربية، وأنّ حركات الاحتجاج التي عمّت الساحات في المدن والجامعات تُنبئ بوعي جديد يجعل فلسطين في نظر الجيل الجديد ركناً أساسياً في صراعه مع المنظومة النيوكولونياليّة في سعيه إلى عالم أكثر عدلاً وتوازناً.
في مقدّمة المشهد انفجار في الشرق الأوسط هو أوّلاً نتاج لـ75 سنة من الاضطهاد والإذلال والاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني. وفي الخلفيّة نظام دولي يواجه أزمة سيولة غير مسبوقة مع تقدّم قوى دولية متعدّدة إلى ساحة المنافسة، فيما تبدو أميركا “العظمى” في حالة ضياع وعجز عن التعامل مع المشاكل المتّصلة بالتحولات التي يمر بها النظام الدولي نتيجة لنزع الطابع الغربي عن العولمة بعدما استفادت منها دول كثيرة ـ أبرزها الصين والهند ـ إذ تطوّرت من دون أن تتبنى النظم السياسية والاقتصادية الغربية، ولم يعد “الغرب الجماعي” يضم سوى 1.3 مليار نسمة من أصل 8 مليارات إجمالي سكان العالم. وقد أدى نهوض “الجنوب العالمي” إلى تراجع حصة مجموعة السبع الكبار من الناتج العالمي الخام من 75% إلى 45% منذ العام 1975، وصارت آسيا مع 35% من الناتج العالمي الخام تتقدم على الولايات المتحدة (25%) أو الإتحاد الأوروبي (16%). كما أن تتابع الحروب الخاسرة في أفغانستان والعراق وسوريا والساحل الإفريقي وأوكرانيا، بات يلقي ظلالاً كثيفة على طاقات الغرب الإستراتيجية على النطاق العالمي.
رسالة قوة أميركية
ثمّة متغير تفسيري هو الخروج من المستنقع الأوكراني، لفهم مسارعة إدارة جو بايدن إلى القبض على فرصة “اليوم التالي” لـ”طوفان الاقصى” وانهيار الأمن الإسرائيلي بغية تفعيل آليات الدفاع الاستراتيجي والتأكيد على عدم تخلي واشنطن عن مصالح استراتيجيّة في الشرق الأوسط في مواجهة التقدم الصيني والروسي.
وليس مطلوباً للمراقب أن يكون خبيراً رفيع المستوى في الشؤون العسكرية ليدرك ان تموضع الأساطيل الأميركية والغربية في شرق المتوسّط غداة هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، يتجاوز ما تتطلبه الحاجة إلى “ردع” إيران وحزب الله، إلى تعمد توجيه “رسالة قوة” من شأنها التوكيد على القوة الصلبة الأميركية رداً على ظاهرة التراجع وفقدان السيطرة التي جسّدتها إدارة باراك أوباما عبر صيغة “القيادة من الخلف”، وهي الصيغة إياها التي طُبّقت مع الحلفاء الأوروبيين لرفع التحدي الروسي في حرب أوكرانيا.
ولم يكن التصويت الأميركي ضدّ الهدنة الإنسانيّة الفورية في غزّة، في 27 تشرين الأول/أكتوبر، بعد أن حظي بموافقة 120 دولة مقابل امتناع 45 ومعارضة 14، سوى تعبيراً عن المضي في اتباع سلوك انتحاري في العلاقات الدوليّة، ناهيكَ عن ابتعاده الفاضح عن القيَم الإنسانيّة التي دأبت الحكومات الأميركيّة على التغنّي بها. لذلك يمكن اعتبار امتناع أكثريّة دول الغرب عن التصويت، بما في ذلك بريطانيا وبولونيا وأوكرانيا، في مقابل تأييد فرنسا والنروج وايرلندا وإسبانيا والبرتغال (فضلاً عن روسيا والصين)، تعبيراً عن مسؤوليّة استراتيجيّة تفرض عدم المجازفة بتجاهل صوت العالم غير الغربي ومنه العالم العربي الإسلامي.
لقد تعيّن على أميركا الخارجة من انتكاسة أوكرانيا أن تجِدَ مخرجاً يسمح لها بأن تُصوّر أنّها باقية في “مركز العالم” عبر نشاطات عسكريّة مسرحيّة مثل دفع أساطيلها إلى التموضع شرقي المتوسط ومنطقة الخليج لطمأنة إسرائيل إلى أنّها ستتكفّل بردع إيران وحلفائها في الإقليم
خسارة أوكرانيا
وفي تفسيره للسلوك الأميركي اللّاعقلاني، يلاحظ عالم الانثروبولوجيا والمؤرخ إيمانويل تود في كتابه الجديد “هزيمة الغرب”، أنّ معظم الدول في العالم يميل إلى جانب روسيا، وأنّ رفض هذه الدول التزام العقوبات الغربيّة ضدّ الكرملين تسمح للاقتصاد الروسي بالصمود. ويُسّجل هنا أنّ السعوديّة تنّسق مع روسيا من أجل إدارة أسعار النفط وتتصالح مع إيران (حليفة روسيا) تحت الرعاية الإيجابيّة للصين (حليفة روسيا) في الوقت الذي أخذت الكتلة الأطلسيّة تخسر الحرب الاقتصاديّة بعدما تبيّن أنّها عاجزة عن إنتاج ذخائر وصواريخ بكمّيات كافية. ويؤكد إيمانويل تود أنّ المعروف لدى الجميع أنّ مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2023 سجّل فشل الهجوم المضاد للجيش الأوكراني، وعندها بدأ الحديث عن انهيار جيش كييف.
إذاً، لقد تعيّن على أميركا الخارجة من انتكاسة أوكرانيا أن تجِدَ مخرجاً يسمح لها بأن تُصوّر أنّها باقية في “مركز العالم” عبر نشاطات عسكريّة مسرحيّة مثل دفع أساطيلها إلى التموضع شرقي المتوسط ومنطقة الخليج لطمأنة إسرائيل إلى أنّها ستتكفّل بردع إيران وحلفائها في الإقليم. ويمكن لهذه النشاطيّة العسكريّة أن تُفسح المجال لدبلوماسيّة استعراضية تستند إلى فريق واسع متعدّد الاختصاص كما هي حال الفريق الدبلوماسي الأميركي الحالي (أنتوني بلينكن وزير الخارجية وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي ووليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات الأميركيّة المركزيّة “سي آي إيه” وبريت ماكغورك المبعوث الرئاسي الأميركي الذي يكاد لا يغادر المنطقة ودايفيد ساترفيلد..) ولكنها تبدو غير مُعّدة لاجتراح حلٍّ نهائي أو حلّ عادل للمسألة الفلسطينيّة على أساس تفعيل حلّ الدولتين، بل يقتصر دورها على تسهيل التفاوض على حلول موضعيّة مثل الهدنة المطلوبة لتبادل الأسرى وإدخال كميات محدودة من المساعدات، بعيداً عن وقف إطلاق النار أو وقف الحرب وإنهاء الاحتلال والحصار الخانق المفروض على قطاع غزّة.
إسرائيل مُلحقة بالإمبراطورية!
ويخال المرء أحياناً أنّ التكامل بين السياستين الأميركيّة والإسرائيليّة غداة هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب التدميريّة على غزّة، بلغ حدّاً يجعل إدارة بايدن تُمعن في استخدام “الفيتو” وتتصوّر أنّه يمكنها التصرّف بالحقوق الوطنيّة الثابتة للشعب الفلسطيني، من خلال هندسة مفهوم الدولة الفلسطينيّة، مثلما يوحي بأن إسرائيل أُلحقت بالإمبراطوريّة الأميركيّة ما دامت لم تعُد قادرة على إدارة شؤونها بنفسها أو إدارة أزمتها السيستاميّة من دون تأطير وتوجيه أميركيّين.
وفي انتظار أن يقرّر صمود المقاومة والمجتمع الفلسطيني مآلات معركة غزّة عسكريّاً وسياسيّاً، فإن مروحة الأسئلة الصعبة تتجاوز الكلفة الباهظة لحماية “القلعة الصهيونيّة” (نالت أخيراً مساعدات عسكريّة عاجلة من أميركا قيمتها 14 مليار دولار علماً أنّ هذه الأخيرة ما زالت تُقدّم لها 4 مليارات دولار سنويّاً)، واحتمال تصاعد هذا العبء المالي مستقبلاً في خضمّ اشتداد المقاومة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة والمواجهة مع حركة الاستيطان اليهوديّة هناك. ذلك أنّ انشغال النُخب الغربيّة بنتائج انهيار المنظومة الأمنيّة الإسرائيليّة وتالياً تحلّل عقيدة الردع الصهيونيّة تحت وطأة صدمة 7 تشرين الأول/أكتوبر، يُفترض أن يقود إلى التفكير في الديناميّات القويّة التي تصنعها مجتمعات الجنوب وتقود إلى خيارات جذرية مثل “طوفان الأقصى” تحظى بتأييد غالبيّة من الفلسطينيين والعرب بوصفها الأسلوب الوحيد الفاعل لمقاومة إسرائيل وحربها الكولونياليّة.
الحلّ السحري
والحقيقة أنّه بعد الطوفان الفلسطيني، لا يمكن أن يُعوّل كثيراً على محاولة الدبلوماسيّة الأميركيّة إعادة تسويق تسوية إقليمية تعتمد خيار الدولتين (على أرض فلسطين) على أن يكون متزامناً مع التطبيع السعودي الإسرائيلي. وإذا كانت هذه المحاولة تجد سنداً لها في عدم تخلّي “الرجل القوي” في السعوديّة الأمير محمد بن سلمان عن مشروع التطبيع مع إسرائيل في ظلّ رؤيته لبيئة إقليميّة مستقرّة تساعد التحوّل داخل المملكة نحو الانفتاح وتحديث الاقتصاد، فقد انقلبت معادلة الدولة والتطبيع الآن وصارت السعوديّة تشترط للتطبيع مع إسرائيل قيام الدولة الفلسطينيّة المستقلة. ويأتي هذا الالتزام وسط مؤشّرات على التفاف المجتمع الأهلي السعودي حول المقاومة الفلسطينيّة وتجذّر العداء القوي لإسرائيل نتيجةً لعدوانها المستمر على غزّة.
ماكغورك هو الذي أقنع بايدن في صيف 2022 بإعادة الاتصال بوليّ العهد السعودي، ومتابعة مشروع تطبيع العلاقات العربيّة الإسرائيليّة الذي بدأه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2020 مع الإمارات والبحرين
وقد دأب المبعوثون الأميركيون إلى المنطقة في الآونة الأخيرة، على إخراج خطة التطبيع مع إسرائيل من جعبتهم أمام المسؤولين العرب باعتبارها “افتح يا سمسم” أو الحل السحري لشرقٍ أوسط يستعيد الاستقرار والأمن من دون وقف الحرب الإسرائيلية على غزّة أو إقرار حكومة نتنياهو بحق الدولة الفلسطينيّة. وكان لافتاً للانتباه في هذا المجال أنّ مواصلة مشروع التطبيع، احتلّ الأولويّة لدى كبير المبعوثين الرئاسيين الأميركيين بريت ماكغورك في اتصالاته العربيّة. وماكغورك هو الذي أقنع بايدن في صيف 2022 بإعادة الاتصال بوليّ العهد السعودي، ومتابعة مشروع تطبيع العلاقات العربيّة الإسرائيليّة الذي بدأه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2020 مع الإمارات والبحرين.
كذلك كان لافتاً للإنتباه في مناقشات دافوس في كانون الثاني/يناير الماضي أنّ جايك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي تناول موضوع التطبيع في إطار الحديث عن رؤيته لـ”اليوم التالي” بعد حرب غزة، قائلاً: “نواصل بنشاط المسار نحو التطبيع والتكامل مع شركائنا الإقليميين. إنّه مستقبل لن تكون فيه غزّة أبداً منصّة للإرهاب، وسيكون في إمكان العرب والإسرائيليين العيش بسلام، وسيكون للفلسطينيين دولتهم الخاصة وأمن إسرائيل مضموناً”.
ويبدو أن الجولات الإقليمية الأخيرة لوزير خارجيّة الولايات المتحدة أنتوني بلينكن التي سيطرت عليها الكارثة الإنسانيّة في غزّة، والتصعيد العسكري في البحر الأحمر، مُنيت بفشل ذريع لأنّ سقفها لم يتجاوز طموح الرئيس بايدن المقيّد بالانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل: السيطرة على الفوضى في الشرق الأوسط. وهذا يعني ترك المجال مفتوحاً للحكومة الإسرائيليّة بأن تضرب عرض الحائط بنصائح الاعتدال الموجّهة إليها من البيت الأبيض، ليجد بايدن نفسه منقاداً وراء “الوكيل” الإسرائيلي بإمداده بالسلاح والذخيرة بحجّة إحتواء جموحه المدجّج بالسلاح النووي، واستخدام حقّ النقض “الفيتو” لعرقلة أي جهد لوقف إطلاق النار.