المحكمة الجنائية تعتقد، وعلى عكس الموقف الأميركي، أن ما يجري في غزة والضفة الغربية يقع في صلب اختصاصاتها. لماذا مثلاً تنظر في الحرب الأوكرانية وتتجاهل حرب غزة التي أوقعت من الضحايا المدنيين ما لم توقعه حرب أوكرانيا ولا أية حرب أخرى في القرن الحادي والعشرين، ناهيك عن دمار هو أكبر بكثير مما لحق بأي مكان في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
الولايات المتحدة التي لم توقع على النظام الأساسي لمعاهدة روما التي نصت على انشاء المحكمة عام 1998، أشادت باصدار كريم خان مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العام الماضي، بتهمة التورط في ترحيل أطفال أوكرانيين من أوكرانيا إلى روسيا، التي هي من الدول غير الموقعة على النظام الأساسي للمحكمة.
وخوفاً من صدور مذكرة الاعتقال، وليس امتثالاً لتحذيرات الرئيس الأميركي جو بايدن، سمح نتنياهو بادخال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، وقبل بالعودة إلى مفاوضات الهدنة وإبداء بعض المرونة حيال الاقتراح المصري الأخير، وأرجأ الهجوم على رفح.
كل هذه المسائل يلح عليها بايدن منذ أشهر من دون أن تلقى آذاناً صاغية لدى نتنياهو، الذي كان يتباهى بأنه السياسي الوحيد في إسرائيل الذي يستطيع أن يقول “لا” للولايات المتحدة. وحتى الإغراء الأميركي بالتطبيع مع السعودية لم يثنِ نتنياهو عن مواصلة الحرب بضراوة، لأنه يعتقد أن القوة هي التي تصنع التطبيع وليس تقديم التنازلات.
أتى احتمال صدور مذكرات توقيف دولية ليزيد من متاعب نتنياهو الذي يشعر ربما للمرة الأولى أن شراء الوقت لا يصب في مصلحته، وأن مصيره هو بالذات مُعلق أكثر من أي وقت مضى بقدرة أميركا على تجنيبه مذكرة الاعتقال الدولية، بعدما تجنب في الماضي، بألاعيبه السياسية الداخلية، مذكرة الاعتقال الداخلية بتهم الفساد
فما الذي تبدّل الآن؟
بداية، تقترب الحرب من اكمال شهرها السابع بينما الأهداف الكبرى التي حدّدها نتنياهو ما تزال إلى حد كبير بعيدة عن التحقق. إن قتل عشرات آلاف المدنيين وتدمير غزة بالكامل كان الجزء الأسهل من الحرب، على غرار حربي أميركا على العراق وأفغانستان، حيث تمت لها السيطرة على البلدين في غضون أسابيع معدودة، لتغرق القوات الأميركية في ما بعد في ورطتين كبيرتين.
غزة تتحول هي الأخرى إلى مستنقع لإسرائيل على غرار ما كانته بالضبط قبل عام 2005. حرب استنزاف لا أفق لها حتى لو تم اجتياح رفح وتم احتلال القطاع بالكامل. إسرائيل التي تربح تكتيكياً، تخسر الحرب.
فغزة، أعادت إحياء القضية الفلسطينية التي تحوّلت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى مجرد بحث في أعداد الفلسطينيين الذين تسمح لهم إسرائيل بالعمل لديها، والسلطة الفلسطينية بلغت حداً خطيراً من الترهل والوهن لأسباب ذاتية وأخرى تتعلق باستراتيجية إسرائيلية لتغييب أي احتمال بقيام دولة فلسطينية في المستقبل، والحفاظ على الاحتلال بلا كلفة، وصارت القضية الفلسطينية عبارة عن “تحسين أحوال معيشية”، وفق القاموس السياسي الخليجي العربي.
اليوم، عرّت غزة صورة إسرائيل في العالم، وها هي التظاهرات منذ سبعة أشهر تخرج كل سبت في عشرات المدن تنديداً بالحرب. وإسرائيل ترافع عن نفسها في تهمة ممارسة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، بدعوى رفعتها ضدها جنوب أفريقيا وانضمت إليها نيكارغوا وستنضم إليها تركيا، التي قطعت كل علاقاتها التجارية مع إسرائيل في سابقة هي الأولى منذ عام 1948.
واكتمل تهشيم صورة إسرائيل بالاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة، الأوسع نطاقاً منذ تظاهرات الثمانينيات الماضية ضد الفصل العنصري في أفريقيا وضد حرب فيتنام في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.
إسرائيل اليوم دولة منبوذة في العالم، في مشهد لم تألفه منذ قيامها. المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس يقول :”للمرة الأولى من التأسيس يكون مستقبل إسرائيل محل تساؤل”.
وأظهر استطلاع لمعهد “بيو” الأميركي للابحاث، أن 58 في المئة من الأميركيين يرون أنه من الحق التعبير عن معارضة وجود إسرائيل، و66 في المئة يرون أنه يجب السماح بالخطاب الذي يدعم الفلسطينيين ودولتهم الخاصة بهم.
وعند النظر إلى الداخل. هناك انقسام حاد داخل الحكومة الإسرائيلية على كل شيء باستثناء العداء للفلسطينيين. ونتنياهو حائر بين الإصطفاف حتى النهاية مع وزيريه المتشددين إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش والمخاطرة بالتعرض لمذكرة اعتقال دولية من لاهاي (المحكمة الجنائية)، أو الميل نحو بيني غانتس وغادي آيزنكوت والقبول باتفاق هدنة مع “حماس” ولو موقتة بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، مع احتمال فرط حكومته ومواجهة لاهاي داخلية.
إن مذكرات الاعتقال الدولية، في حال صدورها، إذا لم يُذعن كريم خان للضغوط الأميركية، ستُتشكّل ضربة كبيرة لشرعية إسرائيل وقادتها على المستوى الدولي،
في أي اتجاه سيذهب نتنياهو؟
البقاء مع بن غفير وسموتريتش يضمن له بقاء الحكومة ولو إلى حين، مع مزيد من الغرق في رمال غزة. وإغضاب بيني غانتس وغادي آيزنكوت سيجعله يخسر من رصيده أميركياً ويُعرضه ربما لضغوط أكبر في الشارع الإسرائيلي.
وعلاوة على كل هذه الضغوط، أتى احتمال صدور مذكرات توقيف دولية ليزيد من متاعب نتنياهو الذي يشعر ربما للمرة الأولى أن شراء الوقت لا يصب في مصلحته، وأن مصيره هو بالذات مُعلق أكثر من أي وقت مضى بقدرة أميركا على تجنيبه مذكرة الاعتقال الدولية، بعدما تجنب في الماضي، بألاعيبه السياسية الداخلية، مذكرة الاعتقال الداخلية بتهم الفساد.
إن مذكرات الاعتقال الدولية، في حال صدورها، إذا لم يُذعن كريم خان للضغوط الأميركية، ستُتشكّل ضربة كبيرة لشرعية إسرائيل وقادتها على المستوى الدولي، وفي المقابل، من شأنها أن تُعزّز من شرعية القضية الفلسطينية، التي يحمل لواءها اليوم طلاب العالم، وأولهم طلاب الجامعات الأميركية وأساتذتها.
ثمة ملاحظة أوردتها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية على هامش معالجتها لملف المحكمة الجنائية الدولية وتأثيراتها على نتنياهو، وهي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “قلق من أن يكون حلفاؤه سعداء بجعله يتصبب عرقاً”.
إن تهديد نتنياهو بتدمير السلطة الفلسطينية أو ما تبقى منها، يبعث برسالة لا لبس فيها بالدرجة الأولى إلى هؤلاء الحلفاء!