ذهب كثيرون إلى إعطاء تفسيرات عديدة للخلاف الأخير بين واشنطن وتل أبيب، لكنّ معظم المؤشرات تُبيّن أنه مجرد خلاف تكتيكي لم يبلغ خطّ اللارجعة، لا سيما أن بايدن يُدرك أنه لا يستطيع أن يذهب بعيداً في كبح جماح نتنياهو في ظل وجود مؤيدين له في الكونغرس أكثر ولاءً لإسرائيل من الإسرائيليين أنفسهم. لذا، يحاول بايدن ضبط أداء نتنياهو على إيقاع مصالح أميركا وحلفائها في المنطقة وحسابات المعركة الإنتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة، إضافة إلى توفير الحدّ الأدنى من المكاسب الأمنية الإسرائيلية غير مكتملة الملامح بعد.
والسؤال المطروح الآن: لماذا “إنفجر” الخلاف بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي في رفح؟ وهل ما يقوم به جيش الإحتلال في هذه المنطقة المحاذية لمصر هو عملية محدودة للخروج بصورة انتصار ترتكز على السيطرة على معبر رفح و”محور فيلادلفيا”، كما يسمّيه العدو (محور “صلاح الدين” كما يسميه الفلسطينيون)، أم بداية عملية موسعة تهدف إلى احتلال مدينة رفح أيضاً؟ وهل ترتبط العملية بالضغط لتحقيق شروط أفضل بشأن مفاوضات تبادل الأسرى، أم أنها تتعلق بمنظور الحرب ككل؟
معركة رفح.. الرهان الأخير؟
لا شك أن بنيامين نتنياهو غير مقتنع بوضع حدّ للحرب على غزة ضمن النتائج العسكرية المتواضعة التي بلغتها بعد أكثر من سبعة أشهر على بدئها. وثمة إنطباع سائد بأنه سيظل يخترع ذرائع للمضي بقرار الحرب، ذلك أن إيقافها عند هذا الحد سيفتح باباً للشرّ على حكومته ويكثّف الضغوط الإسرائيلية الداخلية عليه لا سيما في ضوء مآلات الحرب عسكرياً والتهديد بتراجع تأييد حليف أساسي مثل الولايات المتحدة لها والتباطؤ في التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى والمحتجزين، إضافة إلى تحميل هذه الحكومة مسؤولية ما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ولهذا، راح نتنياهو منذ قرابة الثلاثة أشهر يُركّز على ربط مصير الحرب بضرورة هزيمة “أربع كتائب لحركة حماس في رفح” (من أصل 24 حسب وجهة نظره) وعلى أهمية السيطرة على “محور فيلادلفيا” بصورة دائمة، محاولاً إبعاد الأنظار عن الإخفاق في حسم معارك شمال القطاع (مدينة غزة ومخيما جباليا والشاطئ) ووسطه (مخيما دير البلح والنصيرات) وجنوبه (مدينة خان يونس ومخيمها).
وتُمثل رفح وجهة مغرية لحكومة الإحتلال لسببين:
أولاً؛ الرغبة في إعادة التحكم بمعبر رفح الذي يُشكّل نقطة اتصال قطاع غزة مع العالم من دون المرور الإلزامي بالختم الإسرائيلي.
ثانياً؛ الحلم بإعادة السيطرة على “محور فيلادلفيا” (صلاح الدين) الذي يمتد بطول 14 كلم على طول الحدود الجنوبية بين قطاع غزة ومصر، باعتبار أنه – وفق المزاعم الإسرائيلية – يُشكّل عقدة تهريب الإمدادات الى المقاومة الفلسطينية في غزة، سواء من فوق الأرض أو تحتها، وبالتالي لا يثق جيش الإحتلال بالتدابير التي اتخذتها السلطات المصرية على هذا الصعيد في السنوات القليلة الماضية وتمثلت بزرع عوائق معدنية تحت الأرض لإحباط التواصل غير المرئي بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية.
يبقى الخلاف الأميركي-الإسرائيلي تقليداً ضمن المعسكر الواحد، وهو ينبع من منظور أميركي أوسع من المنظور الإسرائيلي المستغرق بالحسابات الداخلية. لكن أميركا ستبقى تمدّ إسرائيل بالأسلحة والدعم السياسي، وبالتالي تميل إلى التكيّف مع الإعتبارات الإسرائيلية الداخلية، وهذا لا يشذّ عن السيرة التاريخية للعلاقة بين الإدارات الأميركية والكيان الإسرائيلي
رفح.. معركة نتنياهو السياسية!
واللافت للإنتباه أن العديد من الخبراء والضباط الإسرائيليين السابقين شكّكوا مسبقاً في جدوى التوجه إلى رفح، واعتبروا أنها معركة نتنياهو السياسية أكثر منها معركة الجيش الإسرائيلي. لكن نتنياهو تمكّن مرة أخرى من إخراج صورة “إجماع” لمجلس الحرب الإسرائيلي في رفض صفقة تبادل الأسرى المطروحة التي أعلنت حركة حماس قبولها بها في السادس من الشهر الجاري، وأخذ غطاء من الكابينيت للتوجه نحو “حرب رفح”، مع العلم أن العديد من المسؤولين الإسرائيليين على المستويين السياسي والأمني رأوا ضرورة اغتنام فرصة وجود نافذة ضيقة لإتمام عملية التبادل واستعادة من تبقى من الأسرى الإسرائيليين على قيد الحياة. وعلى وجه السرعة، قرّر نتنياهو القيام بهجوم مضاد وفوري أدى الى احتلال معبر رفح خلال ساعات قليلة، وهو في الأساس يُعتبر ساقطاً من الناحية العسكرية. وهذه الخطوة قُرئت على أنها استخفاف بما يُسمى “الخط الأحمر” غير المُشدَّد الذي رسمته واشنطن في هذا الشأن حين اشترطت توفير ظروف أمنية للمدنيين النازحين من رفح قبل تنفيذ أي هجوم إسرائيلي والتنسيق المسبق معها في هذا الشأن.
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، عرضت الإدارة الأميركية على إسرائيل تزويدها بإمدادات ومعلومات استخباراتية حول الأنفاق في رفح “لإقناعها بعملية محدودة وموجَّهة في رفح”، ما يعني أن إدارة بايدن تتحفظ على نطاق الهجوم وليس على القيام به من أصله. وردّت الإدارة الأميركية على تعطيل تبادل الأسرى والهجوم “المفاجئ” على رفح بإعلان وقف إرسال قنابل ثقيلة من وزن 2000 رطل (ما يزيد على 900 كلغ) مخصصة لتدمير المباني الكبيرة. ورفع نتنياهو التحدي باستنفار “أصدقاء إسرائيل” من الجمهوريين الذين بادروا إلى توجيه انتقادات شرسة لإدارة بايدن، معتبرين أن من واجب أمريكا مساندة إسرائيل في حربها الحالية من دون فرض أية قيود على تصرفاتها. وهذا الضغط من داخل الولايات المتحدة بدأ يُثمر لمصلحة اسرائيل من خلال ملاحظة تراجع لهجة الإدارة الأميركية في التعامل مع التطورات في رفح.
تجدر الإشارة إلى أن القيود المفروضة لا تمسّ بالقدرات القتالية لجيش الإحتلال الذي تلقّى كميات هائلة من الأسلحة والذخائر خلال الشهور السبعة الماضية قُدّرت بحمولة 350 طائرة شحن و50 سفينة، على ما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية، تضاف إليها حرية الوصول إلى مخزون للذخائر أودعه الجيش الأميركي في مستودعاته على أرض فلسطين المحتلة لاستخدامه في أوقات الطوارئ.
كان قرار وقف إرسال بعض شحنات القنابل إلى إسرائيل رسالة غير مباشرة تفيد بأن الوقت الأصلي للحرب إنتهى، وكذلك الوقت الإضافي. بل إن الحرب بصورتها الحالية أصبحت تُهدّد المصالح الأميركية بشكل مباشر ويمكن أن تُفاقم احتمال توسع الحرب إقليمياً، كما ظهر مؤخراً في جبهات المساندة المتعددة
ضوابط الخلاف الأميركي- الإسرائيلي
بين تضخيم هذا الخلاف والتقليل من أهميته، ينبغي التوقف عند بعض النقاط الهامة التي تضيء على أفقه واحتمالات تطوره:
أولاً؛ يُمكن القول إن بايدن هو أضعف رئيس أميركي أمام إسرائيل؛ جميع الرؤساء الأميركيين، منذ نشأة الكيان العبري حتى يومنا هذا، كانوا على قدر من الضعف أمام إسرائيل بسبب التأييد المطلق لها في الكونغرس وبين النخب السياسية الأميركية من الحزبين الجمهوري والديموقراطي لأسباب سياسية وإستراتيجية وحتى دينية (الصهيونية المسيحية).. لكن بايدن لم يتمكن من كبح اندفاعة إسرائيل في أي مرحلة من مراحل الحرب على قطاع غزة، واستمر بمدّ إسرائيل بالأسلحة الأميركية، جواً وبحراً، ووفّر لها من خلال “الفيتو” في مجلس الأمن، غطاءً دولياً لمواصلة فظاعات الحرب التي ترقى الى جرائم إبادة، ثم فطن بعد سبعة أشهر أن يُؤخر (وليس يوقف) إرسال بعض أنواع القنابل الهجومية الثقيلة.
ثانياً؛ يريد جو بايدن تسجيل موقف أمام الناخبين الأميركيين المعترضين ولا سيما طلاب الجامعات الأميركية على دعم أميركا لإسرائيل في حربها على غزة، وهو في الوقت ذاته ليس في وارد إدارة الظهر لمجموعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة التي استُنفرت بوجه خطوة رمزية يتيمة غير قابلة للصرف في الميدان العسكري!
ثالثاً؛ تعتقد إدارة بايدن أن فرصة تحقيق انتصار عسكري إسرائيلي حاسم في رفح أو سواها باتت غير واقعية، برغم دعمها العسكري والاستخباري والسياسي لتل أبيب، وأن نتنياهو يريد من تمديد الحرب، مرةً في شمال القطاع ومرةً في وسطه وثالثةً في جنوبه ورابعةً في جنوب جنوبي القطاع، تمديد عمر إئتلافه الحكومي وحياته السياسية. والتقدير السائد أنه في حال توقفت الحرب، ستسقط هذه الحكومة لا محالة. ولذلك، كان قرار وقف إرسال بعض شحنات القنابل إلى إسرائيل رسالة غير مباشرة تفيد بأن الوقت الأصلي للحرب إنتهى، وكذلك الوقت الإضافي. بل إن الحرب بصورتها الحالية أصبحت تُهدّد المصالح الأميركية بشكل مباشر ويمكن أن تُفاقم احتمال توسع الحرب إقليمياً، كما ظهر مؤخراً في جبهات المساندة المتعددة. وعليه، ينبغي إحداث تحول تدريجي نحو ترتيب وقائع جديدة في قطاع غزة (أي “اليوم التالي”) بدلاً من الإستمرار في حصد خسائر استراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل معاً.
رابعاً؛ مارست الإدارة الأميركية نوعاً من التحفيز الناعم للداخل الإسرائيلي بهدف تغيير توجهات الحكومة الحالية غير المتماشية مع إستراتيجية واشنطن التي تعطي الأولوية لإيجاد هيكل سلطة جديدة في غزة وتمهيد الطريق أمام تطبيع عربي- إسرائيلي واسع. في المقابل، برهن نتنياهو أنه لا يوجد تهديد حقيقي لزعامته حتى الآن، حيث لم يتمكن بيني غانتس وغادي آيزنكوت من تشكيل ثقل مؤثر على توجهات الحكومة، بالرغم من احتضان الإدارة الأميركية لغانتس على نحو علني، كما حصل خلال زيارته إلى واشنطن في مطلع شهر آذار/مارس المنصرم.
في الخلاصة؛ يبقى الخلاف الأميركي-الإسرائيلي تقليداً ضمن المعسكر الواحد، وهو ينبع من منظور أميركي أوسع من المنظور الإسرائيلي المستغرق بالحسابات الداخلية. لكن أميركا ستبقى تمدّ إسرائيل بالأسلحة والدعم السياسي، وبالتالي تميل إلى التكيّف مع الإعتبارات الإسرائيلية الداخلية، وهذا لا يشذّ عن السيرة التاريخية للعلاقة بين الإدارات الأميركية والكيان الإسرائيلي.