الصين تشقُ دربها نحو “عالم واحد بنظامين”.. مع هاريس أم ترامب!

في عالم يغلي على نار الحروب المستعصية على الحل، أتت زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى بكين قبل أيام، لتحمل عناوين تتجاوز تنظيم التنافس الثنائي بين أكبر إقتصادين في العالم في منطقتي المحيطين الهادىء والهندي، لتلامس أزمات دولية، يُهدّد توسعها مصالح أميركا والصين على حد سواء.

اعتاد جيك سوليفان الاجتماع دورياً بوزير الخارجية الصيني وانغ يي في الخارج لتهدئة التوترات بين أميركا والصين، من مضائق تايوان إلى بحر الصين الجنوبي، إلى الاحتكاكات المتكررة بين البحريتين الصينية والفيليبينية، إلى ظهور المناطيد الصينية في السماء الأميركية العام الماضي. وهناك نقطة مهمة أكسبت الزيارة مزيداً من الأهمية، وهي أن سوليفان أول مستشار للأمن القومي الأميركي يزور الصين منذ 2016. لا بد إذن من أسباب أساسية تستدعي هذه الزيارة.

لا يغيب عن الزيارة، التي استمرت ثلاثة أيام، كونها أتت في خضم الحملات الانتخابية الرئاسية الأميركية التي تضع المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس في مواجهة المرشح الجمهوري دونالد ترامب.

في العلن، لا تتخذ الصين موقفاً من المرشحين الإثنين. لكن بالطبع يُقلقها تعهد ترامب بفرض تعرفة جمركية بنسبة 60 في المئة على البضائع الصينية في حال عاد إلى البيت الأبيض، ولم تنسَ بعد حملته القوية على بكين عقب تفشي “كوفيد-19” قبل أربع سنوات، إذ أن الرئيس الجمهوري حمّل الصين المسؤولية عن الوباء وأطلق عليه “الفيروس الصيني”. وبالتالي تعني فرضية عودته احتمال اندلاع حرب تجارية أخطر بكثير من تلك التي أثارها في ولايته بين عامي 2017 و2021.

أما هاريس فترى في تعهد ترامب رفع التعرفات الجمركية “جنوناً”، في الوقت الذي لمّحت إلى عزمها في حال فوزها بالاستمرار في السياسة التي انتهجها الرئيس جو بايدن خلال رئاسته، والتي قامت على “تنظيم التنافس” بين واشنطن وبكين عالمياً، وابقاء الاتصالات السياسية والعسكرية مفتوحة بين الجانبين تفادياً لصدام مباشر.

قد تكون الصين، وإن لم تُفصح عن ذلك، أكثر ارتياحاً للتعامل مع هاريس برغم أنها لم تزر الصين أبداً، وذلك لأن المرشح لمنصب الرئيس على لائحتها حاكم مينيسوتا تيم والز، زار الصين أكثر من 30 مرة وعمل مدرساً للتاريخ واللغة الإنكليزية في جنوب الصين بين عامي 1989 و1990، أي في الفترة التي جرت فيها أحداث ساحة تيان آن مين.

ويُركّز الجمهوريون في حملاتهم الانتخابية على هذه الزيارات، ويعتبرون أن هاريس ستكون متساهلة جداً مع الصين بسبب تيم والز. وهناك نواب جمهوريون يطالبون بفتح تحقيق في ما يصفونه بـ”العلاقات الودية” بين والز وبكين.

لا تقف أميركا عاجزة فقط عن وقف الحربين (الحرب الروسية الأوكرانية وحرب غزة)، مضافاً إليهما حرب السودان التي مضى عليها 500 يوم، بل تشي الوقائع أن العالم يشهد 56 نزاعاً في الوقت الحاضر، وهو أعلى رقم منذ الحرب العالمية الثانية

وعموماً، لم تكن إدارة بايدن، ودية حيال الصين في كثير من المجالات وخصوصاً في ما يتعلق بالقيود التي فرضتها على الشركات الأميركية التي تُصدّر أشباه الموصلات إلى بكين وأنواع أخرى من التكنولوجيا المتقدمة، وفرضت موجات متتالية من العقوبات على شركات صينية بتهمة التعامل مع روسيا وإيران. واتخذ بايدن موقفاً متشدداً في قضية تايوان، بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا قبل سنتين ونصف السنة، وأعلن أنه سيدافع عن الجزيرة في حال حصول غزو صيني، في تخلٍ واضح عن مبدأ “صين واحدة ونظامان”. وزنّر بايدن الصين بأحلاف عسكرية واقتصادية، مراهناً على أن من يكسب معركة آسيا يكسب المعركة على زعامة القرن الـ21.

ومع أن بايدن تراجع عن كثير من القرارات التي اتخذها ترامب، فإنه لم يلغِ التعريفات الجمركية كان فرضها سلفه على الواردات الصينية، ولم يكتف بذلك، بل أسبغ على التنافس مع الصين لباساً إيديولوجياً، عندما صور الصراع في العالم أنه دائر بين “أنظمة ديموقراطية” تقودها أميركا، و”أنظمة استبدادية” تتزعمها الصين وروسيا.

وإلى الصخب الأميركي الداخلي وما يمكن أن تفرزه انتخابات 5 تشرين الثاني/نوفمبر من نتائج تنعكس، لا محالة، على العلاقات الأميركية – الصينية، تحمل زيارة سوليفان في طياتها اعترافاً أميركياً ضمنياً بالحاجة إلى تعاون الصين لتهدئة توترات عالمية تكاد تخرج عن السيطرة. وفي الخلفية، تتسارع تطورات مقلقة في الحرب الروسية-الأوكرانية، بعد الدخول الأوكراني إلى منطقة كورسك الروسية، والردود الانتقامية لروسيا سواء على الجبهات أو بموجات القصف الصاروخي وأسراب المُسيّرات. وهناك الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة والضفة الغربية والجبهات المتوترة من لبنان إلى اليمن والعراق.. وصولاً إلى إيران.

لا تقف أميركا عاجزة فقط عن وقف الحربين، مضافاً إليهما حرب السودان التي مضى عليها 500 يوم، بل تشي الوقائع أن العالم يشهد 56 نزاعاً في الوقت الحاضر، وهو أعلى رقم منذ الحرب العالمية الثانية.

إلى ماذا يؤشر هذا؟

يسعى رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردون براون في مقال نشره في صحيفة “الغارديان” البريطانية في 24 آب/أغسطس الماضي، إلى تفسير وصول العالم إلى مستوى من الخطورة لم يشهده منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، فيقول: “العالم الذي تُشتت انتباهه الحملات الانتخابية المحلية، والانشغال بالانقسامات الداخلية، والتحولات الجيوسياسية المزلزلة تحت أقدامنا، يمشي نائماً نحو مستقبل قائم على عالم واحد ونظامين، ومستقبل يضع الصين في مواجهة أميركا”، ليخلص إلى الاستنتاج “بأننا ننتقل الآن من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب يتألف من مراكز قوى متعددة ومتنافسة”.

قد تكون الصين، وإن لم تُفصح عن ذلك، أكثر ارتياحاً للتعامل مع هاريس برغم أنها لم تزر الصين أبداً، وذلك لأن المرشح لمنصب الرئيس على لائحتها حاكم مينيسوتا تيم والز، زار الصين أكثر من 30 مرة

والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليس بعيداً عن نظرة براون، وقد صاغ القلق الذي يساوره، بتحذيره أوروبا “من الموت”، في حال لم تحدث نهضة تجعلها تلحق بالولايات المتحدة والصين تكنولوجياً واقتصادياً، لتحجز مكاناً في العالم الجديد.

إقرأ على موقع 180  زيارة بايدن للمنطقة.. فاقدُ الشيء لا يُعطيه!

وإذا كانت الوقائع تتحدث عن نفسها، فإن أوروبا من دون أميركا ما كانت لتُمكّن أوكرانيا من الصمود في مواجهة روسيا، بينما الدور الأوروبي في الشرق الأوسط ولا سيما قدرته على التأثير بإسرائيل، يكاد يكون معدوماً.

في السياقات الانتخابية والعلاقات الثنائية والتأزم الدولي، تندرج زيارة سوليفان لبكين، وتنقل صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية، عن لي هايدونغ، الأستاذ في «جامعة الشؤون الخارجية الصينية»، قوله إنّ «التوترات بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان أو بحر الصين الجنوبي أو الحرب التجارية أو قيود التكنولوجيا العلمية، لن تشهد، على الأرجح، الكثير من التحسن، طالما تستمر الولايات المتحدة في اتباع إستراتيجية احتواء الصين، وبالتالي أقصى ما يمكننا فعله هو التأكد من عدم تصاعد التوترات الحالية وخروجها عن نطاق السيطرة”.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ما معنى أن تكون آسيا خارج "الإمبراطورية"؟