السيسي في أنقرة.. العلاقة التركية المصرية تدخل مرحلة جديدة

ليس من باب المصادفة أن يختار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي زيارة أنقرة في هذا التوقيت الإقليمي الحسّاس، وبخاصة في ظل تقديرات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ماضِ في حرب الإبادة المفتوحة ضد غزة، برغم محاذير عدم تجاوبه مع حاجة واشنطن لوقف النار وتمسكه بمحور فيلادلفيا إلى حد اتهام مصر بالتغاضي عن تعاظم قوة حماس خلال السنوات الماضية.

ثمة اعتقاد جازم أن اندفاعة الجانبين المصري والتركي إلى تحويل التقارب بينهما إلى تحالف سياسي إقليمي ليست وليدة الصدفة، ذلك أن الطرفين باتا مقتنعين بضرورة تجاوز خلافاتهما والمضي قُدماً باتجاه إعادة تفعيل المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي، الأمر الذي من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في العلاقات الثنائية وصياغة مقاربات مشتركة في العديد من الملفات الإقليمية، وأولها ملف غزة، حيث تُشكل مصر بوابة إلزامية لدخول كل دول العالم إلى قطاع غزة.

من هنا يمكن طرح مجموعة من الملاحظات المتصلة بالقمة التركية – المصرية:

أولاً؛ على اعتبار أن الجغرافيا قدر، وفقاً لتوصيف نابوليون بونابرت، فإن كل الحدود المحاذية لمصر باتت حدوداً مشتعلة من غزة إلى ليبيا والسودان وسد النهضة، فحرب غزة تزيد الضغط على القاهرة مع تمسك جيش الإحتلال الإسرائيلي بمحور فيلادلفيا ومعبر رفح، أما الحدود مع السودان فهي مشرعة لمزيد من الإشتعال مع اندفاع “الدعم السريع” في مواجهاته مع الجيش السوداني، بالمقابل، فإن الحدود مع ليبيا تشهد يومياً تسرب مئات المسلحين بالاتجاهين وفقاً لإيقاع الداخل الليبي المتفجر منذ 13 عاماً، لكن الأهم أن تركيا هي عملياً جزء من دول الطوق المصري، بدليل وجود تناقضات وتفاهمات في العديد من الملفات، فضلاً عن حاجتهما لترسيم حدودهما البحرية في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، حيث ستحاول  أنقرة إقناع القاهرة بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بهدف تسريع عمليات التنسيق والتعاون في ما يخص تطوير حقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، والمساهمة في نقل الغاز المصري إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.

ثانياً؛ مع تطور الاستفزازات الاثيوبية لمصر والصومال مؤخراً، عبر القاعدة البحرية الاثيوبية في “صوماليا لاند” بات لدى أديس أبابا حضور بحري إلتفافي متطور يجاور مصر نظرياً في عمقها البحري الاستراتيجي (البحر الأحمر)، وهذه القاعدة لا يبدو أنها بعيدة عن الدعم الإسرائيلي – الإماراتي، لذا يستوجب الأمر اجراء تفاهمات مع أنقرة المتواجدة في الصومال بقاعدة عسكرية وحضور سياسي واقتصادي متقدم، تحسباً لأي مغامرات مستقبلية يراد فيها حصار مصر لدفعها للتنازل عن دورها في غزة وأيضاً من أجل تشجيع أنقرة على الإستفادة من نفوذها الإفريقي من أجل إطلاق وساطة بين القاهرة وأديس أبابا لمنع انفجار قضية سد النهضة.

ثالثاً؛ مع المصافحة التاريخية بين السيسي وأدروغان، على هامش افتتاح كأس العالم في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 في الدوحة، بدأ الرئيس التركي بإحداث انعطافة سياسية في تعامله مع عدد من ملفات المنطقة، وظهر للعيان أنه تخلى عن السياسة الخارجية المؤيدة لحركات الإسلام السياسي التي انتهجها بعد “الربيع العربي” بعدما أدرك أن الإسلام السياسي لن يكون هو الذي يمنحه الإمتداد العالمي، التي سعى لتحقيقه منذ فترة طويلة..

رابعاً؛ ثمة عودة تركية إلى خطاب يمزج بين القومية التركية والإسلام السياسي المُخفّف (لايت)، على اعتبار أن النهج السياسي التركي طوال عقد من الزمن أدى إلى حرق الجسور مع العديد من الدول الإقليمية والغربية، ما جعل مشاكل تركيا الاقتصادية تتفاقم وكلف الأمر “حزب التنمية والعدالة” خسارات انتخابية باهظة؛ من دون اغفال التمايز القطري الذي تمثل بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع مصر، فيما يبقى الملف السوري عالقاً، وربما يتقدم الدور المصري على خط الوساطة بين دمشق وأنقرة لأجل تسريع وتيرة التطبيع التي تعترضها شروط وضعتها الحكومة السورية، وأبرزها انسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية.

ثمة مصلحة اقتصادية للبلدين في تطوير العلاقات، لا سيما وأن البلدين سيحتفلان في العام 2025 بمرور مئة سنة على إقامة أول علاقات ديبلوماسية بين الدولتين التركية والمصرية. وتطمح القاهرة وأنقرة إلى زيادة حجم التبادل التجاري بينهما من 10 مليار دولار إلى 15 مليار دولار في العام 2025

والأكيد أن هذه النهج الانفتاحي سيجعل إردوغان يُقدّم تنازلات في القضية الأكثر تعقيدًا: دعم جماعة الإخوان المسلمين المصرية، حيث قام بتقييد حضورها وحضور شبكات الجماعة وقادتها المنفيين في تركيا وطلب منهم تخفيف انتقاداتهم للسيسي والمؤسسة العسكرية، وهذا الأمر قد ينسحب مستقبلاً على جماعات المعارضة السورية المقيمة على الأراضي التركية.

الجدير ذكره أنه مع المصالحة التركية – السعودية والتركية – الإماراتية، وجدت مصر نفسها مضطرة لتجاوز ملف الاخوان المسلمين في المنطقة لمصلحة ملفات أكثر أهمية، من هنا كانت لافتة للانتباه جولات الحوار الحاصلة بين المخابرات المصرية وبعض أجنحة الإخوان المسلمين المصرية، سواء في لندن أو بيروت.

خامساً؛ ثمة مصلحة اقتصادية للبلدين في تطوير العلاقات، لا سيما وأن البلدين سيحتفلان في العام 2025 بمرور مئة سنة على إقامة أول علاقات ديبلوماسية بين الدولتين التركية والمصرية. وتطمح القاهرة وأنقرة إلى زيادة حجم التبادل التجاري بينهما من 10 مليار دولار إلى 15 مليار دولار في العام 2025، في سياق المرحلة الأولى من خطة تطوير العلاقات بين البلدين. وإذا كانت تركيا تطمح بالاستثمار في اليد العاملة المصرية، فإن القاهرة تريد أن تستفيد من الاستثمارات التركية فضلاً عن تطوير صناعاتها الدفاعية، وهذا يعني أن القاهرة باتت شريكاً راغبًا في التعاون العسكري وتحديداً لجهة اتمام صفقة مسيرات “بيرقدار” وغيرها من الأسلحة التي تتميز بها الصناعة العسكرية التركية، فضلاً عن استئناف المناورات البحرية التي توقفت بين البلدين منذ العام 2013، مع العلم أن مصر تعد أكبر شريك تجاري لتركيا في شمال إفريقيا.

إقرأ على موقع 180  ماذا عن "مصر أولاً"، المشروع العروبي، لبنان وحرائق المنطقة؟

سادساً؛ ثمة قناعة لدى القاهرة وأنقرة بأن زمن التحالفات والعداوات الثابتة قد ولّى، فالتحالف السعودي – الإماراتي – البحريني – المصري في وجه قطر وتركيا لم يعد قائماً، وبخاصة بعد مصالحة العلا، وفي المقابل، نشهد دخول العلاقة السعودية – الإماراتية مرحلة من التوتر الصامت الذي بدأ يخرج للعلن في الآونة الأخيرة، ولا سيما في ظل الاتهامات التي كالتها الرياض إلى أبو ظبي بأنها تقف وراء تمويل وانتاج فيلم “حياة الماعز” (The Goat Life) الذي أطلقته منصة “نتفليكس” قبل أيام قليلة وهو يركز على المعاملة الوحشية السيئة التي يتعرض لها العمال الأجانب ولا سيما الهنود في السعودية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.

سابعاً؛ أطلقت الحرب الإسرائيلية على غزة والتي قاربت دخول سنتها الأولى بعد شهر واحد، دينامية جديدة في المنطقة وجد معها الجانبان المصري والتركي أن هناك مصلحة في تسريع وتيرة التطبيع في مواجهة حالة التغول الإسرائيلية، ناهيك باستشعار البلدين بوجود خطر على مصالحها جراء أية محاولة إسرائيلية لتوسيع الحرب سواء في الشمال مع لبنان أو من خلال تصعيد المواجهة مع الحوثيين في البحر الأحمر.

ثامناً؛ يسعى البلدان للمرة الأولى إلى تهدئة الموقف في ليبيا من خلال اطلاق دينامية المفاوضات واجبار الأطراف الليبية على تقديم تنازلات. ويلعب في هذا السياق رئيس الاستخبارات المصرية عباس كامل ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي كان سابقاً مديراً للمخابرات دوراً في تليين مواقف المتحاربين الليبيين، وتجسد ذلك بفتح أنقرة قنصلية لها في بنغازي مؤخراً. والأكيد أن الوجود العسكري التركي (15 ألف جندي) في غرب ليبيا يمثل مشكلة لمصر، وليس معروفاً أية خارطة طريق سيتبع البلدان لحل هذه المشكلة الأكثر حيوية للأمن القومي المصري، برغم أن إردوغان يأمل بتغيير هذه القناعة المصرية تجاه الوجود العسكري التركي في ليبيا!

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الصورة، النقصان والزمن.. الهارب