طهران تردُّ صاروخياً فلا تُحرج واشنطن.. هل تردُّ تل أبيب فتُحرجها؟

أخيراً، وبعد طول انتظار، جاء الرد الصاروخي الإيراني على الجنون الذي تقوم به القيادة السياسية في "إسرائيل" والمتمثل باغتيال قادة مقاومين أبرزهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ومسؤول ملف لبنان في "فيلق القدس" الإيراني عباس نيلفروشان، فضلاً عن التحضير لغزو بري ضد جنوب لبنان! 

هذا الرد يستدعي سؤالاً عما اذا كانت الضربة الإيرانية ستكون شرارة حرب إقليمية، خصوصاً وأن تل أبيب توعدت بالرد، فيما انضبط سقف الردود الأميركية، تحت سقف الدفاع عن أمن “إسرائيل” ومنع الإنجرار نحو إشتباك إقليمي كبير، فهل يبادر رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو إلى إحراج إدارة الرئيس جو بايدن بتوريطها بالحرب قبل شهر من موعد الانتخابات الرئاسية، فإذا فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب يتصرف على قاعدة وراثة الحرب من سلفه، على أن يتعامل معها بطريقة أكثر قسوة من الديموقراطيين، أما إذا فازت هاريس، فيحاول أن يُكمل ما بدأه مع بايدن الرئيس الأكثر صهيونية و”إسرائيلية” في تاريخ الولايات المتحدة.

كان واضحاً أن الإيرانيين حريصون على استهداف قواعد ومطارات وأهداف عسكرية وعدم الاقتراب من الأهداف المدنية في “إسرائيل”، وجاء بيان الحرس الثوري الإيراني المقتضب عن الهجوم الصاروخي واضحاً بتأكيده أنه يأتي ردّاً على اغتيال إسماعيل هنية والسيد حسن نصرالله والجنرال نيلفروشان (ضابط في قوة القدس)، وأن “إسرائيل” ستواجه هجوماً أعنف إذا ما ردّت على هذا الرد. وفي طيات وحروف هذا البيان محاولة لطمأنة الأمريكيين أن لا هجوم إيرانياً شاملاً على “إسرائيل” بل ضربة عسكرية محدودة، بما يحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية إن أرادت غض النظر عن هذه الضربة وبالتالي فرض التعادل بالضربات بين تل أبيب وطهران.

***

إذاً بعد انتظار دام شهرين على اغتيال القيادي هنية في طهران وبعد أربعة أيام على اغتيال السيد نصرالله في بيروت، ردّت إيران على الاغتيالين بموجة كبيرة من الصواريخ البالستية التي لم يستغرق زمن وصولها إلى فلسطين المحتلة سوى ربع ساعة كانت كفيلة بانزال كل سكان الكيان وقيادته السياسية إلى الملاجىء وحظر التجول في تل أبيب. وسبق الهجوم الصاروخي الإيراني هجوم بالرشاشات والسلاح الأبيض نفذه مقاومان فلسطينيان في يافا (تل أبيب الكبرى) أدى إلى مقتل ثمانية مستوطنين وجرح نحو عشرين، فضلاً عن استشهاد المُنفذين.

لقد جاء الهجوم الصاروخي الإيراني لينهي حال التململ والنقد اللاذع لإيران ولا سيما من قبل جمهور المقاومة على امتداد محورها من اليمن إلى لبنان وبخاصة بعد اغتيال قائد المقاومة اللبنانية وأيقونتها السيد حسن نصرالله واغتيال قادة مقاومين آخرين قبله وبعده، وفي نشوة النجاحات المحققة هذه، أعطت القيادة “الإسرائيلية” الضوء الأخضر لعملية توغل بري باتجاه لبنان، ما جعل بعض هذا الجمهور يتهم إيران بأنها “باعت” حلفاءها. عملياً، قلب الهجوم الإيراني المناخ الشعبي العام لمصلحة إيران ليس في الشارع اللبناني بل في مجمل الشارع العربي ولا سيما الفلسطيني والأردني.

ولعل أهمية الرد الإيراني أنه جاء غداة خطاب نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وعودة قياديي حزب الله إلى الشاشات الإعلامية المحلية والفضائية للرد على هواجس جمهورهم وصولاً إلى التأكيد على استعادة زمام المبادرة والتحكم والسيطرة. كما تزامن ذلك مع دينامية ترقب لكيفية تعامل مقاتلي حزب الله ولا سيما “قوة الرضوان” مع الغزو العسكري البري “الإسرائيلي” لقرى الحافة الأمامية في الجنوب اللبناني في الساعات المقبلة.

***

لنتوقف في هذا السياق، عند تطورات الأسبوعين المنصرمين في لبنان والتي جعلت الكثير من التحليلات السياسية تجنح إلى حد التهليل بربح “إسرائيل” الحرب قبل أن تبدأ وربما كان بنية البعض أن يعقد الدبكة تهليلاً للانتصار “الإسرائيلي”. وحتى لا يتحول الجنوح السابق إلى جنوح معاكس لا بد أولاً من العودة قليلاً إلى الوراء لمعرفة سر “الإنجازات الإسرائيلية” في بلد مكشوف سياسياً وأمنياً وإقصتادياً ومالياً. تبدأ هذه العودة من عند نهاية حرب تموز/يوليو عام 2006 وبدء عملية إعادة بناء الضاحية الجنوبية وكل قرى الجنوب والبقاع التي تُمثل بمعظمها البيئة الحاضنة للمقاومة ليتبين أن هناك سبعة أسباب وراء الإنجاز “الإسرائيلي” كلها مرتبطة بجمع “داتا” واسعة حول الضاحية وبقية مناطق نفوذ المقاومة وهي على الشكل الآتي:

“الداتا” الهندسية: لا داعي للتذكير أن الطيران “الإسرائيلي” الاستطلاعي على أنواعه ولا سيما المُسيّرات لم يغب عن سماء لبنان طوال فترة ثمانية عشر عاماً منذ انتهاء حرب 2006 وبلغت الطلعات الجوية في الأجواء اللبنانية أكثر من 35 ألف طلعة بين طيران مُسيّر وطيران حربي. هذه الطلعات كان هدفها الأساس جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات الهندسية لعملية إعادة بناء الضاحية وتشكيل صورة ثلاثية الأبعاد حول الأماكن الحسّاسة في الضاحية، فالطيران كان يأخذ صوراً تفصيلية لعملية الحفر والبناء في كل الضاحية ويراكم تلك المعلومات ويُحلّلها طوال تلك الفترة، وهي بطبيعة الحال معلومات يُريد من خلالها التعرف على معظم بنية المقاومة فوق أرض الضاحية الجنوبية وتحتها.

“الداتا” المرئية: وهي قسمان، الأول والأهم هو كاميرات المراقبة التي انتشرت كالفطر في كل شوارع وأزقة الضاحية الجنوبية بعد عملية إعادة البناء، وربط تلك الكاميرات بشبكة الانترنت (انترنت، مودم، راوتر وغيرها وكلها عمل عليها “الإسرائيلي” وغيره في السنوات الأخيرة حسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية)، ما سهل على “الإسرائيلي” اختراقها وجمع كمية هائلة من المعلومات عن كل إنسان يتحرك في الضاحية الجنوبية. أما القسم الثاني، فهو شبكة الجواسيس على الأرض بالتأكيد، ولا سيما غداة الإنهيار المالي والنقدي في خريف العام 2019.

“الداتا” الصوتية: بطبيعة الحال اخترق “الإسرائيلي” شبكات الإتصال الأرضية والخلوية في لبنان، وهي مهمة سهلة، ومن خلال هذا الاختراق أيضاً تمكن من جمع معلومات قيمة جداً عن حركة المقاومة وبيئتها. كما تمكن من جمع البصمات الصوتية للكثيرين من قادة المقاومة وكوادرها.

“الداتا” المعلوماتية: لقد سبق أن حذر كثيرون من أن جهات أجنبية وبمسميات مختلفة بادرت إلى الحصول، مجاناً أو بالمال، وبعناوين مختلفة، على “داتا” ضخمة تخص كل لبناني ولبنانية، وآخرها فضيحة منصة (impact) في العام 2023، وقبلها فضيحة برنامج الأمم المتحدة في وزارة المالية (2017).

التكنولوجيا الغربية: ليس خافياً على أحد أن الولايات المتحدة وحلفاءها، وخصوصاً بريطانيا، وضعوا كل امكانياتهم التجسسية بتصرف “إسرائيل”، وهي تمتد من قاعدة التجسس البريطاني في قبرص إلى قاعدة إنجرليك الأمريكية في تركيا، وغيرهما من القواعد الأمريكية في سوريا والعراق وبعض دول الخليج، إضافة إلى الأقمار الصناعية التي ترصد أنفاس كل خصوم “إسرائيل” في المنطقة، ويندرج في السياق نفسه برنامج التجسس “الإسرائيلي” على الهواتف الخلوية المعروف بإسم “بيغاسوس”.

إقرأ على موقع 180  ماذا إذا رفضت إيران المسودة النووية الأوروبية؟

العلاقة مع أجهزة مخابراتية عربية: هذه العلاقة بين “الموساد” وتلك الأجهزة صحيح أنها غير مقيدة بتاريخ محدد، إذ أن بعض الأجهزة العربية تتعاون مع “الإسرائيليين” منذ نشوء الدول العبرية، غير أن هذه الظاهرة نشطت وتوسعت غداة حرب تموز/يوليو 2006، من خلال الإجتماعات الدورية لقادة أجهزة مخابراتية عربية بحضور قيادة “الموساد”. وزادت وتيرة التنسيق وتبادل المعلومات مع اندلاع الحرب على سوريا لتضم دولاً جديدة في ظل مرحلة التطبيع التي انطلقت لاحقاً في سياق ما تسمى “المعاهدات الإبراهيمية”.

الحرب السورية: ان مشاركة حزب الله في الحرب السورية شكّلت فرصة ذهبية لـ”الإسرائيلي” لجمع معلومات عن كوادر حزب الله من مستوى قادة إلى مستوى كادر وسطي وأحياناً إلى مستوى مقاتل، وهذا يعني أن أكثر من ثمانين بالمئة من جسم الحزب المقاتل الذي شارك في الحرب السورية كان منكشفاً، وزاد الطين بلة الاعتماد على الهواتف الخلوية والظهور في السوشيل ميديا.

إن نشوة النصر التي عاشها القادة “الإسرائيليون” باغتيال السيد نصرالله جعلتهم يتجاوزون كل قواعد الاشتباك ويتوجهون نحو عملية برية يزعمون أنها ستكون محدودة. وفي هذا الزعم محاولة لحفظ خط الرجعة، ففي حال فشلها، سيقولون إنها كانت محدودة، وإن لم تفشل قواتهم في الحرب البرية، فإن العملية لن تكون محدودة لا في الزمان ولا في المكان، كما حصل مع الغزو “الإسرائيلي” للبنان عام 1982، عندما زعمت “إسرائيل” أن عمليتها ستتوقف عند حدود نهر الليطاني، ولكن مع انهيار مقاومة منظمة التحرير والحركة الوطنية اللبنانية في الجنوب، اندفعت قوات الاحتلال باتجاه العاصمة بيروت للقضاء التام على منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية واخراج الجيش السوري من بيروت. لذلك يصبح السؤال هل سنكون أمام السيناريو العسكري نفسه اليوم؟

إن تكتيك المقاومة الميداني لا يشبه تكتيك الجيوش الكلاسيكية، ففي الحروب بين هذه الجيوش عندما يتقدم الجيش في أرض محروقة مسبقاً، يكون قد سحق معنويات الجيش المعادي له فينكفئ ذلك الجيش أو يستسلم، أما في حالة “حرب العصابات”، فإن تقدم الجيش لا يعني أبداً سيطرته على ميدان المعركة، بل يمكن أن يتحول بتقدمه إلى فريسة للمقاومين، والدليل على ذلك أن الجيش “الإسرائيلي” الذي سيطر على قطاع غزة منذ أشهر ما يزال يواجه حرب عصابات يشنها المقاومون الفلسطينيون يومياً بالرغم من الحصار الذي يعانيه هؤلاء المقاومون. والدليل الآخر هو ما حصل مع الجيش “الإسرائيلي” في حرب تموز/يوليو عام 2006 عندما عجز إثر وصوله إلى مشارف مدينة بنت جبيل والهضاب المطلة عليها من البقاء فيها لأكثر من يومين، فضلاً عن مجزرة دبابات الميركافا في وادي الحجير وسهل الخيام.

إن هذا النوع من الحرب يعني أن أمدها سيكون طويلاً واستنزافياً وينتهي عادة بهزيمة الجيش الغازي، والدليل أن أمريكا بكل عظمتها العسكرية فشلت في فيتنام وأفغانستان والعراق.

كل هذا كان يقوم على افتراض أن المقاومة ستبقى وحيدة في ميدان المواجهة مع “إسرائيل”، لكن الهجوم الصاروخي الإيراني أعاد انتزاع زمام المبادرة من “إسرائيل” وخلط أوراق الصراع في المنطقة ووجّه رسائل متعددة الاتجاهات، أولها إلى المقاومة في لبنان وجمهورها كما لخصومها بأنها لن تسكت على ضرب حليفها الأساسي و”درة تاج” مشروعها في المنطقة، أي حزب الله، حتى لو كلّف الأمر أن تذهب المنطقة إلى حرب إقليمية.

الرسالة الثانية لقادة الكيان “الإسرائيلي”، بأن لجنونهم حدود لن تسمح إيران لهم بتجاوزها وأن الاستمرار باستباحة كل المحرمات في ضرب حلفاء إيران لن يكون أمراً سهلاً ولا يمكن أن يمر بلا عقاب. والرسالة الثالثة إلى الولايات المتحدة بأن إيران غير راغبة بالحرب ولا بتوسيع رقعتها ولكن عدم الرغبة تلك تقف عند حدود الحفاظ على مصالح طهران الاستراتيجية في المنطقة وعدم المس بالنظام الإيراني.

***

لا شك أن القيادة الإيرانية أدركت أن وحشية الغارات على لبنان وتصفية قيادات حزب الله بالإضافة إلى المجازر في غزة والضفة الغربية واغتيال القائد هنية في طهران، كلها أمور تستهدف جر إيران إلى حرب واسعة تكون ذريعة لجر الولايات المتحدة إلى خطة ضرب المشروع النووي الإيراني كحد أدنى مع طموح بإسقاط النظام هناك على غرار ما حصل في العراق وأفغانستان وليبيا. ولكن إيران رأت أيضاً أنها إن تركت “إسرائيل” تتمادى أكثر من ذلك فإنها تخاطر بخسارة حلفائها في المنطقة واحداً تلو الآخر ويجعلها تنكفئ لتلاحقها الضربات على أرضها وتفرض عليها تنازلات كبرى في شتى المجالات.

أبعد من هذين الخيارين، قرّرت إيران خياراً ثالثاً، وهو توجيه ضربة قوية ولكن محدودة لـ”إسرائيل” تحمل في طياتها رسالة واضحة إلى واشنطن بعدم الرغبة في الحرب الإقليمية كي لا تنجر إليها الأخيرة وفي الوقت نفسه ترك المقاومة في لبنان تواصل تصديها لأي توغل عسكري بري. ذلك أن القيادة الإيرانية تعرف جيداً قدرات المقاومة في لبنان ومدى قدرتها على الصمود وعلى توجيه ضربات ميدانية موجعة للجيش “الإسرائيلي” تجعل توغله البري كارثياً عليه.

بالتأكيد ثمة عقل عسكري جامح في “إسرائيل” سيدفعها للرد على الهجوم الإيراني بهجوم أكثر عنفاً في محاولة لاستدراج رد على الرد مجدداً وجر الولايات المتحدة إلى الحرب، وهنا يصبح التشاور بين إيران وحليفتيها الصين وروسيا أمراً أساسياً في اتخاذ القرار بكيفية التعامل مع الأمر في حال انخراط واشنطن في الحرب لأن هذين الحليفين لا يملكان ترف ترك إيران وحيدة في مواجهة أمريكا وحلف “الناتو”، ولكنهما أيضاً غير متحمستين لجر العالم إلى حرب عالمية، بالرغم من أن روسيا ستكون توّاقة لرؤية الأمريكي يغرق في رمال بلاد فارس المترامية الأطراف.

الأكيد أن ما يجري في الشرق الأوسط سيرسم ملامح نظام إقليمي ودولي عبر عنه الكاتب الأمريكي المخضرم في “نيويورك تايمز” توماس فريدمان في مقابلة مع الزميلة “النهار” بأن الصراع في المنطقة بين مشروعين، الأول هو المحور الذي تقوده أمريكا والثاني الذي يضم روسيا وإيران وحزب الله وكوريا الشمالية و”أحياناً الصين”، على حد تعبير فريدمان.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أنجيلا ميركل.. "خاتمة الكبار" في أوروبا