إن الإعلان عن قيام أنظمة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط أو في مناطق أخرى من العالم، كان حكراً على القوى الكبرى، وعلى الأعم الولايات المتحدة، على غرار الحربين اللتين خاضتهما في أفغانستان والعراق. أما أن تبادر دولة بحجم إسرائيل إلى تغيير نظام إقليمي بكامله فتلك مقامرة كبرى يخوضها نتنياهو، مستنداً على اعادة احتلال غزة، وعلى اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله وعدد من قيادات الحزب وتحييد الكثير من مقاتليه بفعل تفجيرات “البيجرز” واللاسلكي، ومحاولة اعادة احتلال أجزاء من جنوب لبنان.
أضعفت الضربات الإسرائيلية على مدى عام حركة “حماس” و”حزب الله” إلى حد كبير، وفكّكت “دائرة النار” من حول إسرائيل، بحسب وصف صحيفة “الوول ستريت جورنال” الأميركية، مما مهّد الطريق للتفكير في تغيير “التوازن الاستراتيجي” في المنطقة.
إن التفكير في الذهاب إلى إيران، لم يكن سببه الضربات الصاروخية الإيرانية على إسرائيل مطلع هذا الشهر أو في نيسان/أبريل الماضي، وإنما شعور الحكومة الإسرائيلية بأن طهران التي قادت “المحور” على مدى عقود، باتت مع ضعف “أذرعها” في موقع أضعف مما كانت عليه قبل عام، برغم هجمات ليل الثلاثاء الماضي في الأول من تشرين الأول/أكتوبر.
هذا الاقتناع، يُحفّز إسرائيل على الانتقال من سياسة الاحتواء إلى سياسة أكثر هجومية حيال إيران. ونتنياهو يخاطب الشعب الإيراني على غرار ما خاطب الرئيس جورج دبليو بوش الشعب العراقي قبل عملية “حرية العراق” عام 2003. إنه على أهبة عمل ما كبير جداً.
وليس صحيحاً أن الرئيس الأميركي جو بايدن يقف على الحياد أو بأنه يُفضّل ألا تهاجم إسرائيل المنشآت النووية أو النفطية الإيرانية كما يزعم. بل إنّ البيت الأبيض يرى أن الديناميكيات التي يُمكن أن تؤدي إليها الضربة الإسرائيلية لإيران مهما كان حجمها، يُمكن أن تساعد في تحقيق الأهداف المشتركة نحو قيام “شرق أوسط جديد”.
يرى مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية جون ألترمان أن الحكومة الإسرائيلية تُعامل الولايات المتحدة “وكأنها سائق في المقعد الخلفي لا يفهم متطلبات الواقع الحالي”
كل الكلام الأميركي عن عدم الرغبة في نشوب حرب إقليمية واسعة، تنجر إليها الولايات المتحدة لا يكتسب أي نوع من الصدقية، والتنصل من المعرفة المسبقة باغتيال نصرالله ومن ثمن العودة بعد ذلك إلى الإشادة بالعملية، التي اتخذ قرارها نتنياهو من غرفة فندقه في نيويورك، أي من الأراضي الأميركية، تُضفي مزيداً من الشكوك حول وجود معارضة أميركية فعلية لكل الممارسات الإسرائيلية منذ عام وحتى اليوم.
قال بايدن إنه يحذر إسرائيل من غزو بري لغزة رداً على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى لا تُصاب إسرائيل بالخيبات الأميركية التي أصيبت بها أميركا عندما شنّت حربي أفغانستان والعراق انتقاماً لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 على مركزي التجارة العالمي ومقر البنتاغون في واشنطن. لكن إسرائيل مضت في الحرب البرية على غزة وقتلت بالقنابل الأميركية حتى الآن أكثر من 42 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء.
وأعلن بايدن أنه يريد فتح المعابر وإيصال المساعدات إلى غزة، لكن نتنياهو أقفل المعابر ومارس سياسة التجويع للضغط على السكان كي ينقلبوا على “حماس”. ورفض بايدن الدخول الإسرائيلي إلى رفح، لكن نتنياهو فعل العكس واجتاح رفح حتى محور فيلادلفيا بين غزة ومصر، ليكون أول تعديل في الحدود مع مصر منذ معاهدة كامب ديفيد. والخيبة الأكبر كانت إضافة نتنياهو شروطاً جديدة، كلما وصلت مفاوضات وقف النار في غزة إلى أمتارها الأخيرة، إلى أن نسف المفاوضات بالكامل، عندما قرّر فتح الجبهة الشمالية مع لبنان.
في أوائل أيلول/سبتمبر، التقى مبعوث بايدن، آموس هوكشتاين مع نتنياهو في موقع محصن تحت الأرض لينقل إليه معارضة بايدن، توسيع الهجمات مع لبنان. بعد ساعات كانت المقاتلات الإسرائيلية تشن غارات مكثفة على القرى في الجنوب والبقاع، لتنفجر معها أجهزة “البيجزر” واللاسلكي من بعد متسببة بسقوط أكثر من 500 لبناني وجرح آلاف آخرين في أكبر حصيلة من نوعها منذ عقدين من الزمن، مرورا باغتيال قيادة “فرقة الرضوان” وعلى رأسها عضو المجلس الجهادي في “حزب الله” إبراهيم عقيل وصولاً إلى اغتيال السيد نصرالله. وبعد ذلك، أعلن نتنياهو أنه حان الوقت لتغيير “الواقع الأمني” في جنوب لبنان، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
في هذا السياق، يرى مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية جون ألترمان أن الحكومة الإسرائيلية تُعامل الولايات المتحدة “وكأنها سائق في المقعد الخلفي لا يفهم متطلبات الواقع الحالي”.
ويقول مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى السابق ديفيد شينكر، إن “7 تشرين الأول غيّر كل شيء.. إننا نتعامل مع إسرائيل جديدة تتابع أهدافها الأمنية بلا هوادة من اعارة اعتبار أقل للحساسيات الأميركية”.
وينتهز نتنياهو أيضاً الانتخابات الرئاسية الأميركية الأكثر احتداماً في التاريخ الأميركي التي ستجري بعد أقل من شهر، مُدركاً أن الديموقراطيين لن يغامروا بمواجهة مع إسرائيل في هذا التوقيت، هذا إذا كانوا راغبين أصلاً بالإقدام على ذلك.
ومع كل الهيجان العسكري الإسرائيلي والطموحات التي حدّدها نتنياهو، هناك سؤال يطرح نفسه بقوة: هل تنجح إسرائيل في ما فشلت فيه أميركا بعد 11 أيلول/سبتمبر؟
يقول مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق ديفيد هيل في كتابه “الديبلوماسية الأميركية تجاه لبنان” إن القادة الإسرائيليين “قاموا بعمليات عسكرية آحادية الجانب، لم تفشل فقط في تحقيق أهدافهم السياسية، بل عزّزت أيضاً موقف معارضي إسرائيل في لبنان. وإضطرت أميركا للتدخل ديبلوماسياً، وحتى عسكرياً عام 1982 من أجل إنقاذها من حماقتها”.
وتحت عنوان “السنة التي شرذمت الشرق الأوسط”، كتبت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، إن “إسرائيل تعتقد أنها تملك الأفضلية. ربما كان ذلك صحيحاً. لكن التحدي يكمن في تحويل البراعة العسكرية إلى مكاسب استراتيجية دائمة وفي نهاية المطاف إلى سلام”.
ويبقى السؤال الأبدي الذي يتهرب منه نتنياهو: ما الذي يُعيد تشكيل الشرق الأوسط؛ توجيه ضربة عسكرية قوية لإيران وتدمير بناها التحتية، أو إيجاد حل عادل ودائم يرفع الظلم عن الفلسطينيين ويُحقّق لهم تقرير المصير وإقامة دولتهم على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967؟