في الواقع، اتضح في العام 2024 أن الشرق الأوسط، بمعناه التقليدي، بات يُشكل نظاماً مترابطاً يتأثر كل جزء فيه بالآخر، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبطرق ظاهرة أو مستترة. وتظهر هذه الديناميكية بشكل جلي في بعض المناطق (مثل لبنان واليمن)، حيث تتجاوز أزماتهما حدود الداخل لتعكس صراعات إقليمية أوسع نطاقاً. أما سوريا، وبرغم اختلاف وضعها عن لبنان واليمن، فإنها تظل عنصراً محورياً في شبكة الصراعات المشتعلة التي تهز المنطقة.
ومن الملفت للانتباه أن تكون ردود الفعل الملحوظة غابت، على المستوى الدولي، تجاه التطهير العرقي الذي نفّذته إسرائيل في غزة، وكذلك تجاه حربها ضد لبنان، وهو ما يعكس الانحدار الأخلاقي الذي يشهده الغرب.
إقليمياً، لا شك أن إضعاف حزب الله في لبنان إلى هذا الحد، يُشكّل ضربة قوية لحليفته الأساسية إيران. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل تداعيات هذه الحرب الإسرائيلية على سوريا التي باتت ـ قبيل سقوط نظام بشار الأسد بأكثر من عقد من الزمن ـ فاقدة لسيادتها الكاملة. وبرغم غياب الأدلة القاطعة التي تُثبت أن إسرائيل تعمدت خلق هذا الواقع الجديد، فإن استهداف حزب الله، الذي كان يُقاتل في سوريا منذ العام 2012 ويعتمد عليها شرياناً رئيساً للتزود بالأسلحة من طهران، يُمثل خسارة لطرف رئيس في المعسكر الذي يُكنى بـ”محور الممانعة”.
انفجار سوريا في قلب منطقة الشرق الأوسط التي تشبه إلى حد كبير برميل بارود، لا يحمل بشائر خير للتوازنات الجيوسياسية في المنطقة
من المستفيد من هذا الوضع؟
المستفيد الأول هي المجموعات المسلحة التي لم تتمكن حتى وقت قريب من السيطرة على أي منطقة سوى إدلب في سوريا. بيد أن هذه المنطقة محاذية لمنطقة الشمال الغربي الممسوكة من تركيا، العدو الثابت لسوريا بشار الأسد، إلى جانب كونها منافسة لروسيا، حليفة النظام، المتواجدة هي التالية في سوريا. وعبر السماح لجماعة “هيئة تحرير الشام” الإسلامية بالاستيلاء على حلب والانطلاق منها نحو دمشق، تكسر تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان حالة الجمود المستمرة منذ عام 2020، وتواصل سياستها المزعزعة للاستقرار في سوريا (حيث كانت دائماً تنظر بريبة إلى سيطرة الأكراد على الشمال الشرقي السوري)، وتُذكّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها قوة إقليمية قادرة على التحرك على أكثر من جبهة.
ولطالما اتسمت العلاقات الروسية-التركية بالتعقيد، ومرت بتحديات وتعقيدات منذ بداية الحرب في سوريا. والحال أن تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في بداية نوفمبر/تشرين الثاني حول احترام وحدة أراضي أوكرانيا، قد زادت من تعقيد الأمور، خصوصاً بعد أن أعربت موسكو عن “دهشتها” حيال استمرار تركيا في بيع الأسلحة لأوكرانيا.
وعلى المستوى المحلي، تحوّلت سوريا تدريجياً – منذ عام 2011 – إلى مزيج سياسي معقد من الحلفاء والأعداء والشركاء الظرفيين، إلى جانب أطراف أخرى. وأثبتت الوقائع المتدحرجة في عشرة أيام، بدءاً من ساعات ما بعد وقف النار في لبنان، أن إسقاط نظام الأسد يُشكل مؤشراً على ديناميكيات جديدة في المجالات الإقليمية، العسكرية والسياسية، لعل أخطرها تعميق تفكك الدولة السورية، الأمر الذي سيطرح علامات استفهام حيال مصير دول الجوار السوري وأقربها لبنان والعراق.
هل سوريا المقبلة ستكون نموذج “الدولة الفاشلة”؟
هذا المفهوم كان محور عدد من الأبحاث في تسعينيات القرن العشرين، في سياق نهاية الحرب الباردة وظهور صراعات معقدة[1]. ويُعرَّف هذا المفهوم بشكل رئيس من خلال أربع خصائص أساسية: أولها، تتوقف الدولة عن أن تكون مركزاً لاتخاذ القرارات؛ ثانيها، لا تعود تمثل رمزاً للهوية الوطنية؛ ثالثها، تفقد قدرتها على ممارسة سلطتها على الأراضي الخاضعة رسمياً لسيطرتها؛ ورابعاً وأخيراً، لا تعود قادرة على استخراج الموارد وإعادة توزيعها.
في سياق متصل، تستوفي سوريا “الرسمية”، أي قبل انهيار حكم الأسد وبعده، عدداً كبيراً من المعايير المتعلقة بمفهوم “الدولة الفاشلة”. ومع أن النظام السابق نجح في التعامل مع أكبر أزمة يواجهها منذ نشوئه قبل 54 سنة، إذ استطاع الصمود على مدى 13 عاماً ضمن قطاع محدود من الأراضي السورية، فإن السبب الرئيس في ذلك يعود أولاً إلى الصراعات المعقدة التي ميّزت الحرب الداخلية المستمرة منذ عقد ونيف من الزمن، وثانياً إلى الدعم الذي قدمته قوى عظمى مثل روسيا والصين لأسباب سياسية واستراتيجية متعددة. إلى جانب ذلك، كانت الدول الغربية، ولا سيما الولايات الماحدة، لا ترغب في عودة تنظيم “داعش” أو في تفشي الجماعات الإرهابية في منطقة تُشكل بالفعل بيئة خصبة للتطرف الإسلامي، ولذلك، انضوى هذا المعسكر تحت سقف “خفض التصعيد” الذي اتبعته الأطراف المنضوية تحت سقف اتفاقية أستانا.
بناءً على ذلك، فإن انفجار سوريا في قلب منطقة الشرق الأوسط التي تشبه إلى حد كبير برميل بارود، لا يحمل بشائر خير للتوازنات الجيوسياسية في المنطقة. فقد أدى تداخل السياسات الداخلية والخارجية إلى إضعاف سوريا كقوة إقليمية، بعدما كانت تُعد من القوى الأساسية التي لا غنى عنها حتى نهاية العقد الأول من هذه الألفية. وعلى سبيل المثال، تبرز نطورات مثل التمدد من هضبة الجولان المحتلة منذ العام 1967 إلى المنطقة الحدودية العازلة والمستقرة منذ أربعين سنة (1974) وصولاً إلى تنفيذ مئات الغارات الجوية الإسرائيلية التي قالت إسرائيل إنها الأعنف والأكثر كثافة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي والتي استهدفت خلال ساعات كل ترسانة سوريا العسكرية جواً وبحراً وبراً، فضلاً عن منشآت حيوية ومراكز أبحاث علمية، في غياب أي إدانة من جانب الحكومة السورية المؤقتة أو اي من رموز “هيئة تحرير الشام”.
ومن خلال خوض حرب مزدوجة ضد حماس وحزب الله، على مدى أكثر من 14 شهراً، نجحت الدولة العبرية في تحقيق ثلاثة أهداف بضربة واحدة، حيث تمكنت من زعزعة أضلاع مثلث إيران-حزب الله-سوريا. ومن ثم، فقد تلقت إيران ضربة قاسية جراء اغتيال قائد حماس إسماعيل هنية في طهران في 31 يوليو (تموز) 2024، ليكون النظام الإيراني هو الخاسر الأكبر في هذه اللعبة الشرق أوسطية، أولاً في فلسطين، ثانياً في لبنان، ثالثاً في سوريا ورابعاً في العراق بقرار تحييده عن المعركة المستمرة في المنطقة.
ببطء ولكن بثبات، تتغير خطوط الصدع في المنطقة، إذ يسعى عدد كبير من الفاعلين لوضع أوراقهم في اللعبة، أو أقله للخروج من مأزقهم قبل وصول دونالد ترامب إلى السلطة. والأرجح أن هذا الأخير لن يرغب في وراثة وضع كارثي، لا في سوريا ولا في أماكن أخرى
ومع أن أنقرة تحرص على التأكيد باستمرار على أن علاقاتها مع طهران “طبيعية” وأن آخر صراع بين الدولتين كان في عام 1639 (معاهدة قصر شيرين بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية)، إلا أنها لن تتردد في زعزعة استقرار أي منافس إقليمي عبر “الحرب بالوكالة”. لذا، فإن تركيا هي الفائزة الكبرى في الحرب الإسرائيلية، كونها استغلت هذه الفرصة الذهبية لتقويض خط جيوسياسي يمتد من بيروت إلى طهران مرورًا بدمشق.
بعد عقد من السياسة الخارجية المضطربة التي اتبعتها أنقرة في السنوات العشر الأولى من الألفية، تبدو الآن أمام فرصة جديدة للاستفادة من موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي، الذي يتوسط عدة أنظمة في “مجمع أمني”، وهو مفهوم وضعه مبتكر هذا المصطلح ليعني “مجموعة من الوحدات التي تكون فيها عمليات الأمن وإلغاء الأمن مترابطة إلى حد يجعل مشاكلها الأمنية غير قابلة للتحليل المنطقي أو الحل المنفصل”. ومن هنا، يظهر الدعم الأخير الذي قدمته تركيا لأذربيجان ضد أرمينيا، وتورطها في النزاع الأوكراني، بالإضافة إلى دورها في زعزعة الاستقرار في سوريا، وبالتالي كيف تمكنت تركيا تحت قيادة أردوغان، من اغتنام الفرص في اللحظات المناسبة.
ومع التحول السياسي الجاري في الولايات المتحدة، أصبح الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى مركزاً للسياسة العالمية. وببطء ولكن بثبات، تتغير خطوط الصدع في المنطقة، إذ يسعى عدد كبير من الفاعلين لوضع أوراقهم في اللعبة، أو أقله للخروج من مأزقهم قبل وصول دونالد ترامب إلى السلطة. والأرجح أن هذا الأخير لن يرغب في وراثة وضع كارثي، لا في سوريا ولا في أماكن أخرى. وفي هذا السياق، تأتي تركيا لتؤكد على ضرورة أخذها في الحسبان في الملفات الشائكة، لا سيما في هذا الصراع الشرق أوسطي الذي يتجاوز التوزيع التقليدي بين المحورين السني والشيعي. ولعل المثل التركي الشهير الذي يفيد بأن “اللعب لا ينتهي أبداً عند العثمانيين”[2] يُعبّر عن هذه الفلسفة بوضوح في مجال السياسة الخارجية.
[1] William H. Zartman (dir.), Collapsed States: The Desintegration and Restoration of Legitimate Authority, 1995.
[2] Barry Buzan, Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security, 2003, p. 44. 3Osmanlı’da oyun bitmez.