الحقيقة؛ هذا ما حدث فعلاً. لقد سقط نظام بشار الأسد بعد ثلاث عشرة سنة من انطلاق الثورة السورية، وبعد إثني عشر يوماً من اندلاع عملية “ردع العدوان” التي شنّتها المعارضة المسلحة، بقيادة “هيئة تحرير الشام”. فما الذي حدث؟ ولماذا لم نكن قادرين على التنبؤ بما حدث؟ أين أخطأت تنبؤاتنا؟ هنا بعض الإجابات الأولية عما حدث، مستنداً لما تكوّن عندي من معلومات أحاول من خلالها تقديم تحليل أولي لما حدث.
ثمة أربعة أسباب وراء سرعة انهيار دفاعات النظام بمواجهة قوات المعارضة وهي الآتية:
أولاً؛ العقوبات الاقتصادية الشديدة على نظام الأسد هي من الأسباب المهمة التي أدت إلى إفقار ركائزه الأساسية وعلى رأسها الجيش، الأمر الذي أدى إلى تفكّكه أمام قوى، لم تكن تعاني اقتصادياً، مستفيدة من اتفاقات آستانة التي منحتها وقتاً للتسلح والتدرب والتخطيط. وفي هذا درسٌ لنا نحن من كنا نقول إن العقوبات الاقتصادية لا تُسهم في إسقاط الأنظمة.
ثانياً؛ غياب القوى الجوية المساندة، والذي سبّبه عناد الأسد ورفضه مصالحة تركيا برغم الإلحاح الشديد من روسيا. تركيا ليست دولة عادية بالنسبة لروسيا الساعية إلى عالم متعدد الأقطاب، وهي حليفٌ استراتيجي لروسيا وإحدى متنفساتها في مواجهة العقوبات الأميركية والغربية. وبات مُرجحاً أن الأسد لم يعِ أن روسيا ضاقت ذرعاً به، وأن “شطارته” باللعب على الحبال العربية الإيرانية الروسية، وربما غيرها، لم تعد يجدي نفعاً. بقي الأسد في روسيا، ولربما أبقي فيها، طيلة الأيام الثلاثة الأولى في محاولة من روسيا لإقناعه بتغيير سياساته تجاه تركيا والمعارضة، غير أنه رفض، فاعتبرت روسيا أن الدفاع عنه أصبح مضيعة للوقت والموارد ولا فائدة تُرجى منه، لتترك طائراتها في مرابضها بينما كانت المعارضة تغذ السير إلى دمشق.
ثالثاً؛ كانت الحرب التي شنّتها إسرائيل على “محور المقاومة” في غزة ولبنان وسوريا، طوال 14 شهراً، كافية لإنهاك إيران وحزب الله، وإجبارهما على سحب قواتهما من سوريا، لنكتشف أن الجيش السوري، المنهك أساساً، وغير المغطى جوياً، تُرك ليواجه مقاتلي المعارضة وحيداً.
لم يعِ الأسد أن روسيا ضاقت ذرعاً به، وأن “شطارته” باللعب على الحبال العربية الإيرانية الروسية، وربما غيرها، لم تعد يجدي نفعاً. بقي الأسد في روسيا، ولربما أبقي فيها، طيلة الأيام الثلاثة الأولى في محاولة من روسيا لإقناعه بتغيير سياساته تجاه تركيا والمعارضة، غير أنه رفض، فاعتبرت روسيا أن الدفاع عنه أصبح مضيعة للوقت والموارد
رابعاً؛ انهارت معنويات الجيش السوري بسرعة فائقة بعد سقوط مدينة حلب، وخصوصاً بعد انتشار شائعات بأنها سُلّمت تسليماً، وبأن بشار الأسد هرب، وأن انقلاباً حدث، من دون أن يظهر الأسد إعلامياً لينفي ذلك. إضافة إلى ذلك، كان هذا الجيش، الذي يُعاني من ضعف كبير في بنيته، يعتمد بشكل رئيس على قرار مركزي مرتبط بالأسد نفسه، وعندما غاب مُصنّع القرار في موسكو، فقد الجيش قدرته على اتخاذ أي قرار. وبالتالي كانت نتيجة مركزية القرار الشديدة التي رسّخها الأسد الإبن، على مدى ربع قرن، وبالاً عليه.
لكن لماذا لم يكن كثيرٌ منا، وأنا أحدهم، يتوقع مثل هذا الانهيار؟
حصل ذلك، برأيي، لأسباب متعلقة بعدم تقدير قدرة التنظيمات اللادولتية على التفكير بشكل دولتي، وعلى التخطيط والتنظيم، والتواصل مع الدول، وليس مع طرف واحد، أو “مُشغّل” واحد، كما كان يظن الكثيرون منا. بل أبدت هذه التنظيمات قدرة فائقة على التعامل ببراغماتية “دولتية” مع أعداء الأمس، في حين كان جمود النظام وعناده يدفعانه للتصرف بعقلية الجمود العقائدي!
ليس هذا وحسب، بل أيضاً وربما بشكل أكثر أهمية، أثبتت هذه التنظيمات قدرتها على التطوير العسكري، واستخدام التكنولوجيا في تطوير أدوات حاسمة في المعركة، كالمُسيّرات. وعندما فتكت مُسيّرة مجهولة المصدر بالكلية الحربية في حمص في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي حتى قبل كل ما جرى في الشرق الأوسط، راحت معظم التحليلات تُقلّل من احتمال أن تكون أي جماعة لا دولتية تقف خلف هذه العملية التي راح ضحيتها أكثر من مائة من الضباط الخريجين والعسكريين وذويهم، على قاعدة أن المسافة التي يجب أن تقطعها المُسيّرة ستكون كبيرة، وهذا يفوق قدرات هذه التنظيمات، إلا أن وقائع عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها “هيئة تحرير الشام”، بيّنت أن هذه التنظيمات اللادولتية قادرة على التعامل مع هذه التكنولوجيا بكفاءة عالية.
مع كل هذا وذاك، ومع سرعة التجاوب الغربي مع ما حدث في سوريا، من إيقاف طلبات اللجوء نحو الغرب، وبدء الحديث عن عودة اللاجئين إلى سوريا، وعن رفع العقوبات، وعن تواطؤ روسي، وعن نصر جماعي للعرب، وتركيا، وأمريكا، وإسرائيل على إيران، يتملكك الشعور بوجود مايسترو ما يعمل في الخفاء! فهل كان الأمريكي هو هذا المايسترو؟