

من المفيد التذكير بأن التأخير في معالجة هذه الملفات من شأنه أن يزيد من مخاطر استمرار تفكك الدولة أولاً، وعودة المخاوف من تدهور الوضع الأمني الداخلي وإن نسبيّاً، واستغلال الوضع القائم لفرض تغييرات أمنية وديموغرافية في البلاد لا يُمكن فصلها عن المشهد الإقليمي لا سيّما في سوريا.
أبدأ من زيارة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى السعودية. تشير معلومات خاصة إلى أن زيارة رئيس الجمهورية لم تساهم في إحداث أي خرق أو تعديل في نمط التعاطي السعودي مع الشأن اللبناني باستثناء دعم رئيس الجمهورية؛ فوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أعرب لعون عن دعمه له، لكنه في الوقت نفسه جدّد موقف المملكة الرافض تقديم أي دعم مباشر قبل إتمام الإصلاحات الموعودة. أما عن طبيعة الإصلاحات التي تطلبها المملكة، فتشير المعلومات إلى أن السعودية تضع مسألة نزع سلاح حزب الله على رأس هذه القائمة، وهو ما يتقاطع مع ما يُحكى عن ضغط أميركيّ يُمارس على لبنان لنزع سلاح حزب الله في مهلة محددة تحت عنوان تطبيق القرار ١٧٠١ وتطبيق الإصلاحات!
وعلى الرغم من قبول حزب الله بالقرار ١٧٠١ وعلى الرغم من التزام قيادته مراراً وتكراراً بتطبيق اتفاق الطائف لا سيّما في مسألة حصر السلاح في يد الدولة، اعتبر الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في آخر مقابلة تلفزيونية له أن سلاح حزب الله “ليس له علاقة بموضوع نزع السلاح الداخلي كون هذا السلاح هو للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي”. من هنا، إن مسألة سلاح الحزب لا يمكن معالجتها بالقوة لأن من شأن ذلك دفع لبنان للانزلاق نحو خطر الاقتتال الداخلي. لذا، تحتاج هذه القضية إلى تفاهمات سياسية وإلى رعاية دولية وإقليمية على غرار اتفاقي الطائف والدوحة، كما تحتاج بالدرجة الأولى إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان وتثبيت الحدود الدولية البريّة المعترف بها، أي خط الهدنة، تبعا للجنة “بوليه-نيوكمب” التي أقرّت ترسيم الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة في العام ١٩٢٣ بحيث تمّ إيداع الاتفاق في عصبة الأمم آنذاك.
تطرح بعض مراكز الأبحاث الغربية خطة تقضي بوضع سوريا تحت الوصاية الدولية ضمن اتفاق دوليّ تحت عنوان إنهاء الحرب في سوريا، بإشراف أميركيّ وبالتنسيق مع الحكومة السورية بحيث يتمّ إشراك عدد من الدول العربية بالإضافة إلى تركيا وروسيا وقوات حفظ السلام الدولية التي ستنتشر في المنطقة العازلة المفترضة بين سوريا والاحتلال الإسرائيلي
وتشير المعلومات أيضا إلى أن الجيش اللبناني سيتسلّم كهبة في المرحلة المقبلة معدات عسكرية لتأمين انتشاره الكلّي في الجنوب (وعد القطريون رئيس الجمهورية باستمرار دفع مبلغ المائة دولار شهرياً للضباط والعسكريين هذه السنة). غير أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ومعه الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على لبنان يضع العهد الجديد في موقف مأزوم داخلياً؛ ذلك أنّ عدم التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار، وأمر هو ليس بجديد على كيان لا يعترف بقانون دوليّ ويحظى بغطاء أميركي بذريعة ضمان الأمن الإسرائيلي؛ من شأنه أن يضع كلاً من رئيس الجمهورية والجيش اللبناني أمام خطر التصادم مع أهالي الجنوب الذين لن يقبلوا باستمرار احتلال أراضيهم، بالإضافة إلى أن ذلك سيدفعهم إلى التمسك أكثر فأكثر بالسلاح في ظل عدم قدرة الدولة على إجبار العدوّ على الانسحاب وفي ظلّ عدم امتلاك الجيش للعتاد اللازم لمواجهة العدو على أرض الجنوب. من هنا، فإن المسؤولية الأولى تقع على عاتق راعية اتفاق وقف النار وتنفيذ القرار ١٧٠١، أي الولايات المتحدة الأميركية، هذا إذا كانت إدارتها الجديدة فعلاً تدعم الاستقرار في لبنان وتدعم رئيس الجمهورية جوزاف عون والمؤسسة العسكرية.
ولا يمكن فصل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وإقدام إسرائيل تدريجياً على توسيع المنطقة التي تحتلها عن خطة دونالد ترامب لتهجير أهل غزة وعن اتساع رقعة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب سوريا وعن الأحداث الدامية الداخلية التي شهدتها سوريا في الأيام القليلة الماضية. كل هذا المشهد أعاد النقاش بشكل صريح عن مشروع إعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط والتي يحكى عنها منذ سنين طويلة، وعن تغيير الحدود المرسومة حالياً في بلادنا على المستوى الداخلي من خلال طرح مشاريع التقسيم والفيدرالية واستعادة خطاب “حماية الأقليات في الشرق”، وعلى المستوى الخارجي من خلال طرح مسألة إعادة ترسيم الحدود البرية والبحرية بين الدول بما يضمن توسيع النفوذ الإسرائيلي على شكل ضمّ مناطق في فلسطين لا سيّما الضفة الغربية وأخرى من خلال إقامة مناطق عازلة في كل من سوريا ولبنان.
وعلى الرغم من اطلالة شبح التقسيم في سوريا بسبب الاقتتال الداخلي مؤخراً، إلا أن ثمّة مشروع قديم جديد يتمّ طرحه حاليا وقد يحظى بدعم دوليّ وإسرائيليّ ضمناً. ثمة من يعتبر لا سيّما بعد مشهد الساحل السوري، بأن التقسيم في سوريا قد يؤدي إلى وضع إسرائيل في حالة مواجهة عسكرية مباشرة مع تركيا التي لن تقبل بالتقسيم على حدودها والتي تسعى إلى تثبيت الاستقرار الداخلي السوري حماية لمصالحها في سوريا كما في الداخل التركي. من هنا، تطرح بعض مراكز الأبحاث الغربية خطة تقضي بوضع سوريا تحت الوصاية الدولية ضمن اتفاق دوليّ تحت عنوان إنهاء الحرب في سوريا، بإشراف أميركيّ وبالتنسيق مع الحكومة السورية بحيث يتمّ إشراك عدد من الدول العربية بالإضافة إلى تركيا وروسيا وقوات حفظ السلام الدولية أو الأمم المتحدة التي ستنتشر في المنطقة العازلة المفترضة بين سوريا والاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من عدم واقعية هذا المشروع وعدم وضوح أبعاده وآلية تنفيذه إذ أنه يشبه عملية احتواء لكلّ الجهات المتصارعة على النفوذ في سوريا، إلا أنه قد يشكّل مقدمة لوصاية مشابهة على لبنان إذا لم يلتقط هذا البلد خطورة ما يحدث قرب حدوده الشرقية والشمالية.
لذلك، وأمام كل هذا المشهد، تبدو الدولة اللبنانية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى في البدء جديّاً وعمليّاً بتطبيق مشروع اللامركزية الإدارية الموسعة بالتزامن مع اطلاق ورشة إصلاحية في القضاء بسلطة وقوّة القانون والدستور وليس بالاتكال فقط على ضمائر القضاة كما أشار رئيس الجمهورية في تصريح له مؤخراً. أمام كل ما يحدث، تشكّل هذه الخطوة بداية حبل الخلاص في لبنان لصدّ الانقسامات الطائفية والمذهبية التي يُغذّيها فشل الدولة المركزية.