أي تحديات تنتظر حكومة سوريا الجديدة؟

برغم كلّ الاتفاقيات والوساطات، عادت إسرائيل إلى وتيرة إبادتها الجماعيّة للفلسطينيين في غزّة وتدمير مخيمات ومدن الضفّة الغربيّة. كما أغارت طائراتها على الضاحية الجنوبيّة في بيروت، بحجّة حادثة مشبوهة، لتُعكّر أجواء زيارة الرئيس اللبناني جوزاف عون إلى باريس واللقاء الذي رعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بين الرئيسين اللبناني والسوري أحمد الشرع.

يتزامن ذلك مع استمرار عربدة الجيش الإسرائيلي في الجنوب السوريّ وعبث أجهزة أمن الدولة العبريّة في كامل التراب السوري. مغزى ذلك أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يقُل كلمته الأخيرة ولم يصِل إلى نهاياته في تغيير المشرق العربي وفرض هيمنته الكاملة عليه.. جغرافيّاً وبشريّاً وسياسيّاً.. بلا أي رادع.

***

في لبنان، من الواضح أنه بعد حربٍ إسرائيليّة مُدمرّة ثمة تدخّلات خارجيّة، سواء من “اللجنة الخماسية” التي تضمّ قطر والسعودية ومصر والولايات المتحدة وفرنسا أو من غيرها، مكّنت أخيراً من انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة بعد سنتين من الفراغ وتشكيل حكومة جديدة وأخيراً تعيين حاكمٍ لمصرف لبنان المركزي. هذا كلّه في بلدٍ ما زالت أوضاعه الاقتصاديّة والماليّة والخدماتيّة هشّة للغاية، والمعوقات كبيرة أمام الإصلاحات.. حتّى الملحّة منها.

ربّما اعتاد اللبنانيّون على التدخّلات الخارجيّة في تركيبات حكومات دولتهم، وفي ظلّ تعقيدات التفاوض بين قواهم السياسيّة. إلاّ أنّ السوريين لم يعتادوا يوماً أن تتدخّل دولٌ في ترشيح وزراء أو رفض وصولهم إلى مهمّات كبرى حكوميّة. علماً أنّ تسمية الحكومات في سوريا كانت تخضع لاعتبارات توازنات ذات طبيعة مناطقيّة أكثر ممّا هي الاعتبارات الطائفيّة في لبنان.

***

في سوريا، بالتأكيد تقوم تلك التدخّلات والمفاوضات والتوازنات على من يتولّى الحقائب “السياديّة”، أي رئاسة الوزارة ووزارات المالية والداخليّة والدفاع والخارجيّة، كما المصرف المركزي. بالإضافة إلى الحقائب “الخدميّة” المهمّة، أي الاتصالات لأنّها تخصّ قطاعاً ريعيّاً، والكهرباء.

هكذا تمّ في مهرجانٍ كبير الإعلان عن حكومة جديدة في سوريا، بعد حكومة “تيسير الأعمال” التي استمرّت أكثر من نهاية مدّة الثلاثة أشهر بقليل. حكومة “أصيلة”، ربّما لمدةّ خمس سنوات، ولم يُشَر أنّها حكومة “انتقاليّة” مناطٌ بها مهمّة محدّدة لإعادة تعافي البلاد، ريثما يُصبِح بالإمكان إجراء انتخابات بعد ذلك التعافي.

لقد احتفظ رئيس البلاد برئاسة مجلس الوزراء، كما تبيّن أصلاً من نصّ الإعلان الدستوريّ المؤقت. كما احتفظت الحلقة الضيّقة المحيطة به بالوزارات “السياديّة”، عدا وزارة المالية برغم أهميّتها الأساسيّة في إخراج البلاد من انهيارها الاقتصادي الحالي. هنا جاء الخيار إشارةً للتوجّه نحو تطبيع العلاقات مع منظومتي البنك وصندوق النقد الدوليين. في المقابل، تمّ اعتبار وزارات كالعدل والطاقة، التي تضمّ النفط والكهرباء، والإدارة المحليّة، “سياديّة”. وتسلّمت شخصيّات “تقنيّة” مسؤوليّات الحقائب “الخدميّة”.

التحديات كبيرة. الخيارات صعبة وبخاصّةً أنّ رفع العقوبات الأمريكيّة عن سوريا بتعقيداتها سيتطلّب بجميع الأحوال وقتاً طويلاً. وهنا يبدو حكيماً التوجّه لانخراط الدولة السوريّة من جديد في المنظومة العالميّة للخروج من أزمتها الخانقة، لا سيما عبر البنك وصندوق النقد الدوليين، اللذين قطعا علاقاتهما مع البلاد منذ 2011

***

من الواضح أنّ هذه الحكومة تشكّل رسالةً من السلطة الجديدة في سوريا إلى أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة، من حيث أنّهما لا تنظران إلى سوريا، والمشرق العربي بشكلٍ عام، سوى من المنظور الطائفيّ بين الأغلبيّة والأقليّات.. للإشارة هناك سيّدةٌ وزيرةٌ واحدة وحيدة مسيحيّة وشخصيّة تقنيّةٌ واحدة ووحيدة أيضاً ذات أصولٍ علويّة وشخصيّة أخرى كردية.

يبقى السؤال مطروحاً عمّا إذا كانت الدول النافذة اليوم في سوريا، وفي مستقبلها، ستعتبر أنّ هذه الحكومة تُعبّر عن مشاركةً سياسيّة؟ والأهمّ أيضاً عمّا إذا كانت جميع أطياف المجتمع السوري تعتبر أنّها كذلك؟ هذا على الرغم من أنّه من الواضح أنّ لا مشاركة سياسيّة فيها بالمعنى الحقيقي، إذ تمّ حلّ كلّ الأحزاب السياسيّة في سوريا حتّى صدور قانون أحزاب جديد. بالتوازي جرى حلّ جميع الأحزاب التي كانت قائمة في ظلّ السلطة القديمة كما حلّ جميع الأحزاب التي كانت في المعارضة، وتسمّى في الأدبيات الحالية.. “ثوريّة”. كما أنّ لا مشاركة سياسيّة فيها بمعنى أن خياراتها تضمّنت توجّهاً فعليّاً، أو أنّها نتجت عن تفاعلٍ حقيقيّ، يعيد وحدة التراب السوريّ ويوقف شرذمة إدارات المناطق. كما غياب وضوح التوازنات التي قامت عليها هذه الحكومة بين القوى الإقليميّة والدوليّة النافذة في سوريا، سوى مراعاة ملحوظة لدولة قطر وأخرى لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة.

التشارك الفعليّ في الوزارة الجديدة هو تشاركٌ بين السلطة المنتصِرة و”تكنوقراط”، أغلبهم مشهودٌ لهم بخبراتهم في مجالاتهم. وكذلك تشاركٌ مع المنظّمات غير الحكوميّة. لكنّ أسس هذا التشارك لم تبدُ واضحةً من “البيان الحكومي” الذي أعلنه الرئيس ومن كلمات الوزراء، المتناقضة أحياناً، كي يتمّ تحديد الأولويّات المستعجلة قبل الآمال المستقبليّة البعيدة، ومنهج التفاعل بين سياسات السلطة القائمة والوزارات السياديّة وبين من يُفترض أنّهم فقط تقنيّون، لا رأي سياسيّاً لهم. إذ تتطلّب الأمور جهوداً استثنائيّة وتنسيقاً قويّاً ضمن الحكومة الجديدة في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والمالية والخدماتية المتدهورة، الأسوأ من الهشّة، وفي ظلّ استمرار العقوبات الأمريكيّة واستمرار التشرذم السوري والاختلاف الكبير بين طرق الإدارة والخدمات العامّة بين المناطق برغم “التحرير”. هذا عدا قضايا إعادة النازحين والمهجرّين وإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.

إقرأ على موقع 180  بيروت وجنوب لبنان.. ذاكرة الحب والثقافة والسياسة

***

التحديات كبيرة. الخيارات صعبة وبخاصّةً أنّ رفع العقوبات الأمريكيّة عن سوريا بتعقيداتها سيتطلّب بجميع الأحوال وقتاً طويلاً. وهنا يبدو حكيماً التوجّه لانخراط الدولة السوريّة من جديد في المنظومة العالميّة للخروج من أزمتها الخانقة، لا سيما عبر البنك وصندوق النقد الدوليين، اللذين قطعا علاقاتهما مع البلاد منذ 2011. وبالتحديد كون أنّ الانخراط ضمن هذه المنظومة لا يُمكِن أن يجري من دون موافقة الولايات المتحدة التي لها كلمتها في مجلس إدارة هاتين المؤسستين. ولا يُمكِن نسيان أنّ البنك الدولي كان بين أوّل من قَبِلَ التفاوض الثنائي على ديون الدولة السوريّة بعد إفلاس عام 1986 وكسر آليّة فرض شروط “نادي باريس” القاسية. ولا يُمكِن تصوّر أن تسير سوريا نحو “اقتصاد حرّ” حسبما تتمّ الدعوة إلى الأمر اليوم من دون الانخراط في المنظومة الدوليّة.

تستطيع هاتان المؤسستان حشد الدعم الدولي، وأن يكون مِنَحاً وليس قروضاً، لأنّ سوريا بالتعريف الدوليّ دولة “هشّة” الآن ولا تحتمل قروضاً جديدة، كما تستطيع المؤسستان إيجاد آليّات لهذا الدعم مقبولة دوليّاً، أكثر بكثير من منظّمات الأمم المتحدة التي تعاني أصلاً من وقف التمويل الأمريكي لها. بالطبع لا يعني هذا القبول بإملاءات، بل العبرة في قدرة الحكومة على التفاوض في طرح الأولويّات والتوافق على الإصلاحات الاقتصاديّة والماليّة الضروريّة. كما هو الأمر اليوم بالتحديد في لبنان بعد انهياره الماليّ. أضِف أنّ الانخراط في منظومات دوليّة كهذه، شاركت سوريا أصلاً في تأسيسها، يساعد من حيث ما تتمتّع به من شفافيّة أكبر في الإجراءات في تخفيف ضغوط الدول النافذة في سوريا لزيادة نفوذها أكثر عبر المال والمنافع الاقتصاديّة.

***

يُمكِن بالتأكيد انتقاد سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، وبخاصّةً في زمن ما كان يُسمّى “توافق واشنطن”. إلاّ أنّهما أكثر حساسيّةً للعمل على فرض سياسات “حماية وعدالة اجتماعيّة” في ظلّ اقتصاد “حرّ” يتضمّن احتكارات من سياسات ما قبل انتفاضة 2011 ومن مضمون بعض خطابات الوزراء الجدد.

لقد جاءت هذه الحكومة في توقيت تحذيرٍ أمنيّ غير مسبوق، عاد ليذكّر بالأولويّات والتحديّات الآنيّة. فهل ستستطيع الحكومة السوريّة “العتيدة” إخراج سوريا من عنق الزجاجة أكثر من الحكومة اللبنانيّة؟

لا غرابة في الموازاة بين تحديات إعادة النهوض بالدولة بين البلدين. فمصير بلاد الشام واحدٌ في ظلّ.. “عصر الذئاب”.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  بيروت وجنوب لبنان.. ذاكرة الحب والثقافة والسياسة