

انتهى عصر التجارة الدولية الحرَّة الواسعة النطاق، المبنية على نظام قائم على القواعد، والتي ساعدت الولايات المتحدة في إنشائها.
في 2 نيسان/أبريل الجاري، وفي حدثٍ مسرحي أُقيم في البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن سلسلةٍ من الرسوم الجُمركية الضخمة التي من شأنها أن تؤثر على كل دولة أجنبية تقريباً. الإعلان لم يكن مفاجئاً، فمنذ اللحظة التي تولَّى فيها منصبه، كان المحللون الماليون؛ في مختلف أنحاء العالم؛ يعرفون أن ترامب سوف يُلغي الحواجز التجارية. لكنَّ حجم ونطاق الرسوم الجمركية، التي قرَّر فرضها الأسبوع الماضي، أكدَّ أسوأ مخاوفهم. فبضربة واحدة، فرضت واشنطن قيوداً صارمة على التجارة الدولية.
في تبريره لـ”هذا العصر الجديد” من الرسوم الجمركية، زعم ترامب أن الولايات المتحدة ضحية لممارسات تجارية غير عادلة. وكما هي الحال مع العديد من أفكار ترامب، فإن ادعاءاته تحمل أكثر من ذرَّة من الحقيقة. على سبيل المثال، استغلت الصين قواعد منظمة التجارة العالمية للحصول على إمكانية الوصول إلى أسواق البلدان الأخرى لصادراتها، وفي الوقت نفسه، قيَّدت إمكانية الوصول إلى أسواقها. كما استخدمت بكين إعانات واسعة النطاق وتدابير كثيرة مختلفة لتعزيز القدرة التنافسية العالمية للشركات الصينية، بما في ذلك إجبار الشركات الأجنبية على الاعتماد على منتجاتها التكنولوجية.
عصر الرسوم الجُمركية
لكن بدلاً من إصلاح القواعد التي استغلها بعض شركاء الولايات المتحدة التجاريين، اختار ترامب تفجير النظام بأكمله. لقد استخدم الفأس في التعامل التجاري مع كل شريك تجاري رئيسي للولايات المتحدة تقريباً، ولم يوفر أياً من حلفائه أو منافسيه. نعم، تواجه الصين الآن رسوماً جمركية مرتفعة، ولكن الأمر نفسه ينطبق على اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. فالعلاقات الاقتصادية طويلة الأمد، ذات المنفعة المتبادلة، والتحالفات الجيوسياسية، لم تعد ذات أهمية كبيرة اليوم بعد سياسة فرض الرسوم الجُمركية.
ويأمل كثيرون أن تكون الرسوم الجُمركية التي فرضها ترامب عابرة ــ أي أن واشنطن، وفي مواجهة هبوط الأسهم وارتفاع الأسعار، سوف تتراجع عن هذه القيود. ومن الممكن أن يلجأ البيت الأبيض إلى خفض بعض معدلاته، وبخاصة مع تزايد الضغوط من قبل الدول التي تسعى للحصول على إعفاءات، أو تفاهمات جديدة استثنائية. لكن الحقيقة هي أن عصر التجارة الحرَّة من غير المرجح أن يعود مرة أخرى. وبدلاً من ذلك، فإن أي مساومة بين ترامب والدول الأخرى سوف تُشكل نظاماً اقتصادياً ناشئاً يتميز بالحمائية، والتوترات، والصفقات التجارية. ولن تكون النتيجة مزيداً من الوظائف للأميركيين، كما تعهد ترامب. سيكون الأمر مضطرباً للجميع، ولسنوات طويلة مقبلة- بما في ذلك الأميركيين.
حسابات خاطئة
بحسب ترامب، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى فرض رسوم جمركية ضخمة لتصحيح اختلالات التجارة لديها. هناك القليل من المنطق في هذه الفكرة. من المؤكد أن الولايات المتحدة تُعاني من عجز تجاري مع معظم البلدان، وليس هناك ما هو خاطئ في هذه الحقيقة. ولكن ذلك يعني، ببساطة، أن البلدان الأخرى تتمتع بالكفاءة في إنتاج السلع التي يريدها المستهلكون الأميركيون، لذلك يشتري الأميركيون من هذه البلدان أكثر مما تشتري منهم. ومع ذلك، يعتقد ترامب أن أي دولة تحقق فائضاً تجارياً ثُنائياً مع الولايات المتحدة هي دولة “تغش” بحكم التعريف، وأن التعريفات الجمركية المتبادلة ضرورية لتحقيق التوازن.
ترامب فجّر النظام التجاري بأكمله.. الرسوم الجمركية ستخلف آثاراً سلبية ضخمة.. والمستهلكون والشركات الأميركية لن يكونوا بمأمنٍ عنها وسيتحملون تكاليف الاضطراب أيضاً
ولكي يقرر ترامب الرسوم الجمركية التي سيفرضها، قام؛ ظاهرياً؛ بحساب كل الطرق التي تغش بها الدول ــ بما في ذلك من خلال الرسوم الجمركية، والحواجز غير الجمركية، والتلاعب بالعملة ــ لتقدير إجمالي “الرسوم الجمركية” التي فرضتها كل دولة على الولايات المتحدة. وفي الممارسة العملية، كان هذا يعني تقسيم العجز التجاري الأميركي مع دولة ما على أساس كمية السلع التي تصدرها تلك الدولة إلى الولايات المتحدة. (تستثني هذه الحسابات بشكل ملائم تجارة الخدمات ــ مثل السياحة والتعليم وخدمات الأعمال ــ التي تحقق فيها الولايات المتحدة فائضاً مع معظم شركائها التجاريين). وبعد ذلك، أعطى ترامب بسخاء لكل دولة خصماً قدره 50%، وفرض رسوماً جمركية متبادلة على واردات السلع تُعادل نصف هذا الإجراء.
ولكي نفهم كيف يعمل هذا عملياً، فلننظر إلى الصين. في عام 2024، كان لدى الولايات المتحدة عجز تجاري بقيمة 295.4 مليار دولار مع هذه الدولة، واستوردت سلعاً صينية بقيمة 438.9 مليار دولار. وبناء على ذلك، حسب ترامب أن الصين لديها معدل تعريفات جمركية فعَّال بنسبة 67% على الواردات من الولايات المتحدة ــ أو 295.4 مليار دولار مقسومة على 438.9 مليار دولار. وبناء على ذلك، حدَّد ترامب الرسوم الجمركية المتبادلة على الواردات الأميركية من الصين بنسبة 34% (نصف الـ67%). ويبدو أن هذا الرقم يُضاف إلى الرسوم الجمركية البالغة 20% المفروضة بالفعل، والتي تصل إلى معدل تعريفة جمركية إجمالي قدره 54% على الواردات من الصين، ولكن من يهتم؟
لدى الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية اتفاقية تجارة حرَّة، ولكن كوريا الجنوبية تحقق فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة. ولذلك، لا بُد أن الكوريين الجنوبيين يمارسون الغش، وفقاً لمنطق ترامب. وبحسب حسابات البيت الأبيض، تفرض كوريا الجنوبية تعريفات جمركية بنحو 50% على الصادرات الأميركية. ونتيجة لذلك، فرض ترامب رسوماً جمركية بنسبة 26% على الواردات من كوريا الجنوبية.
ماذا عن الدول التي تحقق الولايات المتحدة فائضاً تجارياً معها؟
تُصدّر الولايات المتحدة سلعاً إلى أستراليا والمملكة المتحدة أكثر مما تستورده من هذين البلدين. ومن المؤكد أن هذا يُظهر أن الولايات المتحدة هي الخائنة في هاتين العلاقتين. ولكن من وجهة نظر البيت الأبيض، فإن الغشّ لا يتم إلَّا من قبل دول أخرى. وفي الواقع، لا تزال هاتان الدولتان تعانيان من رسوم جمركية بنسبة عشرة في المائة. وقد يتساءل البعض: لماذا يتم تطبيق أي تعريفات جمركية في مثل هذه الحالات؟ والجواب، على ما يبدو، هو، لماذا لا؟
إن التعريفات الجمركية في حدّ ذاتها لن تؤدي إلى محو العجز التجاري الإجمالي للولايات المتحدة ــ ما لم تقم البلاد بعزل نفسها تماماً عن التجارة الدولية. ويرجع ذلك إلى أن العجز التجاري هو في الواقع الفجوَّة بين المدخرات المحلية والاستثمار. تظل الولايات المتحدة مكاناً جيداً للاستثمار، ولكن معدل الإدخار الحكومي الخاص منخفض، كما تعاني من عجز ضخم في الميزانية. إذا كان ترامب يريد حقاً تحقيق التوازن في الحساب التجاري، فمن الأفضل له أن يسعى إلى اتخاذ تدابير لتعزيز المدخرات الوطنية. وحتى لو لم يكن لدى الولايات المتحدة عجز تجاري إجمالي، فإنها ربما ستظل تعاني من عجز تجاري مع بعض البلدان وفوائض تجارية مع بلدان أخرى. إن اختلال التوازن التجاري الثنائي هو مجرد طبيعة التجارة الدولية.
ويرى ترامب أيضاً أن الرسوم الجمركية هي أداة لإحياء التصنيع في الولايات المتحدة. لكن هذه الفائدة افتراضية، والتي قد تحدث في المستقبل البعيد، أقل أهمية من التكاليف الواضحة. تشمل الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب شريحة واسعة من المنتجات والشركاء التجاريين، ما يعني أنها ستخلف؛ حتماً؛ آثاراً سلبية على الاقتصاد الأميركي ــ مع تحمل المستهلكين والشركات الأميركية في كل قطاع تقريباً تكاليف الاضطراب.
واشنطن ألقت بظلالها على الاستثمار التجاري والطلب الاستهلاكي، وهذا سيدفع الاقتصاد الأميركي، المتراجع أصلاً، إلى الركود، وسيجر معه بقية اقتصادات العالم إلى الأسفل
وستواجه الصناعات ذات سلاسل التوريد المعقدة، التي تمرُّ عبر بلدان متعددة، مثل صناعة السيارات، العواقب الأكثر خطورة. ولكن أي عمل تجاري استفاد من سلاسل التوريد الفعَّالة من حيث التكلفة (أي معظمها) سوف يضطر الآن إلى تقليص أنشطته من أجل تقليل تعرضه لمخاطر السياسة التجارية والجيوسياسية. وسوف يؤدي هذا؛ حتماً؛ إلى ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلكين، لأن الشركات تُعطي الأولوية للمرونة وليس الكفاءة. وحتى المنتجات الزراعية والآلات والمعدات والسلع التكنولوجية العالية التي تُصدّرها الولايات المتحدة سوف تتأثر سلباً، وذلك بفضل التعريفات الجمركية الانتقامية التي يفرضها شركاء واشنطن التجاريون.
نقطة اللاعودة
ما يزال بقية العالم يتفاعل مع إعلان ترامب. ولكن من المرجح أن تردَّ البلدان بجملة مزيج من الإجراءات الانتقامية والاسترضائية والتنويع. ولكل من هذه الأساليب تحدياتها.
لنأخذ في الاعتبار، أولاً، الانتقام من الولايات المتحدة. لقد تعهدَّت عدَّة دول بالفعل بفرض رسوم جمركية على السلع المُصنَّعَة في الولايات المتحدة، رداً على استفزازات ترامب. ومواطنو هذه الدول غاضبون أيضاً. والمستهلكون الكنديون يقاطعون المنتجات الأميركية، ومن المرجح أن يتجنب السيَّاح من بقية العالم زيارة الولايات المتحدة. ولكن الانتقام يحمل تكاليفه الخاصة لأنه يزيد من حالة عدم اليقين بشأن التجارة العالمية، وهو ما يضرُّ بالاستثمار التجاري.
ولنتحدث الآن عن الاسترضاء. هذا الإجراء يأتي مع مخاطر أقلّ، ومن المؤكد أنه من مصلحة كل دولة تتعرض للرسوم الجمركية أن تتفاوض مع ترامب. لا يمكن تحقيق التوازن في التجارة الثُنائية بين عشية وضحاها، ولكن يمكن للدول أن تعد بشراء المزيد من السلع من الولايات المتحدة وخفض الحواجز أمام تلك الواردات. برَّر ترامب الجولات السابقة من الرسوم الجمركية على أسس أوسع نطاقاً تتعلق بالأمن القومي، واستخدمها كأداة لحمل الدول على الحدّ من الهجرة غير الشرعية وتدفقات المخدرات غير المشروعة؛ ويمكن لشركاء الولايات المتحدة التجاريين أن يعرضوا اتخاذ تدابير جريئة لمنع هذه الآفات من الوصول إلى الشواطئ الأميركية.
إن ترامب يُحبُ الاتفاقيات، في نهاية المطاف، وبالتالي سوف يتعين على كل دولة أن تجدَ الُسبُلَ الأفضل التي تسمح له بادعاء النصر (وهو ما سيفعله في كل الأحوال). ولكن حتى لو وعدت دول أخرى بشراء المزيد من السلع الأميركية، فمن غير المرجّح أن تتقلص فوائضها التجارية مع الولايات المتحدة بسرعة كافية لإرضاء ترامب، مما يتركها عُرضة لتدابير عقابية إضافية. وإذا بدأ الاقتصاد الأميركي في التدهور، بسبب الرسوم الجمركية، فسوف يُلقي ترامب حتماً المزيد من اللوم على بقية العالم.
أميركا تخلَّت عن دورها كـ”معقل للتجارة الحرَّة”.. وتقود نهضة في سياسة الحماية التجارية التي ستضرَّ بالمستهلكين والشركات في جميع أنحاء العالم
ربما تتمكن بلدان أخرى، وبخاصة تلك التي تتمتع بالفعل بعلاقات تجارية قوّية، من تجاوز الولايات المتحدة تماماً. على سبيل المثال، قد تحاول الصين واليابان وكوريا الجنوبية حماية أنفسها بشكلٍ جماعي من آثار التعريفات الجمركية الأميركية، من خلال تكثيف الروابط التجارية المتبادلة فيما بينها. لكن كل واحدة من هذه البلدان تعتمد بشكل كبير على الصادرات لتشغيل اقتصاداتها، وتعاني من ضعف الطلب المحلي. وتهدّد الطاقة الفائضة الهائلة لدى الصين والطلب الضعيف على الواردات، على وجه الخصوص، الاقتصادين الآخرين. ونتيجة لهذا، فمن المرجح أن تجد هذه البلدان نفسها في موقف لا يسمح لها بفتح أسواقها بالكامل أمام صادرات بعضها البعض. ومن جانبهم، أشار الأوروبيون إلى استعدادهم للعمل مع دول أخرى في مجال التجارة. لكنهم لا يريدون أن يصبحوا مكاناً لإغراق صادرات البلدان الأخرى.
ومع ذلك، وفي مواجهة القيود المفروضة على الوصول إلى الأسواق الأميركية وضعف الطلب الاستهلاكي الأميركي، سوف يتطلع بقية العالم إلى تنويع أسواق التصدير، وترتيبات التجارة التي تستبعد الولايات المتحدة، وغير ذلك من الأساليب لحماية أنفسهم من حرب تجارية عالمية وشيكة. لكنَّ الواقع هو أنهم لا يستطيعون فعل الكثير. في الحقيقة، حتى لو تراجعت الولايات المتحدة عن التعريفات الجمركية واسعة النطاق والكبيرة التي أعلن عنها ترامب، فإن الضرر قد لحق بثقة الشركات والمستثمرين. لقد ألقت واشنطن بظلالها على الاستثمار التجاري والطلب الاستهلاكي، وهذا سيدفع الاقتصاد الأميركي المتراجع إلى الركود، وسيجر معه بقية اقتصادات العالم إلى الأسفل.
لقد تخلَّت الولايات المتحدة عن دورها كـ”معقل للتجارة الحرَّة”، وهي بدلاً من ذلك تقود نهضة جديدة في سياسة الحماية التجارية التي من شأنها أن تضرَّ بالمستهلكين والشركات في جميع أنحاء العالم. إن هذه التعريفات الجمركية، إذا ظلَّت قائمة، سوف تُحدّد إرث ترامب ليس باعتباره رجل أعمال ذكياً، بل باعتباره عائقاً مدمراً أمام التقدم الاقتصادي.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) إيشوار براساد، أستاذ في كلية “دايسون”، جامعة كورنيل، وزميل أول في مؤسسة “بروكينغز”.