

تغيّر النظام الدولي. تغيّرت معادلات كثيرة. تفتّتت دول ومعسكرات عريضة. تراجعت أفكار وإيديولوجيات. انتقلت دول كثيرة من معسكر إلى آخر. تغيّرت رؤوس أنظمة وأنظمة، ولكن الثابت شبه الوحيد في المشهد الدولي هو خصومة هاتين الدولتين على ما يربو من خمسة عقود، إلى أن وصلت الأمور إلى الذروة في ضوء المتغيرات الزلزالية التي أعقبت السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ تاريخٌ نسف القواعد والتصورات التي كانت قائمة قبل ذلك اليوم الذي غيّر وجه المنطقة. حتى ليخال المرء أنّ كلّ ما مرّ سابقًا كان تمرينًا بسيطًا تحضيرًا لمواجهة عنيفةٍ قد تتحول إلى مواجهة صفرية قاسية.
نتنياهو والشرق الأوسط الجديد
من دون العودة إلى تفاصيل يعرفها المتابعون تعود إلى مشروع برنارد لويس الذي قدمّه إلى الكونغرس الأميركي في العام 1983، ووثيقة عودي يانون، ودراسة العقيد في الجيش الأميركي رالف بيترز، التي نشرها مركز راند في الخامس من تموز/يوليو 2006؛ عن رؤية الشرق الأوسط بمواصفات أميركية إسرائيلية؛ دخلت المنطقة المربع الأخطر، فنتنياهو يعتبر أنّ إسرائيل أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، ولن يُفوّت هذه الفرصة الذهبية، وأنّ إدارة دونالد ترامب ليست بعيدة من هذا التصوّر. ولكن السؤال المطروح هو حول الطريق لهذا المشروع: هل هي مفتوحة بالشكل الذي يرغب فيه نتنياهو وترامب، أم أنّ هناك عوائق ما زالت تعترض طريقهما؟
الخيار العسكري تهديد أم رفع سقوف؟
كاد التلويح الأميركي بالخيار العسكري أن يكون لازمة دائمة على لسان الرئيس الأميركي في الأسابيع التي أعقبت عودته إلى البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني/يناير 2025، وما زال هذا الخيار يراود بنيامين نتنياهو في أحلامه، بالحد الأدنى منذ العام 2008، وهو يدفع باتجاه حسم الأمور مع إيران بآلة الحرب الأميركية لمرة أولى وأخيرة، وتدمير البرنامج النووي الإيراني، وإسقاط النظام الإسلامي دفعة واحدة إذا أمكن.
لا أحد يناقش في نجاعة آلة الحرب الأميركية وقوتها في تحييد أي عدو، ولكنّ السؤال الإشكالي في الموضوع الإيراني يدور حول الأجندة الأميركية: هل هي تدمير البرنامج النووي في إيران، أو تغيير النظام بالقوة الصلبة، أم تحييد إيران عن المواجهة الأميركية الصينية المقبلة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ إيران دولة بمساحة شبه قارية، وبموارد ليست بسيطة، وهي تلاصق قواعد أساسية للجيش الأميركي في الخليج بضفتيه العربية والفارسية، أم هو غير ذلك؟
المقاربة المنطقية لمصالح الطرفين تُشير الى إمكانية وازنة للاتفاق بين إيران والولايات المتحدة، ولا سيما أنّ الوقت ليس مفتوحًا، وأنّ ترامب عندما يبدأ بتلمُّس عدم نجاح اندفاعته الكبيرة، قد يلجأ إلى الصدام مع الجميع، وقد تكون إيران ضمن سلّة المواجهة المحتملة
السؤال الآخر يتمثّل في الأولوية الأميركية في استراتيجيات الأمن القومي للرؤساء الثلاثة السابقين:
فهل شكّلت إيران فيها الخطر الاستراتيجي على واشنطن، أم الصين؟ وإذا ما افترضنا أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل تخلصتا من الإزعاج الإيراني عبر الحرب العسكرية، مع الأخذ بالاعتبار الكلفة العالية التي قد تنجم عن الصدام العسكري، ولا سيما أنّ العالم لا يعيش فترة رخاء واستقرار، أقلها منذ الحرب الروسية الأوكرانية في شباط/فبراير من العام 2022. إضافة إلى إمكانية تضييع استثمارات خليجية بما يقارب الثلاثة آلاف مليار وعد ترامب نفسه بها في السنوات القادمة. فهل سيخدم هذا الخيار صراعه مع الصين، وهل يُنعش الاقتصاد الأميركي؟
أم أنّ إدارة ترامب ستقع في الفخ الذي وقعت فيه إدارة سلفه جو بايدن، عندما دفعت أوكرانيا إلى الحرب مع روسيا، أو العكس؟ والرئيس ترامب دائم الانتقاد للرئيس بايدن والرؤساء السابقين واتهمهم بتكبيل الولايات المتحدة ودافعي الضرائب في حروب عبثية لم تأتِ إلا بالمآسي للمواطنين الأميركيين؟
في محاضرة لوزير خارجية الرئيس بايدن في جامعة جورج واشنطن في حزيران/يونيو من العام 2022 تحدث أنتوني بلينكن عن العشرية الحاسمة مع الصين، وأن على واشنطن أن تركّز على بكين من دون أن تتعثّر بأي حرب أخرى تعيق لحاقها بالتنين الصيني. لا أحد يقول إنّ الحرب مع إيران تخدم هذا الهدف.
ماذا عن خيارات الطرفين؟
لا تعتبر الولايات المتحدة إيران منافسًا استراتيجيًا، وبما أنها تسيطر على كل دول المنطقة ومقدراتها، وطالما أنها انتزعت منها ورقة ثمينة، تمثّلت في إضعاف حلفائها في المنطقة، وأنّ الهدف هو منع طهران من الوصول إلى صناعة قنبلة نووية، فلماذا المخاطرة؟
وبالنسبة إلى ترامب، وهو الذي يحمل بين يديه ملفات ساخنة كثيرة، ابتداءً من الحرب الروسية الأوكرانية وانتهاءً بالهمّ الصيني مرورًا بهموم منطقتنا، وهو لم ينجح الى اليوم في أيٍّ منها، يتبيّن أن مسألة الصفقة مع طهران هي الأقل كلفة عليه، والأكثر ربحًا له، وهو الذي يفكّر بعقلية التاجر، وليس بعقلية الإيديولوجي. فإذا ما عقدت واشنطن وشركاتها اتفاقات تجارية مع طهران؛ فإنها ستجني أرباحًا كبيرة، وستوفّر على نفسها أكلافًا بغنىً عنها. ولا سيما أنّ غضب ترامب من الاتفاق السابق تمثّل في جزء منه أنّ 90% من الاستثمارات في إيران ذهبت للشركات الأوروبية، وليس الأميركية. نضيف إلى ما تقدّم أنّ ترامب وعد الأميركيين بإنهاء الحروب في الشرق الأوسط، وليس إشعالها.
ماذا عن إيران؟
بدورها، فإنّ وضع إيران وحلفائها اليوم مختلف عما كان قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وأنّ اتفاقًا مقبولًا مع واشنطن، لا يقوّض برنامجها النووي، ويُحرّر اقتصادها المنهك من العقوبات، ويُعيد فتح أبواب العالم أمامها، ما يُغيّر الوضع الداخلي بشكل جذري، سيكون مفيدًا لها ولحلفائها، في لحظة مفصلية يعيشها العالم. وبخاصة اذا كان هذا الاتفاق سينزع ورقة ثمينة من يد نتنياهو وخصوم إيران. من هذا المنطلق يحتدم النقاش في طهران عن كيفية مقاربة محدثة لهذه المرحلة الصعبة من تاريخها وتاريخ المنطقة.
مفاوضات عُمان.. خطوة في مسار معقّد
تبيّن أنّ الجولة الأولى من المفاوضات كانت إيجابية، وهناك تسريبات عن وجود أرضية صلبة لاستكمالها بين الطرفين، وأنّ الجليد قد كُسِر في جولة استمرت نحو ساعتين ونصف الساعة بين الوفدين.
تشير المؤشرات، وقياس المصالح أنّ الطرفين راغبان، ولهما مصلحة في الوصول إلى تفاهم يُبعد شبح الحرب، ويحقق مصالحهما بعيدًا من التهديدات المتبادلة، وقرع طبول الحرب.
المقاربة المنطقية لمصالح الطرفين تُشير الى إمكانية وازنة للاتفاق بين إيران والولايات المتحدة، ولا سيما أنّ الوقت ليس مفتوحًا، وأنّ ترامب عندما يبدأ بتلمُّس عدم نجاح اندفاعته الكبيرة، قد يلجأ إلى الصدام مع الجميع، وقد تكون إيران ضمن سلّة المواجهة المحتملة.
لحسن الحظ أنّ الاتفاق في هذه المرحلة سيُشكّل ربحًا صافيًا لطرفين يحتاجان إليه بقوة، وفي المقابل، يُصبح تضييع هذه الفرصة عبارة عن انتكاسةٍ يستفيدُ منها مرةً جديدة خصوم الولايات المتحدة.. وخصوم إيران.