

كان أحد أبرز نتائج هذا الخلاف تفجير “مجلس الحرب” الصهيوني، الذي تشكَّل مع اندلاع الحرب، والذي ضم رؤساء الأركان السابقين للجيش الإسرائيلي، مثل بيني غانتس وغادي أيزنكوت، إضافةً إلى شخصيات سياسية من المعارضة. كما تجسَّد هذا الانقسام في الخلافات بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الحرب المقال يؤاف غالانت.
من ضمن الأهداف الاستراتيجية التي وضعتها قيادة الاحتلال كانت إعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي في غزة بالكامل، بما يضمن تفكيك البنية الحكومية القائمة، وإلغاء أية إمكانية لأنْ تشكِّل غزة تهديدًا مستقبليًّا للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، طرحت الاستخبارات الإسرائيلية والمؤسسات الأمنية خططاً وسيناريوهات عديدة تهدف إلى تحقيق هذه الأهداف، غير أن الخطط جميعها فشلت في اجتياز العوائق الاجتماعية والسياسية التي تبرز دائمًا في كل مرحلة من مراحل الحرب.
تُظهر هذه الديناميكيات أن المجتمع الفلسطيني في غزة لا يقاوم الاحتلال العسكري فحسب، بل يناضل في معركة أعمق تتعلق بوجوده الوطني ومناعته في مواجهة محاولات الاحتلال الهادفة إلى تفكيك هويته الثقافية والاجتماعية، ما يستدعي فهمًا معمقًا لدور المناعة الوطنية في الحفاظ على استمرارية هذا المجتمع وصموده.
الموقف الوطني الجمعي أفشل محاولات المؤسسات والشركات الأمنية الأمريكية في إيجاد متعاونين محليين لتمرير الخطة “الإنسانية” الجديدة التي تستهدف إعادة هندسة القطاع عبر إدارة الجوع والابتزاز الإنساني
عدوان مُركَّز
في سياق سعي الاحتلال المتواصل إلى تحقيق أهدافه الحربية، عملت “إسرائيل” على التكثيف غير المسبوق للضغط العسكري، مستخدمةً قوة نارية هائلة، في الوقت الذي سعت فيه إلى التمهيد لتمرير مخططات استراتيجية تهدف إلى تجاوز نظام الحكم القائم في قطاع غزة.
فقد كان الهدف الاستراتيجي تأسيس نظام حكم بديل في غزة يراه نتنياهو “نظام حكم جديد” ليس مرتبطًا بـ”حماس” أو “فتح” أو أي مكون وطني فلسطيني آخر، ما يشير إلى محاولة الاحتلال العميقة لإعادة تشكيل الواقع السياسي والإداري في القطاع وفقًا لأجندته الخاصة.
في إطار هذا العدوان المُركَّز، كان القطاع الحكومي في غزة هدفًا رئيسيًّا للهجمات الإسرائيلية، إذ استُهدِفت البنية التحتية الحكومية والمقدرات البشرية استهدافًا منظَّمًا.
لم تقتصر الاستهدافات على الشق الأمني أو القطاع الحكومي فحسب، بل شملت أيضًا رؤساء البلديات ولجان الطوارئ التي تشرف على إدارة شؤون السكان في غزة. وقد اغتال جيش الاحتلال أربعة رؤساء بلديات، واستهدف طواقم فنية عديدة عاملة في هذه اللجان، وأكدت بيانات جيش الاحتلال الرسمية أن الاستهداف كان موجهًا لهذه اللجان وعملها.
في السياق، يمكن قراءة هذه الاستراتيجية الإسرائيلية ضمن إطار نظرية الهيمنة عبر الانهيار، إذ تسعى “إسرائيل” إلى خلق حالة من الفوضى الاجتماعية والسياسية في غزة عبر تدمير هياكل السلطة المحلية والمجتمع المدني.
ولا يقتصر الهدف الإسرائيلي من نظرية الهيمنة عبر الانهيار على الضغط على المقاومة فقط، بل يشمل أيضًا تفكيك أي نوع من البنية الاجتماعية المستقرة التي قد تشكِّل تحديًا لسيطرة الاحتلال. وبذلك، تصبح غزة في حالة دائمة من الفوضى والضعف، ما يعزِّز فرص “إسرائيل” في فرض حل سياسي يخدم مصالحها، سواءٌ عبر الضغطِ على المجتمع الدولي لتسويق هذه الحلول أو فرضِ التغيير الفعلي على الأرض.
فشلت محاولات الاحتلال في تحويل شمال غزة إلى منطقة تخدم أهدافه، إذ واجهت ضربات المقاومة المستمرة حتى اللحظة الأخيرة قبل الوصول إلى تهدئة يناير/كانون الثاني 2025، ما عزز المناعة المجتمعية في مواجهة هذه الاستراتيجيات
الفشل المتكرر
وفي موازاة الإجراءات العسكرية الإسرائيلية في حرب الإبادة، تم استخدام سلاح آخر شكَّل جزءًا رئيسيًّا من الاستراتيجية العدوانية الإسرائيلية، ألا وهو سلاح التجويع. هذا السلاح كان يهدف إلى تعظيم الضغط على الحاضنة الشعبية والمجتمع الغزي إلى الحد الأقصى، محاولًا تحويل الجوع إلى أداة ضغط سياسية ونفسية على سكان القطاع، ودفعهم إلى الانصياع للمخططات الإسرائيلية.
في المقابل، عمل الاحتلال على محاولة فتح خطوط تواصل مع جهات محلية، كانت العشائر الفلسطينية الوجهة الأولى فيها، بهدف استخدام الابتزاز الإنساني كمدخل رئيسي للتعامل مع هذه المكونات المجتمعية.
كان الهدف هو تحويل هذه العشائر إلى وسيط إداري بين جيش الاحتلال والمجتمع في قطاع غزة، ليصبح توزيع المساعدات الأداة الرئيسية لتمرير الأجندات الإسرائيلية، وتوظيفها في خدمة الاحتلال، وتحويل العائلات إلى قنوات تواصُل تعمل وفقًا لمصالحه.
لكن هذه المساعي قوبلت برفض شعبي ووطني واسع، إذ لم يكن الموقف العشائري منفصلًا عن النبض الشعبي، الذي رفض أي نوع من المقايضة بين الجوع والقبول بخطط الاحتلال الاستعمارية.
في السياق ذاته، قدَّم غالانت خطة تُعرف بـ”الفقاعات الإنسانية”، كانت تهدف إلى إنشاء مناطق سكانية “مُطهَّرة” من أية مقاومة أو مكون وطني فلسطيني.
كانت الفكرة تقوم على تقسيم القطاع إلى مناطق صغيرة “آمنة”، حيث يسمح لسكانها بالعودة إليها، ولكن تحت إشراف الجيش الإسرائيلي وبإدارة مباشرة من شركات أمنية أمريكية تتولى مسؤولية الأمن وإيصال المساعدات.
هذه الخطة كانت تهدف إلى خلق “فقاعات” سكانية موجهة لا تحتوي على أي نشاط مقاوم، وبذلك تشكِّل نموذجًا مستقبليًّا للوجود الفلسطيني في غزة وفق الرؤية الإسرائيلية.
ومع ذلك، اصطدمت هذه الخطة من جديد بمتانة قدرة المقاومة على المناورة والتصدي لهجمات الاحتلال، خصوصًا في مواجهة الخطة الأكثر إجرامًا المعروفة باسم “خطة الجنرالات”، والتي هدفت إلى تحويل شمالي قطاع غزة إلى بيئة خالية من أي فعل مقاوم أو مظهر سكاني، ما كان من المفترض أن يُتيح تطبيق أولى نماذج “الفقاعات” هناك.
لكن الخطة فشلت تمامًا، كما فشلت محاولات الاحتلال في تحويل شمال غزة إلى منطقة تخدم أهدافه، إذ واجهت ضربات المقاومة المستمرة حتى اللحظة الأخيرة قبل الوصول إلى تهدئة يناير/كانون الثاني 2025، ما عزز المناعة المجتمعية في مواجهة هذه الاستراتيجيات.
وأما في الجانب الإعلامي والتحريضي، فقد تواصلت موجات التحريض المستمرة التي استهدفت تأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة، محاولة تصوير الأزمات الإنسانية الكبرى وكأنها نتيجة مباشرة لوجود المقاومة واستمرارها في مواجهة الاحتلال.
هدفت هذه المحاولات إلى دفع الشعب الفلسطيني إلى التمرد أو الانقلاب على المقاومة، وكأن الحل الوحيد يكمن في قبول الحلول الإسرائيلية، ما يعكس نية الاحتلال في ضرب السلم الداخلي الفلسطيني لإضعاف جبهة المقاومة.
اختراق الحاجز النفسي
أرجأ الاحتلال جزءًا رئيسيًّا من فشله المتكرر إلى اقتناع نفسي كان موجودًا لدى أهالي قطاع غزة، يقوم على قاعدة أن المؤسسات الحكومية في القطاع، التي كانت تتبع لحركة “حماس”، ما تزال تمسك بزمام الأمور.
ووفقًا لهذا الفهم، طوَّر الاحتلال مجموعة خطوات تكتيكية تهدف إلى اختراق هذا الحاجز النفسي وتعزيز القناعة بأن الوضع القائم يمكن تجاوزه، سواءٌ عبر تغييرات ميدانية أو رسائل سياسية تحمل دلالات رمزية.
وقد بدأ الاحتلال في تنفيذ إجراءات متعددة، كان أبرزها السماح للمؤسسات الدولية بإدارة شؤون مدنية وحكومية في غزة، مثل تشغيل منظمة الصحة العالمية للمستشفيات، وتنسيق السفر والتحويلات الطبية، بشكل مستمر وبمعزل عن وزارتَي الصحة في غزة أو في الضفة الغربية.
كما أحدث الاحتلال تغييرًا في الآلية التجارية، فعدَّل تنسيقات إدخال البضائع إلى القطاع عبر معبر “كرم أبو سالم” الذي يخضع لسيطرته، بعد احتلال معبر رفح وتحويل العمل التجاري بالكامل عبر المعبر الذي يسيطر عليه الاحتلال، وذلك قبل فرض الحصار الكامل.
وفي إطار هذه التغيرات، فُتِحَت خطوط تنسيق مباشرة بين التجار والمنسق الإسرائيلي، ما تجاوز أي دور حكومي فلسطيني في المعاملات التجارية أو الإدارية.
ولتحقيق الهدف ذاته، توسَّع الاحتلال في استهداف القوات الأمنية واللجان الشعبية التي كانت تُعَدُّ مسؤولةً عن تأمين قوافل المساعدات والشاحنات، والحفاظ على الأمن الاجتماعي والمجتمعي؛ ما مهَّد الطريق لظهور عصابات البلطجة، التي كانت تسعى إلى خلق الفوضى والاضطراب في القطاع، ما يساهم في تنفيذ المخططات الإسرائيلية لإضعاف أية سلطة فلسطينية قائمة.
بناءً على الهدف نفسه، استند الاحتلال إلى الخطة الإسرائيلية الجديدة لتوزيع المساعدات التي ظهرت فيما بعد تحت مسمى “الخطة الأمريكية” و”مؤسسة غزة الإغاثية”، التي تهدف إلى تقديم المساعدات عبر الشركات الأمنية الأمريكية، ما يتيح للاحتلال خلق نظام جديد في قطاع غزة، يعتمد على الهيمنة الأمنية الإسرائيلية، وتجاوز أي نظام حكومي فلسطيني أو مكونات اجتماعية فلسطينية.
هذه الإجراءات كلها كانت تهدف إلى ترسيخ قناعة رئيسية مفادها أن “ما كان سابقًا لن يعود”، وأن الاحتلال قادر على فرض نظام جديد في القطاع يتجاوز الإجماع الفلسطيني والقيود الوطنية كافة.
كان صمام الأمان الحقيقي في مواجهة الاحتلال عمق التركيبة الوطنية في غزة، وعمق حضورها وتعبئتها لجمهورها وأهالي القطاع عمومًا، الذي شكَّل الحصن المنيع أمام أي اختراق إسرائيلي فعلي وحقيقي في بنية قطاع غزة الاجتماعية
في السياق، يمكن تفسير هذه الاستراتيجية الإسرائيلية ضمن إطار نظرية الضغط النفسي الجمعي، إذ يسعى الاحتلال إلى ضغط المجتمع الفلسطيني في غزة نفسيًّا على عدة مستويات، بهدف إضعاف ثقة الأهالي في قدرتهم على الاستمرار في مواجهة الاحتلال، بجعل المؤسسات الدولية تتحكم في جوانب أساسية من حياة الفلسطينيين، والسعي إلى تقويض الشعور بالسيطرة الفلسطينية على القطاع.
ليست هذه الإجراءات مجرد محاولات لتغيير الواقع الميداني، بل تهدف إلى تغيير التصورات النفسية لدى السكان، وتحويلهم من حالة التفكير الجماعي المقاوم إلى حالة من الاستسلام أو القبول بالواقع الجديد الذي يفرضه الاحتلال.
عمق التركيبة الوطنية
في ضوء هذه المعطيات كلها، لم يكن العامل الرئيسي الذي يتصدى لكل مخططات الاحتلال القوة العسكرية لفصائل المقاومة، ولا القبضة الأمنية لأجهزة الأمن في قطاع غزة، بل على العكس تمامًا، فالغالبية الرئيسية من أطر قوى المقاومة منخرطة في المعركة الأساسية المرتبطة بالتصدي للاحتلال.
ومع ذلك، كان صمام الأمان الحقيقي في مواجهة الاحتلال عمق التركيبة الوطنية في غزة، وعمق حضورها وتعبئتها لجمهورها وأهالي القطاع عمومًا، الذي شكَّل الحصن المنيع أمام أي اختراق إسرائيلي فعلي وحقيقي في بنية قطاع غزة الاجتماعية.
وتُشكِّل هذه المتانةُ وهذا التماسك صُلبَ المناعة الوطنية للمجتمع الفلسطيني في غزة، الذي على الرغم من كونه مجتمعًا مُسيسًا، وموزع الانتماءات بين مجموعة كبيرة من القوى والفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية، بما في ذلك تلك المتحالفة مع “حماس” والمعارضة لها، يبقى موحدًا في رفضه لأية محاولات لفرض واقع جديد يتناقض مع هويته الوطنية.
وفي هذا الإطار، من الجدير الإشارة إلى أن قطاع غزة، على نحو التحديد، يُعَدُّ من أكثر المجتمعات الفلسطينية التي تنشط فيها الفصائل الفلسطينية بكامل قوتها وأذرعها، لا في المجال الكفاحي فحسب، بل أيضًا في المجالات الاجتماعية والجماهيرية والمنظمات الشعبية الشبابية والنسوية.
وبالتالي، يتجاوز الحضورُ الوطنيُّ في غزة الأشكالَ المنظمة التقليدية للفصائل، ليصل إلى كل منزل وبيت وأسرة. إنه حضور مجتمعي شامل يعكس التكامل بين الأنشطة الكفاحية والاجتماعية، ما يجعل من قطاع غزة مجتمعًا صلبًا في مواجهة أية ضغوطات أو محاولات لتفتيته.
وفقًا لذلك، لم تفلح كل محاولات الاحتلال لخلق نظام محلي جديد متعاون في إيجاد أي مدخل حقيقي لها، سواءٌ عبر التواصل المباشر مع السكان أو الابتزاز الإنساني أو الواقع الأمني الذي يحاول فرضه عبر الوسطاء الدوليين أو شركات المرتزقة الأمنيين.
لقد أثبتت المناعة الوطنية الفلسطينية أنها أعمق وأكبر من أن تُخترَق. هذه المناعة شملت كل القطاعات في غزة، من الشعبية والمؤسساتية والأهلية، وحتى القطاع الخاص ورؤوس الأموال، ما يُظهِر درجة عالية من التمسك بالوحدة الوطنية، التي فشلت محاولات الاحتلال كافة في تقويضها.
وكان هذا واضحًا في الموقف الوطني الجمعي الذي أفشل محاولات المؤسسات والشركات الأمنية الأمريكية في إيجاد متعاونين محليين لتمرير الخطة “الإنسانية” الجديدة التي تستهدف إعادة هندسة القطاع عبر إدارة الجوع والابتزاز الإنساني.
لم يكن هذا الموقف مجرد رفض سياسي، بل كان تجسيدًا حقيقيًّا للمناعة المجتمعية الفلسطينية التي ترفض تحويل الأزمات الإنسانية إلى أداة ضغط سياسية.
إن هذه المناعة المجتمعية لا تتعلق بالقوة العسكرية أو الأمنية فقط، بل كذلك بالتكامل الاجتماعي والفهم الوطني العميق الذي يربط مختلف مكونات المجتمع في غزة برؤية مشتركة تتجاوز الأيديولوجيات والانتماءات الفصائلية.