فائض القوة الخليجي في ظلال “السلام الأمريكي”!

جسّدت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخليجية ذلك التحوّل الكبير الذي تشهده المنطقة العربيّة. تحوّلٌ أفضى بعد خمس عشرة سنة على ما سمّي "الربيع العربي" إلى هيمنة أمريكيّة - دون منافسة تقريباً - على مقدّرات المنطقة برمّتها. من اللافت للانتباه كيف عبّرت الزيارة عن تقلّص نفوذ الدول الكبرى الأخرى، ليس فقط روسيا والصين، بل أيضاً دول أوروبا الغربيّة، وبالتحديد بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ومن اللافت للانتباه أيضاً كيف وضعت الزيارة حدوداً لنفوذ الدول الصاعدة في الإقليم، تركيا وإسرائيل، عدا عن احتواء النفوذ الإيراني.

أبرمت الولايات المتحدة صفقات مالية ضخمة مع كلٍّ من السعودية وقطر والإمارات، وأعلنت عن رفع العقوبات عن سوريا واعترفت بسلطتها الجديدة، وعقدت هدنةً مع اليمن بمعزل مع إسرائيل وأطلقت تفاوضاً حثيثاً مع إيران.. هذا في حين تمّ وضع لبنان تحت وصايتها الواضحة وتُرِكَت إسرائيل تُغرِق نفسها في الإبادة الجماعيّة التي ترتكبها دون هوادة في غزّة.

فهل يعني هذا كلّه أنّ “سلاماً أمريكيّاً” (Pax Americana) جديداً سيحلّ في المنطقة، يذهب أبعد بكثير من “الاتفاقات الإبراهيميّة” التي صُمِّمَت في مرحلةٍ سابقة لتُعطي الريادة لإسرائيل وليس للولايات المتحدة؟ سلامٌ تروّض فيه أمريكا ربيبتها إسرائيل بعد أن ذهبت بعيداً في تدمير “محور الممانعة” وفرض رؤيتها، هي، في “شرق أوسطٍ جديد” حيث وضع بنيامين نتنياهو خريطته؟ وسلامٌ يُطبِّع علاقات الولايات المتحدة مع إيران ويكبح توسّع نفوذها؟ وسلامٌ يخفّف أيضاً من النفوذ التركي الذي اتّسع من آسيا الوسطى حتّى إفريقيا؟ فهل يشكّل هذا كلّه رؤية دونالد ترامب لاحتواء الصين ومنعها من الاستفادة من التناقضات للتمدّد نحو الشرق الأوسط ومنه نحو أوروبا؟

وماذا يعني هذا “السلام الأمريكي” على صعيد الدول العربيّة؟

في زمنٍ سابق، تقاسمت بريطانيا وفرنسا النفوذ في العالم العربي. ثمّ قامت الحرب العالميّة الثانيّة واتفاقيّة “يالطا” كي تحلّ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي رويداً رويداً مكانهما، لتقاسم النفوذ. لقد انتهت الانتدابات المباشرة وتمّ إنشاء دولة إسرائيل بينما تمّ إفشال العدوان الثلاثيّ على مصر وتحرّرت الجزائر. فرنسا كانت الخاسر الأكبر، في حين استمرّ النفوذ البريطاني بشكلٍ مختلف تحت الجناح الأمريكيّ.

لقد تنامت حينها فكرة “العروبة” على الصعيدين الشعبيّ والسياسيّ. إلاّ أنّ انقسام البلدان حول الاعتماد على أحد القطبيين الرئيسيين، الأمريكي والسوفياتي، منع أيّ تكاملٍ عربيّ اقتصاديّ أو سياسيّ. كي تبقى الجامعة العربيّة قوقعة فارغة لإبراز الخلافات أكثر من خلق التوافقات. وبالنتيجة فشل “الحياد الإيجابي” وتمّت هزيمة المشروع “العروبي” في نكسة 1967.

لقد بدأ النفوذ السوفياتي بالتقلّص بعد حرب أكتوبر 1973 وانتقل الوزن الإقليمي العربي بعدها من مصر والعراق وسوريا، ونوعاً ما من الجزائر، نحو دول الخليج العربي التي حصلت على فوائض مالية كبيرة بعد “الفورة النفطيّة”. وحلّت أفكار “الإسلام السياسي” مكان العروبة، يرافقها انغلاق كلٍّ من الدول العربيّة على بنائها الداخليّ. هكذا انتشرت القواعد العسكريّة الأمريكيّة وساهمت دول الخليج بهزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان ومنها إلى انهياره.

لكن برغم إنشاء مجلس التعاون الخليجي، وتهميش هذا المجلس بصيغته الأقوى نظريّاً للجامعة العربيّة، دخلت دول الخليج بمنافسات وتناقضات كبيرة في توجّهاتها في وقتٍ عملت كلّ منها على بناء قدراتها الداخليّة بشكلٍ كبير. منافسةٌ أوسع من تلك التي طبعت علاقات مصر والعراق وسوريا في المرحلة السابقة. وفي الواقع، لم تتوحّد توجّهاتها سوى لمواجهة غزو عراق صدّام حسين للكويت، ومن بعده حربي الخليج الأولى والثانية. كي تفتح تناقضاتها المجال واسعاً لتوسّع النفوذ الإيراني في المنطقة العربيّة.

لا يُمكِن قيام “سلام أمريكي” في سوريا كما في كلّ دول المنطقة الهشّة والخاضعة للحروب دون توافقٍ وتعاونٍ بين دول الخليج في ترسيخ “سلامٍ عربيّ” (بالمعنى الأوسع الذي يضمّ الكرد والأمازيغ وغيرهم من الأقوام الشريكة في المصير) بعيداً عن التنافس العبثيّ أصلاً. ومهما كان الرأي بـ”السلام الأمريكيّ”، ما يهمّ ألاّ تأخذ التناقضات القائمة إلى هشاشة كالتي حلّت بالبلدان العربية الوازنة سابقاً

ثمّ جاءت “ثورات” وحروب “الربيع العربي” الأهليّة، التي أخذت دولاً عربيّة عديدة إلى هشاشة غير مسبوقة ودمارٍ اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ. وانفلت النفوذ الخارجيّ، الأوروبي والإيراني والتركيّ والإسرائيليّ. هنا أيضاً ساهمت منافسة وتحالفات دول الخليج المتناقضة في إطالة زمن الأزمات والحروب. وكلّف انخراطها في هذه المنافسة أموالاً طائلة ربّما تفوق كلف “إعادة الإعمار”.

لقد لعبت الولايات المتحدة ضمن إطار هذه التناقضات وتركت جميع القوى تتصارع على النفوذ، مع تمسّكها فقط بالسلام الإبراهيميّ. هكذا إلى أن قلبت إسرائيل المشهد لتأتي رئاسة دونالد ترامب الجديدة لتٌعلِن أنّ الحقبة القادمة ستكون.. “سلاماً أمريكيّاً”.

إنّ الدول الخليجيّة، في علاقتها الجديدة مع الولايات المتحدة، وجدت موضعاً لها في معركة “الذكاء الاصطناعي” العالميّة. وهذا طبيعيّ لما تملكه من موارد طاقة تمكّنها من أن تكون قطباً ثانياً لها بعد أمريكا. كما وجدت موضعاً لها كقوى سياسيّة وسيطة. قطر وسيطة بين إسرائيل وحماس. وعُمان وسيطة بين الولايات المتحدة وإيران وكذلك مع الحوثيين. والمملكة العربيّة السعوديّة وسيطة بين أمريكا وروسيا، وبين أمريكا والسلطة الجديدة في سوريا.

لكنّ هل فائض القوّة الذي تتمتّع به اليوم دول الخليج والبناء الداخليّ التي نجحت إلى حدٍّ كبير في تطويره سيجعلها تتعاون في ظلّ “السلام الأمريكيّ” الجديد لإيجاد موقفٍ… “عربيّ” يوقف الهشاشة الكبيرة التي تعيشها الدول العربيّة الأخرى، وكبح الغطرسة الإسرائيليّة وتفشّي النفوذ الخارجيّ؟

إقرأ على موقع 180  بايدن يستثمر في ولاية مودي الثالثة.. "تحالف الأقوياء"!

إنّ هكذا تعاون يتمثّل في المساعدة على ترسيخ الاستقرار في ليبيا ولبنان وإنهاء الحرب في اليمن والسودان. وهو يعني أيضاً على الساحة السورية إعادة توحيد أراضي البلاد.

في سوريا اليوم، الولايات المتحدة داعمة قويّة للسلطات الجديدة التي وحّدت مناطق السلطة السابقة كما شمال غرب البلاد. والولايات المتحدة داعمة قويّة لقوّات سوريا الديموقراطيّة (قسد) وللإدارة الذاتيّة منذ الحرب على تنظيم داعش. وهي التي عملت سريعاً لتجمع الطرفين على اتفاقٍ بحدٍّ أدنى كي تتجنّب الانهيار بعيد مجازر الساحل السوريّ… ودول الخليج أضحت اليوم أيضاً ذات نفوذ لدى الطرفين ذاتهما، وإن كان ذلك ضمن منافساتها وتناقضات سياساتها.

والسؤال الكبير هو هل ستوحّد جهودها لتوحيد سوريا وإنهاء معاناة أهلها؟

لا يُمكِن قيام “سلام أمريكي” في سوريا كما في كلّ دول المنطقة الهشّة والخاضعة للحروب دون توافقٍ وتعاونٍ بين دول الخليج في ترسيخ “سلامٍ عربيّ” (بالمعنى الأوسع الذي يضمّ الكرد والأمازيغ وغيرهم من الأقوام الشريكة في المصير) بعيداً عن التنافس العبثيّ أصلاً. ومهما كان الرأي بـ”السلام الأمريكيّ”، ما يهمّ ألاّ تأخذ التناقضات القائمة إلى هشاشة كالتي حلّت بالبلدان العربية الوازنة سابقاً.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  إيران: الأرجحية لرئيس متشدد.. إلا إذا تكرّرت تجربة خاتمي!