

لماذا هو خطأ استراتيجي؟
ببساطة لأن الحرب لما تنته بعد!
فحسابات النصر والهزيمة تبقى منقوصة، أو حتى مخطئة، طالما أن الأطراف المتصارعة ما تزال على سلاحها، وطالما أن الحرب لم تتوقف عن كونها سياسة بوسائل أخرى.
النماذج عن هذه الفرضية تكاد لا تنتهي: من النصر الأولي الكاسح للولايات المتحدة على أفغانستان والعراق وقبلهما على فيتنام، الذي تحوّل لاحقاً إلى نكسات كابوسية كاسحة، إلى الانتصارات الأوّلية الهائلة لألمانيا على أوروبا والاتحاد السوفييتي في صبيحة الحرب العالمية الثانية والتي انتهت بدمارها الهائل، مروراً بنصر اليابان الكبير في الباسيفيك، وبحروب إسرائيل طيلة 80 سنة التي لم تكد تبدأ بنصر (1948، 1956، 1967، 1982، 2006.. والآن في غزة) حتى تستولد نكسات وحروب استنزافية جديدة تتحوّل فيها الانتصارات إلى مآزق تكون استراتيجية في بعض الأحيان.
فهل تتكرر الآن هذه النماذج في الحرب على إيران؟
لنقل، أولاً، أن ما في أيدينا الآن هو اتفاق على وقف إطلاق النار. وهو اتفاق غريب حقا: فهو “شفهي”، ولم تسبقه مفاوضات، ولم تتبعه (حتى الآن) حتى رغبة في التفاوض لتحويل اتفاق وقف إطلاق النار إلى اتفاق لإغلاق صفحة القتال والانتقال إلى صفحات وصفقات التسوية.
لذلك قلنا إنه من المبكر للغاية الحديث عن هزيمة أو انتصار.. وأدق من عبّر عن هذه الحالة الوسيطة كانت الزميلة جريدة “الأخبار” التي فضلت توصيف “التعادل المرير” بين إيران وبين إسرائيل-أميركا.
كل مخططات النظام الإقليمي الجديد، الإسرائيلي والأميركي وبعض العربي، ستبقى معلّقة في الهواء طالما أن لون السماء في طهران لما يتضح بعد، وأيضاً طالما أن غزة ما تزال تشكل مأزقاً استراتيجياً لإسرائيل، وطالما أن مفاجآت ما قد تنفجر في وجه الاتفاقات الابراهيمية (جديدها وقديمها) التي تشكّل البنى التحتية الإيديولوجية للنظام الإقليمي الإسرائيلي- الأميركي العتيد
حسناً. إذا ما كان الأمر على هذا النحو، إلى أين من هنا؟
يمكن القول إن إسرائيل والولايات المتحدة أفرغتا حمولتهما من الخيارات: الأولى؛ حين ضربت بقوة لكنها فشلت في هدف تقويض النظام الإيراني، والثانية؛ حين ضربت هي الأخرى بقوة، ثم أوضحت بجلاء أنها ليست في وارد شن حرب شاملة على إيران كما فعلت مع العراق العام 2003.
انهيار النظام الإيراني لم يحدث، وحلّت مكانه حرب استنزاف صاروخية كانت إيران تستطيع، برغم استنزافها الإقليمي وإرهاقها الاقتصادي، استيعابها (كما فعلت إبان حرب المدن المشؤومة مع العراق)، لكن لا يمكن لإسرائيل ابتلاعها طويلاً، كما لا يمكن للجغرافيا (مليون ونصف المليون كيلومتر مربع في إيران مقابل 20 ألف كيلومتر مربع مكتظة في إسرائيل) أن تتسامح معها.
وهذا يعني، من ضمن ما يعني، أن مصير قرار الحرب موجود الآن في طهران، لكن في إطار محدودية خياراتها، ولا سيما لجهة تجنب حرب جوية طاحنة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وإسرائيل، وبخاصة بعد أن تأكد بالملموس أن روسيا والصين ليستا في وارد مجابهة الولايات المتحدة دفاعاً عن حليفتهما.
فكيف قد تتصرف إيران؟
الأرجح أن تنصب كل جهود النظام الإيراني الآن على إعادة ترتيب بيته الداخلي، الذي تبيّن كم هو أنه مكشوف على نحو خطير للغاية أمام غزو استخباري- أمني- سيبراني إسرائيلي (وأطلسي) واسع النطاق قوّض حدود ومعالم السيادة على الأرض، فيما كانت الطائرات الإسرائيلية-الأميركية تدكه في الجو.
وهذه المعركة (أي إعادة ترتيب البيت الداخلي) لن تكون أمراً يُستهان به، لأنها على تماس مباشر مع جملة عوامل معقّدة تبدأ بظاهرة الفساد والأوضاع الاقتصادية الصعبة للطبقة الوسطى وفئة الشباب وتراخي جاذبية النموذج الثوري بعد 40 سنة، ولا تنتهي بتحالف بعض القوى الإثنية والمعارضة مع خصوم إيران. وهذا الأمر قد يُسفر عن انبثاق نظام أمني- سلطوي قد تشتد الحاجة إليه لضبط الأوضاع الداخلية ومواجهة الغزو الاستخباري الكبير، الذي يبدو واضحاً الآن أنه قد يستمر إلى فترة غير قصيرة.
وفي حال نجحت إيران في إعادة ترتيب بيتها، وإن بكلفة سلطوية حذّر منها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، سيتعين الانتظار لمعرفة توجهات النظام بعد هذه المرحلة، وما إذا كانت ستبرز نخب جديدة تدعو إلى التركيز على مواصلة إعادة البناء الداخلي تحت شعار “إيران أولاً”، ومن ثم التفاوض مع الغرب على “هدنة ” مديدة من دون الاستسلام لجل شروطه، أم ستصعد ثلة متشددة من صفوف الحرس الثوري وترى على العكس أن الحفاظ على النظام يتطلب العودة إلى ما يسميه الغربيون “الإرهاب العالمي”، وحتى إلى صنع قنبلة نووية.
وبالتالي، كل شيء سيعتمد الآن على مآلات التفاعلات الداخلية في إيران، من دون أن نغفل أن العوامل الخارجية (الإسرائيلية والأميركية وبعض العربية) ستكون طرفاً مهماً في هذه التفاعلات؟
***
قلنا في البداية إنه من الخطأ الحديث الآن عن نصر وهزيمة.
ونقول الآن إن كل مخططات النظام الإقليمي الجديد، الإسرائيلي والأميركي وبعض العربي، ستبقى معلّقة في الهواء طالما أن لون السماء في طهران لما يتضح بعد، وأيضاً طالما أن غزة ما تزال تشكل مأزقاً استراتيجياً لإسرائيل، وطالما أن مفاجآت ما قد تنفجر في وجه الاتفاقات الابراهيمية (جديدها وقديمها) التي تشكّل البنى التحتية الإيديولوجية للنظام الإقليمي الإسرائيلي- الأميركي العتيد.
..وربما ستكون هناك أيضاَ “طالمات” أخرى عديدة، ومفاجئة!