ترامب ونتنياهو.. سيطرة وسلطة وأسطرة

حربُ الإثني عشر يوماً.. هكذا سيسجّلها التّاريخ ربّما، ثمّ يُلحِقُها بما سيتبعها من أحداث. لكنّها، لمن تابعها وعايشها، فيصلٌ لا يشبه الحروب التّقليدية وإن قاربها، وواقعٌ معقّد لم تُكتب نهايتُه بعد، وإن رُسِمت له شبه خاتمة، على شكل إخراجٍ دراميٍّ سينمائي بعض الشيء.

سيُظهِر “المُخرِج” دونالد ترامب نصّاً له في البداية على منصّة “تروث سوشيل”، فجر الرّابع والعشرين من شهر حزيران/يونيو الجاري، بعد جولةٍ قتاليّة بين إيران وإسرائيل، ليعلن التّوصّل إلى وقف إطلاق للنار بين الطّرفين، لكنّه ولمزيد من “السّسبنس” يُنبّه: هو على مرحلتين، توقف إيران هجماتها بعد ستّ ساعات، وتليها إسرائيل بعد ١٢ ساعة، ليتمّ بعدها إعلان النّهاية الرّسميّة للحرب.

ساعات بعد ذلك، وتنتهي الحرب ظاهرياًّ. يتناقل روّاد التّواصل الاجتماعيّ المؤيّدون لإيران صوراً وبوستراتٍ عليها العبارة الواضحة: “نحن أصحاب الطلقة الأخيرة”. ستُكتب العبارة بالعبريّة أيضاً. ثمّ يحتفل جميع الأطراف بالنّصر الإلهيّ المؤزّر: يغدو المرشد الإيراني معزّ المؤمنين وفاتح عهد سقوط الأسطورة الأميركو- إسرائيلية، فيما يصبح ترامب “الرئيس الذي اختاره الله لهذه اللحظة” وفقاً للرسالة التي وصلته من السّفير الأمريكي لدى الاحتلال قبيل الضّربة /الـ finish الأميركية على إيران. أمّا بنيامين نتنياهو، العلمانيّ الذي يعرف بامتياز كيف يستغلّ الدين، فسيرتفع مقامه عند متديّني الصّهاينة الذين صدّقوا مقولته منذ أيام حين قال: “بن غوريون قرّر إقامة دولة إسرائيل، وأنا قرّرت الحفاظ على وجودها”.

المشتركات بين دونالد ونتنياهو

من ترامب، إلى نتنياهو، أو العكس، قطبان متناغمان في “الكاراكتر” والأدوار، ستفرزهما الأحداث لتعكس رغباتهما الشخصية ودوافعهما في إدارة مجريات الوقائع، ولذلك، ستختفي بعض الشيء آليات الضبط السياسيّ المنطقية خلف طموحات شخص هنا أو هناك، ماهر في الخطابة، محنّك في إقناع التائهين أو المترددين بالحلول المستندة على فائض القوّة، ولديه رغبة عارمة في السلطة والظّهور.

عندما يقول ترامب بأن الضربة على إيران أنهت الحرب “كما فعلنا في هيروشيما وناكازاكي”، وعندما يُطالب إيران قبل ذلك “بالاستسلام التام غير المشروط”، و”إما السّلام أو الكارثة”، فإنّه لا يتقصّد من الكلام سوى إظهار النزعة العارمة في الـ”عنترة”. والرغبة في أن يدخل التاريخ كما دخله روزفلت من قبله كحاسم لأكبر الحروب العالمية. هو يأتي ليجبّ كلّ ما قبله من أحداث. هذا ما يريد أن يوحي به. هذا ما يريده لللاوعي العالمي أن يتلقّفه. هذا ما يجعل توقّع الأغرب والأخطر منه متاحاً. الشخصية التوّاقة للربح الخالص، غير المهيأة نفسياً لأي خسارة أو استفزاز هي التي تدير الإقليم اليوم، لتصبح المُمهّدة والمكمّلة لظهور عالمٍ في طور التّحلّل عملياً إلا من معايير القوة والربح.

يكتب الكاتب نتنئيل شلوموفيتس مؤخراً في صحيفة “هآرتس”: “في فوردو أوضح ترامب للعالم بأنه لا يوجد أي قانون دولي يُقيّده، ولا توجد له أيديولوجيا أو رؤية تُقيّده. وأيضاً لا مشكلة لديه في المس بمصالح الولايات المتحدة. يكفي التوجه إلى “الأنا” خاصته”.

لا يبتعد نتنياهو كثيراً عنه. حسب أحد أصدقاء طفولته، نشأ في عائلة يشعر جميع من فيها بأنّ عبء العالم يقع على عاتقهم، وأنّ عليهم إثبات أنفسهم جسديّاً وفكرياً. وكثيراً ما قيل عن سعيه وجهده الدؤوب في الاشتغال على تطوير نفسه. الرجل اعتاد قراءة خطاباته والتدرّب عليها أمام والده قبل إلقائها.

استثمر نتنياهو في موت أخيه يوني بشكل مثاليّ. في جنازته قال: “هذا البلد لا يعرف من فقده. لقد فقد بن غوريون آخر”. وبعد وفاته بفترة وجيزة، أخبر أحد أصدقائه بأن وفاة أخيه ستحوّله إلى الشخصية الأسطورية التي تحتاجها إسرائيل.

على هذه السيكولوجية نشأ بنيامين. وعلى هذا حكم. قال عنه يوماً كبير مفاوضي اسحاق رابين في أوسلو: “إنّه يرى كلّ شيء من خلال عيون حيوان سياسي، ويريد إعادة انتخابه. كل ما يفعله هو اللعب على وتر دائرته الانتخابية اليمينية”..

نحن أمام نموذجين يضيفان إلى القوة المادية التي يمتلكانها نرجسيةً استثنائية وغير محدودة في الدافعية الشخصية نحو السيطرة والسلطة والأسطرة. تخبرنا نماذج التاريخ أنّ من شابههما أوصل البشريّة إلى حافة الهاوية. لا يعود مستغرباً هنا تشبيه رجب طيب أردوغان لنتنياهو بهتلر. ولا تعود بعض التحليلات مستغربة عن أن الحرب على إيران كان دافعها الأساسي إعطاء الدفع الانتخابي لنتنياهو في الدّاخل. وربما هكذا أقنع الأخير ترامب بإدخاله إلى اللعبة الإقليمية: إضرب إيران لتكتب لنفسك المجد.. إضرب لينسى العالم غزّة، فقد كيلت إلينا الكثير من الاتهامات.

نشرت مؤسسة “YouGov” مؤخراً نتائج استطلاعٍ أجرته في ست دول من غرب أوروبا حول الموقف من إسرائيل. ما بين ١٣ و٢١ بالمئة فقط من حملوا نظرة إيجابية لها، ليكون مستوى التعاطف معها في غرب أوروبا بحسب الاستطلاع هو الأضعف على الإطلاق). إضرب يا ترامب لنُنهي ما بدأناه منذ السابع من أكتوبر، لكن على طريقتنا هذه المرة).

يتناغم الرجلان، قد يحشر واحدهما الآخر، أو يدعم واحدهما الآخر، لكنهما يصعدان معاً صعود من لا يريد تغيير الشرق الأوسط وحسب، بل من يريد تغيير العالم وفق خطة متدرجة ومنهجية، كما قال نتنياهو مؤخراً. ولا يبدو حتى اللحظة أن كسرهما سهل، ولا سيّما بلحاظ كُمُون الفاعلَيْن الصيني والروسي إن صح التعبير في المشهد السياسي العام.

الصين وروسيا وإيران.. مصالح وتناقضات

أيّد الموقفان الصيني والروسي إيران في الحرب الأخيرة عليها، وأدانا العدوان، لكنهما لم تقدّما دعماً يُذكر في هذا الإطار. ويمكن ربط ذلك تارةً بانشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا وعدم قدرتها على تحمّل المزيد من الخسائر أو ردود الأفعال الغربية والأميركية في حال دخولها المؤثر إلى جانب إيران، وطوراً لأسبابٍ تتعلق بعلاقات روسيا والصين باسرائيل والمصالح المشتركة بينهما، أو لعلاقتهما مع دول الخليج مثلاً، أو لمصلحتهما الحقيقية في أن لا تتحوّل إيران إلى دولة نووية وازنة، مع رغبتهما في أن تبقيا لاعبتين لدور الوسيط في أيّ نزاع إيراني غربي. لكن، هل يصحّ عزو ذلك إلى الشخصية الإيرانية من جهة، وعدم تقدير إيران لمدى التفوق الغربي أو لمدى حاجتها إليهما من جهة أخرى؟

إقرأ على موقع 180  "أرشيفوس".. إلى اللقاء

انكشفت إيران أمام نفسها لأول مرة منذ أربعين سنة بعد هذه الحرب. وكان من نتائج الحرب المباشرة أنّها أظهرت أمامها الواقع الحقيقيّ لقدراتها وإمكانياتها. لقد نجحت إسرائيل في تحقيق التفوق الجوّي الهائل، وعملياً، لم تستطع منظومات الـ S300 أن تدافع عن نفسها. الأمر كذلك في ما يتعلّق بالقدرات الصاروخية، إذ أن الموضوعيّة تقتضي القول بعدم قدرة غالبية الصواريخ من تجاوز منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وانحسار الفاعلية بنوعية معينة وكميات محدّدة من صواريخ فرط صوتية مُصنّعة لديها.

قبل الحرب، لم توقّع إيران أي معاهدة دفاع مشترك، أو اتفاقية شراكة عسكريّة مع أيّ من الدّول. لا يشبه الأمر إذاً استفادة باكستان من المنظومة الصينية ما قبل حربها مع الهند. مع أنّ الضرورة كانت لتدفع نحو الاستفادة من معاهدات مثيلة في مواجهة منظومة عسكرية غربية هي الأقوى. اكتفت إيران بالصناعة الذاتية للصواريخ عن طريق الهندسة العكسية (عملية تفكيك المنتجات لاستخلاص معلومات التصميم لإعادة إنشاء جزء منها وتطويرها). ولعلّ الشخصية الإيرانية التوّاقة إلى الاستقلال والاكتفاء الذاتي لعبت دورها في هذا الإطار. يمكن ضرب الأمثلة بالعودة إلى حقبة التنسيق الروسي الإيراني في الملف السوري. آنذاك، استطاع البرلمان الإيراني أن يعرقل إن جاز التّعبير الخطط المشتركة التي نسّقها قائد فيلق القدس السابق الجنرال قاسم سليماني مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فعندما سمح الحرس الثوري للصواريخ الروسية بأن تعبر أجواء إيران في طريقها إلى سوريا تحقيقاً لهدفٍ مشترك، علت الأصوات المعارضة في البرلمان، ووضعوا حدّاً لذلك. كذلك حصل حينما لجم البرلمان مسألة إنشاء قواعد ظرفية للمقاتلات الروسية على الأراضي الإيرانيّة.

لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل وضعت حرب الإثني عشر يوماً تحدّياتٍ أمام الطّرف الإيراني ستدفعه إلى تغيير “شخصيته”، وتكتيكاته العسكرية هذه؟

تحدّيات ما بعد الحرب

لم يكن الانكشاف إيرانياً صرفاً بعد جولة حزيران/يونيو القتالية، بل اختبر طرفَي الصّراع القدرة والإمكانات. وسيكون أمامهما جملة من التحديات بناءً على النتائج.

إسرائيلياً، ثلاث نقاطٍ يمكن الإشارة إليها:

أولاً؛ ستسعى إسرائيل إلى تطوير منظومة الدّفاع الجوي بعد أن اختبرتها بدقّة، لتُعلي في المستقبل من كفاءة ونسبة نجاح الاعتراض الصاروخي.

ثانياً؛ في مقابل الانجاز الاستخباراتي الاسرائيلي في العمق الإيراني، فقد كشف الجانب الإيراني العديد من الشّبكات ولما يزل إثر هذه الحرب، الأمر الذي سيدفع “الموساد” لاستمرار السعي للنفاذ مجدداً عبر شبكات جديدة والبحث عن المزيد من نقاط الضعف في الداخل الإيراني.

ثالثاً؛ سيكون أمام اسرائيل تحدي الخروج من دائرة الارتهان والاعتماد الدائم على أميركا، برغم محاولة نتنياهو الإيهام باستقلالية الكيان.

إيرانياً، وكما هو آنف للذكر، فإنّ فشل منظومة الدفاع الجوي قد يدفعها إلى تبني عقيدة دفاعية جديدة تُعلي فيها من نسبة التنسيق العسكري مع الدول الكبرى. الأمر نفسه بالنسبة لتطوير قدراتها الصاروخية. من جهة أخرى، سيكون من أهداف إيران الحفاظ على مشهد اللحمة ومحاولة كسب كل الأطياف، ربّما عن طريق خطاب جديد أو عقلية سياسية جديدة، وربما عقلية نووية جديدة.

في الخلاصة؛ لقد أُفردَت وستُفرَد الكثير من التّحليلات والاستنتاجات السياسية على ضوء مستجدات الأيام الفائتة. أمكن للمتابع ربّما أن يرى أنّ الحرب لم تنتهِ مع وقف إطلاق النّار، بل ابتدأت من حيث انتهت، وستتكشّف ملامح الكباش العلني أو المستتر الآن على صعدٍ عديدة شيئاً فشيئاً مع توالي الأيّام. لكنّ زاويةً أُخرى أبعد قليلاً من التحليل السياسيّ الصّرف في المشهد العالميّ اليوم، تفرض نفسها على المراقب أيضاً؛ إذ أنّ الفرز ما بعد هذه الحرب لم يعد مجرّد فرزٍ سياسيّ وحسب، مَن يؤيّد هذا الطّرف ومَن يؤيد ذاك، كما أنّه أيضاً ليس مجرّد فرز دينيّ/قومي كما يحلو للبعض أن يصف: “أمّة إيرانية” تقاتل “أمة يهودية” في مقابل “أمة سنية” تتفرّج وتدعو بأن يضرب الله الظالمين بالظالمين، بل هو فرز تتبدّى من خلاله أيضاً بصورة أجلى ملامح الشّخصيّات اللصيقة بالنزاع، بوصفها راعية للإطار السياسي العالميّ الراهن، سواء الشخصيّات الفرديّة، وهنا الحديث خصوصاً عن شخصيتيّ ترامب ونتنياهو، قائدَي الوجهة الصّاعدة لعالم ما بعد ٧ أكتوبر، أو الشّخصيّة الجماعية، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بتلك الإيرانيّة تحديداً، وحتى الإسرائيلية. هي ملامحٌ ربما تعلي من احتمالية الإقبال على جولة جديدة من الصّراع، في قابل الأيام، أيّاً كان شكل هذا الصّراع ومدّته.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "برافو إسرائيل".. لقد شَرّعتِ أبواب جهنم السيبرانية!