

وفق بيير بورديو، الحقول السياسيّة هي مساحاتٌ للسّلطة الرمزيّة حيث تعاد إنتاج الهياكل نفسها من خلال التكرار والتمثيل الرمزيّ. في لبنان، يظهر هذا في غياب المشاريع المؤسّسية المبتكرة، حيث تُسْتَبْدَلُ الرؤية الوطنيّة الفعليّة بالتمثيل الرمزيّ للطوائف والمناطق، ما يجعل السياسة طفلة في مفهومها التأسيسيّ، عاجزةً عن ترجمة السلطة الرمزيّة إلى قوّةٍ مؤسّسيّةٍ حقيقيّةٍ.
هذا يُرْبَطُ مباشرةً بمفهوم الدولة: فالدولة ليست مجرد كيانٍ شكليٍّ، بل بنيةٌ اجتماعيّةٌ وسياسيّةٌ تتأسّس على مشروعيّةٍ مؤسّسيّةٍ متجذّرةٍ. الطفولة السياسيّة، حين تسيطر على الفضاء العام، تمنع الدولة من تحقيق شرعيتها الكاملة، وتترك السلطة رهينة الرمزيّة بدل أن تكون قوةً فاعلةً تحقّق أهداف المجتمع.
السياسة كصراعٍ على المعنى
في لبنان، يغلب على الّنقاش العام فهم السياسة كـتموضعٍ: في أيّ موقعٍ يقف هذا الفاعل أو ذاك، وكيف يتوزّع الحضور على الخريطة الطائفيّة والمؤسّساتيّة. هذا التموضع يجعل السياسة لعبة كراسٍ لا صراعاً على مشروعٍ وطنيٍّ.
لكن السياسة، وفق منطق غرامشي، هي قبل كل شيء صراعٌ على الهيمنة الرمزيّة: أي على المعنى الذي يُعْطَى للعالم المشترك. والسؤال الجوهري في لبنان ليس فقط من يحكم؟ بل، أيّ لبنانٍ يُبْنَى من خلال الحكم؟ لبنان الطوائف أم لبنان المواطنة؟ لبنان الاقتصاد الريعي أم لبنان العدالة الاجتماعية؟ لبنان المركزيّة المشدّدة أم لبنان اللامركزيّة المتوازنة؟
غياب هذا الصراع على المعنى جعل السياسة اللبنانية أشبه بردود أفعال ظرفية، محكومة بلحظة آنية، لا بفعلٍ تأسيسيٍّ طويل المدى. هنا يبرز ما يمكن وصفه بفراغ المشروع: كلّ فاعلٍ يحدّد نفسه انطلاقاً من موقعه ضمن التوازنات، لا انطلاقاً من رؤيته السياسيّة لبنية الدولة والمجتمع.
لبنان اليوم يقف أمام مفترقٍ تاريخيٍّ. فقد استنفد نظامه القائم طاقته، ولم يعد قادراً على إنتاج استقرارٍ أو شرعيةٍ. والبديل ليس في إعادة تدوير الخطاب نفسه، بل في استعادة السياسة كفعلٍ تأسيسيٍّ. إنها لحظةٌ لإعادة تعريف القوة، لإنتاج عقدٍ اجتماعيّ جديدٍ، ولصياغة معنىً آخر للعيش المشترك؛ فالسياسة في لبنان، إن لم تتحوّل إلى هذا الفعل التأسيسيّ، ستبقى مجرّد طفولةً سياسيّةً تؤجّل الانهيار ولا تواجهه
الدولة والشرعيّة.. ما قبل القوة
تطرح التجربة اللبنانيّة سؤالاً محورياً: ما هي الدولة القادرة على احتكار العنف المشروع؟ وفق تعريف ماكس فيبر، لا تكتفي الدولة بامتلاك أدوات القوة، بل تحتاج إلى شرعية متجذّرة في ثقة المواطنين.
إلا أن الدولة اللبنانيّة لم تنجح في ترسيخ هذه الشرعيّة. فاقتصادها قام لعقود على الريع والتحويلات بدل الإنتاج، ما جعلها عاجزةً عن تأمين العدالة الاجتماعيّة. كما أن بنيتها الطائفية جعلت المواطنة مشروطةً بالانتماء، والحقوق مقيّدة بالتوازنات والزبائنيات. وفي الأزمات الكبرى، لم تُبْدِ مؤسّساتها قدرةً على حماية مواطنيها من الانهيار أو على صيانة السِّلم الاجتماعيّ.
الشرعيّة هنا ليست مجرّد إجراءٍ دستوريٍّ ولا انتخاباتٍ دوريّةٍ، بل عقدٌ اجتماعيٌّ فعليٌّ. وغياب هذا العقد يجعل الدولة عاجزةً عن ممارسة سيادتها الكاملة. أيّ نقاش حول القوة أو السيادة في لبنان يظل ناقصاً إن لم ينطلق من سؤال الشرعية: كيف تُبنى؟ وعلى أي أساس تُرسَّخ؟
اتفاق الطائف والتأسيس المؤجّل
تجربة لبنان مع اتفاق الطائف تكشف عن تعقيدٍ إضافيٍّ. فالطائف أعاد توزيع السلطة لكنّه لم يؤسّس لشرعيّةٍ جديدةٍ. لقد نقل التوازنات من صيغة إلى أخرى، لكنّه أبقى السياسة ضمن منطق التسوية بين الطوائف لا ضمن منطق العقد الاجتماعيّ الجامع.
بالمقاييس النظريّة، يمكن القول إنّ الطائف مثل لحظة هدنةٍ أو وقف نار أكثر منه لحظة تأسيسٍ. فهو أنهى حرباً لكنه لم يَبْنِ دولة. وبذلك ظلّ الفعل السياسيّ أسير “إدارة التوازنات” بدلاً من “إعادة بناء الكيان”. النتيجة أنّ السياسة بعد الطائف ظلّت رهينة الطفولة السياسيّة ذاتها: حضورٌ شكليٌّ، مقاعد محفوظة، وغياب مشروعٍ تأسيسيٍّ.
بين الأبطال والضحايا
إلى جانب الطائفيّة والتموضع، برزت ظاهرة الشَخْصَنَة في السياسة اللبنانيّة. غالباً ما تُخْتَزَلُ السياسة في رمزيّة الأفراد: زعيمٌ يصوَّر كبطلٍ منقذٍ، أو آخر كضحيّةٍ بريئةٍ. هذه الشَخْصَنَة تحوّل السياسة إلى مسرحٍ للصور، وتُلغي مساءلة البنى والمؤسّسات.
لكن وفق منطق جون ديوي، الديموقراطيّة الحقيقيّة ليست بطولةً فرديةً بل ثقافةٌ للمحاسبة اليوميّة. الأفراد يُسْأَلون لا بوصفهم شخصيّاتٍ استثنائيةٍ، بل كممثلين لِبُنىً ومؤسّساتٍ. في لبنان، غياب هذه الثقافة جعل الزعيم السياسيّ محصّناً بطائفته أو صورته الرمزيّة، بينما ظلّ المواطن عاجزاً عن فرض محاسبةٍ فعليّةٍ.
المركزية، اللامركزية، والمجتمع السياسي
تُضافُ إلى هذه الأزمة مسألة المركزيّة المفرطة في لبنان. فقد بُنِيَ النظام على تركيز السّلطات في العاصمة، بينما تُرِكَتِ الأطراف في هامش التنمية والخدمات. هذه البنية غذّت شعوراً بالمظلوميّة لدى مناطق عديدة، وكرّست علاقةً زبائنيّةً بين المواطن والدولة.
النقاش حول اللامركزيّة في لبنان ليس نقاشاً تقنيّاً فقط، بل هو سؤال عن طبيعة المجتمع السياسي ذاته: هل يبقى أسيراً لمركزٍ واحدٍ يعيد إنتاج التبعيّة، أم يُعادُ تشكيله بما يفتح المجال أمام مشاركةٍ أوسع؟ وفق منطق حنة أرندت، السياسة هي فضاءٌ مشتركٌ، وكلّما ضاق هذا الفضاء تقلّصت الحرّية. اللامركزيّة، في هذا المعنى، ليست إدارةً محلّيّةً فقط، بل إعادة توزيعٍ للفضاء السياسيّ على نحو يوسّع المشاركة.
السياسة كإعادة تعريف للقوة
الانهيار اللبناني الحالي كشف محدودية السياسة بوصفها مجرد إدارة توازنات. المطلوب هو فعل تأسيسي يعيد تعريف القوة: كيف توزَّع الموارد؟ كيف تُبنى المؤسسات؟ كيف يُعاد إنتاج الشرعية على أساس المواطنة لا الطائفة؟
وفق حنة أرندت، السياسة الحقيقية لا تُقاس بالقدرة على إدارة أزمة، بل بالقدرة على خلق فضاء جديد للحرية والمعنى. وفي لبنان، هذه الحاجة أكثر إلحاحاً: لم يعد ممكناً الاستمرار في إعادة إنتاج النظام نفسه، بل لا بد من تجاوز الطفولة السياسية نحو مشروعٍ تأسيسيٍّ جديدٍ.
السياسة كخيارٍ وجوديٍّ
إنّ المأزق اللبنانيّ اليوم ليس إدارياً ولا مؤسّساتياً فحسب، بل هو وجوديٌّ. فإمّا أن يُعادَ تعريف السياسة كفعل تأسيسٍ لبنانيٍّ جديدٍ، أو أن يبقى المشهد العام أسير طفولةٍ سياسيّةٍ لا تنضج.
هذه الطفولة – بما فيها من شعاراتٍ متكرّرةٍ، شَخْصَنَة، وغياب مشروع – تعني البقاء في هوامش التاريخ، بينما تُكْتَبُ التحوّلات الكبرى في مكانٍ آخر. أمّا تجاوزها فيعني إعادة بناء العقد الاجتماعيّ على أسسٍ جديدةٍ: العدالة، المواطنة، والحرية.
السياسة هنا ليست مسرحاً للأدوار ولا صراعاً على مقاعد، بل محاولةٌ لإنتاج معنىً جديدٍ للعيش المشترك. وهذا هو الخيار الذي يُحدّد مستقبل لبنان ككل.
في الختام، لبنان اليوم يقف أمام مفترقٍ تاريخيٍّ. فقد استنفد نظامه القائم طاقته، ولم يعد قادراً على إنتاج استقرارٍ أو شرعيةٍ. والبديل ليس في إعادة تدوير الخطاب نفسه، بل في استعادة السياسة كفعلٍ تأسيسيٍّ. إنها لحظةٌ لإعادة تعريف القوة، لإنتاج عقدٍ اجتماعيّ جديدٍ، ولصياغة معنىً آخر للعيش المشترك.
فالسياسة في لبنان، إن لم تتحوّل إلى هذا الفعل التأسيسيّ، ستبقى مجرّد طفولةً سياسيّةً تؤجّل الانهيار ولا تواجهه.
مراجع:
- Bourdieu, Language and Symbolic Power, 1991
- Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, 1971
- Weber, Politics as a Vocation, 1919
- Dewey, Democracy and Education, 1916
- Arendt, The Human Condition, 1958