17 تشرين Archives - Page 6 of 6 - 180Post

Eb71e08XkAUxH4k.jpg

هذه المرة إسمح لي يا سماحة السيد. فلتعتبرني ابنتك. لكني سأكتب لك تحديداً هذه المرّة، إذ مهما كان هدف كلماتنا المكتوبة التأثير في صناعة الرأي العام، فإنني ومن موقعي الصغير، ولا أخفي ذلك، سأكتب لتقرأ أنت. وأنت أكبر المؤثرين في المشهد. وأنت قلت: نقبل النقد. حسناً، لا تعتبره نقداً يا سيد... اعتبره نوعاً من التفكير بصوت عالٍ، ومنصة هذا المقال هي مساحة للتفكير المشترك، ما دامت لا امكانية لإيصال الصوت إلا بذلك.

PAGE331-19_433371_722906_highres-1280x653.jpg

لطالما كان سُنّة لبنان، وغالبيتهم من أبناء المدن، شركاء أساسيين في الصيغة اللبنانية وركيزتها رئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري، وهو الذي رفض إستبدال إنتداب بآخر، ورئيس الحكومة السني رياض الصلح، بما له من إمتداد عربي، لكن لم تمض سنوات على الاستقلال اللبناني حتى سقط الصلح إغتيالاً في العام 1951 في العاصمة الأردنية على يد عنصر قومي سوري، وسقط الخوري بالإستقالة في العام 1952، بفعل تضافر عوامل داخلية وخارجية ضده، ولم تمر سنوات أيضاً حتى اشتعلت احداث 1958، في عهد الرئيس كميل شمعون.

368.jpg

انفلات الوضع الأمني في طرابلس طرح فيضاً من أسئلة سياسية عديدة عن معنى استهداف الجيش والقوى الأمنية، ما جعل المدينة ساحة لحرب شوارع، فالعاصمة الثانية المُعقدة بتشابك عناصر عديدة تبدأ من فقر مُدقع وبنيوي ولا تنتهي عند حجم وقدرات قوى تزعم لنفسها هوية دينية ومعنى مذهبياً، فيها أيضاً فيضٌ من صراعٍ بين الزعامات السياسية السُنية التي وجدت نفسها على الهامش بعدما حل حسان دياب في المقعد الأمامي في لحظة سياسية هي الأكثر حراجة في تاريخ لبنان.

EUa0Zt-XQAIiZqe.jpg

"كنتُ سأفعل لو كنتُ أستطيع. وكنتُ أستطيع لو كان لي. سأفعل إنْ استطعت. وأستطيع إنْ فعلت. كنتُ لا أستطيع إنْ رغبت. وكنتُ سأفعل لو كنتُ أستطيع. أستطيع إنْ فعلت. وسأفعل إنْ استطعت". تلك، هي إحدى نوبات الهذيان للفصاميّ جون، إبن رئيس الوزراء البريطاني سبنسر برسيفال الذي أخذ مكانته الفريدة في التاريخ السياسي لبريطانيا، لكونه الوحيد الذي اغتيل (كرئيس للوزراء) أثناء وجوده في السلطة (سنة 1812). وجون برسيفال، كان ضابطاً ومبشِّراً إنجيليّاً، أمضى ثلاث سنوات في المصحّات النفسيّة بعد تجربةٍ عاشها، في القرن التاسع عشر، في كنف طائفة الإيرفينغيّين المتطرّفة في اسكتلندا.

DSC_9101-1280x1650.jpg

 ليست أول مرة ترفع صوتها وتهتف وتقود مظاهرة وتعبر عن رأيها السياسي التام والواضح. كما أنها ليست أول مرة تركل السلطة في صدرها.

اكثر من ذلك، فإن الفعل السياسي الوحيد في لبنان في السنوات الأخيرة حرّكته نساء يدافعن عن حقوق المرأة ضد العنف القاتل وبالحضانة وباعطاء أبنائها جنسيتها. وقد تحدين في سبيل هذه القضايا خليطا من سلطات كثيرة متداخلة قائمة، دينية وطائفية وسياسية واجتماعية وعنصرية. وهو خليط اتفق أعضاء نادي السلطة اللبناني في أعرافهم خلسة على عدم تحديها مذ قام البلد نفسه.

تحدين النظام برمته، برؤوسه المتعددة، زعامات كانت أو رجال دين أو تابوهات ومحرمات. وفي نزولهن إلى الشارع في مواجهة  كل موروثات الذكورة، لم يأبهن بعدد ولم يهبن ولم يهادن في مطالبهن، واستخدمن الوضوح والسخرية في الهجوم على السلطات. كانت تحركاتهن بلا قائدة أو قائد، تامة الديموقراطية، وتامة الانفتاح على التنوع، شكلاً ومضموناً.

كان الصوت عالياً حينها وكان المطلب وما زال محقاً. وقصدن ذلك أم لا، صنعن نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه الحركة المطلبية، كما رسخن صورة للمرأة العادية، وليست الأيقونة، التي تعرف بديهيات حقوقها والتي تتعرض لما تتعرض له النساء حول الكوكب، بدرجات تختلف بحسب تخلف قوانين البلاد أو تقدمها، وتصلّب المجتمعات أو تحررها.

المرأة العادية أو التي تريد أن تكون عادية. التي لا يسائلها معتوهون في أخلاقها كلما شعروا بتهديد في حجم رجولتهم نتيجة نقاش. التي ليست مضطرة لأن تبرر ماذا ترتدي وماذا تقول ومع من تنام لأنها صحافية تسأل سياسياً أو نائبة تعارض حزباً. العادية التي إذا شاركت في تظاهرة لا يقف أحد عند جمالها أو عكسه، رقتها أو شراستها، خجلها أو وقاحتها، حجابها أو عدمه. أخلاقها أو قلة أخلاقها. العادية التي ليست من شأن أحد قط، بل من شأن نفسها فقط.

لم تولد المرأة في لبنان في 17 تشرين.

هي موجودة منذ ما شاء الله بالطبع. فاعلة في الجامعات والوظائف العامة والخاصة وفي المنظمات الحقوقية والأحزاب والإعلام وحتى في الطوائف. وهي مشاركة أبدية في تظاهرات لبنان “العظمى” التي لم ترق واحدة منها لتصير ثورة، كما هذه الثورة التي يشهدها لبنان الآن.

الثقة بالنفس هي ما اكتشفه لبنانيو ولبنانيات الساحات في الأيام الماضية. الثقة العارمة هذه هي التي أذهلت المكبوتين وهم يرون النساء يشتمن ويركلن ويسحلن في الطرق، ويتقدمن المسيرات ويحطمن الأصنام على أنواعها

كلّ ما في الأمر أن الأفراد هم الذين نزلوا إلى الشارع هذه المرة. نزلوا بدون خطاب مبرمج مسبقاً، معممٍ عليهم. نزلوا بدون خط زمني للتحرك ينتهي بمسك ختام قائد صارخٍ، كلّ همه تجيير الرقم الذي يقبع أسفل أنفه متطلعاً إلى نوره… ونور القادة اللبنانيين بخاصة ساطع دائماً، يمحي أول ما يمحي، ملامح وجوه جماهيره، ويوحّد صوتها خلفه، خلف عباراته وخلف ما يزيده منها.

17 تشرين هي ثورة الفردية على الجماعات. ولأنها كذلك، ولأن المُطالب بحقه في الشارع يعرف هذه المرة أنه ليس رقماً مضافاً في عداد القطيع، أعطت هذه الثورة الثقة لكل واحد بالصوت الخاص به وحده، بالرأي الذي يجب ألا يعجب الآخرين، كل الآخرين، وهذا سبب كاف لإعلانه وليس لإخفائه. الثقة بالنفس هي ما اكتشفه لبنانيو ولبنانيات الساحات في الأيام الماضية. الثقة العارمة هذه هي التي أذهلت المكبوتين، وهم يرون النساء يشتمن ويركلن ويسحلن في الطرق، ويتقدمن المسيرات ويحطمن الأصنام على أنواعها، وفي أولها تلك المحفوظة بعناية في الرؤوس، تنوء تحتها أجسام حامليها لثقلها وتورمها.

لم تحطم اللبنانية في 17 تشرين صورتها كجميلة صامتة. من يؤمن بخرافة كهذه، كمن يؤمن بأن الأرض مسطحة، لا سبب لإهدار الوقت في نقاشه. لم تحطم أيضاً صورتها كندٍ للرجل يمكنها أن تفعل ما يفعل. هي ليست نداً له، ولا أقل منه ولا أكثر. مثلها مثله. كلاهما يطالب بجامعة لبنانية أفضل، بوظيفة بناءً على كفاءة، بقوانين عصرية، بسياسيين بلا فساد، بسياسيين من لحم ودم وليس أنصاف آلهة. كلاهما يطالب ببلدٍ عاديٍ. كلاهما يُحبُ بلده وكلاهما حين ينزلُ إلى الشارع لمطلبٍ لا يعود الفارق الجندري واضحاً أو مهماً ما دام المطلب محقاً.

لم تبرهن المرأة اللبنانية شيئاً مذ شاركت في 17 تشرين ولم تشارك لتبرهن. قامت بواجبها العادي. ومع ذلك، فإن صوت الشارع اللبناني يبدو صوتاً أنثوياً فاقعاً هذه المرة. صوت أنثوي ثاقب بنقائه ووضوحه وذكائه وحريته وحسُ سخريته. من هذا الصوت بالتحديد، تخاف طبقة برمتها من ذكور السلطة الذين حتى إذا لجأوا إلى الشتيمة كأدنى ما يستطيعون الوصول إليه حين يُحشرون، سيواجَهون بشتيمةٍ أعلى.. وأحلى.

أنثويٌ فاقعٌ صوتُ الثورة، وعليه، فإن بياناً جديداً ومختلفاً وفيه الكثير من نون النسوة، قد حُرر هذه المرة.

DSC_9057-1280x804.jpg

جسدت انتفاضة 17 تشرين الاول/أكتوبر، منذ اليوم الأول لانطلاقتها، شرارة تغيير تاريخي عنوانه: كابوس الديناصورات الطائفية والسياسية يمكن ازاحته، والتغيير حلم رائع يمكن تحقيقه بالصبر والارادة والعزم والابداع والإستمرار.

DSC_8838-1280x855.jpg

أعاد مشهد نزول طلاب لبنان الجامعيين و تلامذة مدارسه الى الشوارع في حركة احتجاجية عفوية لاقت بعضها بعضاً، الى الاذهان، صورة حركات طلابية رائدة في العالم، كان لها كبير التأثير على انتفاضات و ثورات أحدثت تغيرات كبرى في وعي المجتمعات.