تشي مجريات الأحداث الأخيرة في ليبيا بأن “مسار الاستعادة”، أي محاولة إعادة إنتاج شكل الدولة الليبية، يمر عبر رحى نزاع داخلي بين مختلف المكونات، وسلم أولويات خارجي يتنوع بين ما تريده أطراف اقليمية على رأسها مصر وتركيا، ورغبة أوروبية واميركية في سد الثغرة التي تم تجاهلها لنحو عشر سنوات ونتيجتها مفاقمة قضية اللاجئين والتنظيمات الارهابية وإحتمالية تواجد روسي مستدام في جنوب المتوسط.
مخاوف وتناقضات عديدة ما زالت قائمة تجاه ما بات يُطلق عليه من قبل مختلف الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية “استعادة ليبيا”، وذلك على الرغم من الخطوات المهمة التي أنجزت خلال الأشهر القليلة التالية لاتفاق وقف إطلاق النار في آب/ أغسطس الماضي، والتي كان آخرها، وأهمها، على المستوى الداخلي، وبرعاية أممية وتوافق خارجي، انجاز مرحلتين من ثلاث مراحل انتخابية، أثمرتا حتى الآن إقرار مجلس رئاسي وتشكيل حكومة انتقالية، كأطر تنفيذية ضمن خريطة طريق ممتدة لحين إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في كانون الأول/ ديسمبر المقبل.
الملمح الأهم في الخطوات السابقة هو تنحية وجوه الاستقطاب والاقتتال التي تصدرت المشهد السياسي الليبي منذ العام 2014، ولو بشكل مؤقت، وتصعيد شخصيات غير استقطابية في كل من شرق ليبيا وغربها وجنوبها، على رأسها رجل الأعمال عبد الحميد دبيبة كرئيس للحكومة الانتقالية، والدبلوماسي السابق محمد المنفي كرئيس للمجلس الرئاسي.
هذه التغيرات تدل على أن الرعاة الإقليميين للنزاع الليبي– الليبي استقروا على إدارة المرحلة الانتقالية وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب – ميدانياً على الأقل – وذلك عبر جولات تفاوضية متعددة في مصر والمغرب وسويسرا طيلة الأشهر القليلة الماضية، كانت سمتها الرئيسية فصل القضايا والملفات طبقاً لسلم أولويات توافقي يشمل استعادة شكل الدولة الليبية عبر مأسسة أطر تنفيذية وخدمية وأمنية موحدة للعمل في كافة أنحاء البلاد على مختلف الأصعدة وخاصة الاقتصادية منها.
على مستوى محلي، وبخاصة في ظل تفشي وباء “كورونا” وتداعياته الصحية والاقتصادية، باتت هناك حاجة مُلحة على مستوى الاجتماع الليبي ككل، وليس فقط “نخبته” السياسية والعسكرية، لإيجاد أرضية مشتركة لمواجهة ما هو أكبر وأخطر من دواعي الاقتتال بين طرابلس وبنغازي، أياً كانت سرديته الدعائية – وطنية كانت أو ثورية أو إسلاموية – وهو ما استوجب ايجاد حدود دُنيا للتلاقي في أرض وسط، وإن كان بشكل طارئ ومؤقت، عبر سلسلة إجراءات من بينها إصدار عُملة موحدة، وتسيير حركة النقل والبضائع والطاقة وضمان الأمن الغذائي وغير ذلك من خدمات اساسية – لا سيما على المستوى الصحي – باتت خارج اهتمام طرفي الاستقطاب والاقتتال الأهلي، الذي بات يدور في فلك المصالح الفردية والمافياوية لأطرافه، الذين وجدوا أن استمرار مصالحهم مرهون باستمرار حالة التفكك والانهيار، وتحول البلاد الى ساحة تصفية صراعات إقليمية ودولية منذ العام 2012.
أما على مستوى الخارج، فإن المحرك الأساسي لتمرير خريطة الطريق الليبية جاء عبر شبه إجماع على استعادة حد أدنى من ليبيا ولو بشكل ظاهري، وذلك لاعتبارات متعلقة بإستبيان موقف واشنطن المتحسس من الاشتباك المباشر بين مختلف أطراف الصراعات الاقليمية في ليبيا منذ عهد باراك أوباما، والأهم استنزاف رعاة الاقتتال الأهلي الليبي لكافة محددات صراعاتهم بالوكالة على الساحة الليبية، والتي تحولت إلى مجرد ورقة ضغط ومساومة لأسباب ليست متعلقة بليبيا بالأساس، وما نتج عن ذلك من أخطار لم تعد تنحصر، في أزمة اللاجئين أو في استخدام ليبيا كنقطة عبور للمرتزقة والإرهابيين.
وبالنسبة إلى الأوروبيين والأميركيين، فإن المخاطر الاستراتيجية المترتبة على استمرار الصراع الليبي تتمثل في أنه بات لروسيا تواجد معتبر في جنوب المتوسط، قد يتطور من مجرد استدعاء مؤقت/تكتيكي من جانب من يفترض أنهم “حلفاء” الولايات المتحدة.
يبدو أن الرعاة الإقليميين للنزاع الليبي – الليبي استقروا على إدارة المرحلة الانتقالية وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب – ميدانياً على الأقل
لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الحضور الروسي قد جاء كضرورة في “غفلة” أميركية/أوروبية منذ العام 2014، وهو قيد التحول الى اطار إستراتيجي لا يقتصر على مجرد تواجد عسكري طويل الأمد مماثل لطرطوس وحميميم في سوريا، بل يمهد لمتغير جيوسياسي مرتبط بحد أدنى بمسارات الطاقة المستقبلية.
من هذا المنظور، يمكن تتبع دوافع القوى الدولية والإقليمية للتعامل الجاد مع عملية استعادة ليبيا/اعادة إنتاجها، والتي لا تأتي بالضرورة في سياق استعادة كاملة لشكل وجوهر الدولة كمؤسسات ودستور واجتماع، وما يتبع ذلك من مظاهر احتكار العنف والسلاح في منظومة هرمية عكس الوضع الراهن، بل يمكن القول أن هذه المساعي المعنونة باستعادة الدولة وتوحيد اقاليم ليبيا الثلاثة وانهاء الصراع بين شرقها وغربها هو بمثابة رغبة دولية واقليمية لإنهاء حالة استخدام ليبيا كورقة متعددة الاستخدامات على مستوى الصراعات الإقليمية والدولية، حتى وإن كان قد أتى ذلك في بوادره ككشف أوراق وكسر جليد واستدارة، وغيرها من التوصيفات التي تجعل من الوصول إلى حد معقول من التهدئة وصولاً إلى تسوية ما، مجرد خطوة أولى في مسار ترتيب ملفات دولية وإقليمية أكثر تعقيداً تمثل فيها حالة اللادولة الليبية طيلة العِقد الماضي ورقة ضغط ومساومة وجغرافيا لصراعات تتخطى جغرافية ليبيا وربما شمال أفريقيا ككل.
ما سبق يفسر أيضاً توقف تركيا عند حافة الصدام في الربع الأخير من العام الماضي، وذلك لأسباب تتجاوز الموازين العسكرية واللوجستية، وأهمها انتظار نتيجة الانتخابات الأميركية، ولكن مع فارق أن تركيا – وبخلاف مصر التي تتحرك في ليبيا انطلاقاً من أولويات نابعة من شرعية الدفاع عن مقدرات أمنها وحدودها البحرية والبرية ورسم خطوط حمراء ضمن أطر ورؤى أممية ودولية تستهدف تسوية الصراع وليس الاستمرار في توظيفه – تسعى الى استثمار الصراع الليبي كورقة متعددة الاستخدامات، سواء في ما يتعلق بطموح التوسع جنوباً أو في سياق السعي لتصدير أزمات الداخل عبر خطاب شعبوي استعماري، وقبل ذلك كله إعادة المحاصصة فيما يخص غاز شرق المتوسط، واستخدام ليبيا كمساحة للضغط.
من جهتها، تسعى مصر إلى استثمار الإجماع الدولي حيال رؤيتها تجاه ليبيا في إعادة ضبط علاقاتها مع حلفائها الإقليميين وكذلك مع الولايات المتحدة في عهد جو بايدن، وذلك من مدخلين أولهما استعادة شكل المؤسساتية وتغليب العامل الجيوستراتيجي على نمط الشراكاتية الذي اتسمت به سنوات دونالد ترامب الأربع؛ وثانيهما ضبط إيقاع الفعل السياسي لـ”حلفائها” في ليبيا بما يتناسب مع أولوياتها التي لا تتصادم مع التوجهات الأميركية.
وهذا التوجه يضيق فرص تنشيط أنماط سابقة لمناورة هؤلاء “الحلفاء” مع مصر تجاه مختلف القضايا الإقليمية، انطلاقاً من ليبيا والسودان، وذلك لحصد مكاسب على حسابها لمصلحة محددات ودواعي علاقتهم مع أنقرة والدوحة، وارتباط ذلك بتموضعهم مع متغيرات سياسة بايدن تجاههم أو تجاه المنطقة بشكل عام.
في الصورة العامة، يبدو أن سيناريو تفخيخ مسار الحل في ليبيا يتلاشى مع مرور الوقت، وذلك بناء على التقدم التي حدث في الآونة الأخيرة على مستويات داخلية وخارجية، الهدف منها تثبيت هذه التهدئة وترسيخها في شكل تسوية سلمية لأطراف النزاع الأهلي، وصولاً إلى استعادة شكل الدولة الموحدة في ليبيا ولو بحدود دُنيا.
مع ذلك، تبقى هناك احتمالات عرقلة وتسويف لمراحل خريطة الطريق الليبية التي من المفترض اتمامها في أواخر العام الحالي، والتي قد ترقى إلى ما يمكن اعتباره ألغاماً موقوتة، ومن بينها مخاوف بعض أطراف النزاع الليبي من الإطاحة بها أو تكون هذه التسوية على حسابها، وهو ما سيتبين مداه وتأثيره في المستقبل المنظور، من حيث استمراره كنمط أو تلاشيه كحوادث عابرة، مثل حادثة تبادل إطلاق النار على موكب وزير داخلية “الوفاق” فتحي باشاغا، أو شبهات حول ضلوع مرتزقة أميركيين محسوبين على ترامب في تجاوزات إنسانية أثناء عملهم في شرق ليبيا، والأهم مصير مكونات وقادة الميليشيات الجهادية في الغرب الليبي، والذين يقع بعضهم تحت طائلة العقوبات الأميركية.
وعلى نفس الاتجاه، فإن الثابت هنا هو أن هذه الألغام في حاجة إلى فتيل إقليمي ودولي لتفجيرها إن جاز التعبير، وهو أمر يرتبط إيجاده بمسارات معقدة على مستوى مختلف القضايا الإقليمية وإعادة التموضع والاصطفاف التي تحمل في طياتها ما يمكن وصفه بـ”شراكات الأضداد”.
يضاف الى ما سبق حدود استغلال أنقرة والدوحة -مثلاً- لثغرات شراكات مصر الاقليمية وتوظيفها من جديد على الساحة الليبية، حتى وإن ظلت تحت سقف الخطوط الحمراء لإدارة بايدن ومن خلفه الاتحاد الأوروبي، والتي تتعلق في شقها الليبي بعدم التصعيد إلى الحد الذي يسمح بتواجد روسي جنوب المتوسط، وإنهاء نمط الابتزاز والارتهان الأردوغاني الذي لا تربأ به الرياض على سبيل المثال.
لا بد من الاشارة في هذا السياق إلى أن السعودية ترى حالياً أن استدامة نمط استعادة وتعزيز النفوذ الخارجي من جانب مصر على أرضية استعادة الاستقرار ولملمة فوضى العقد الماضي، يجعل تراتبية موقع القاهرة بالنسبة للإدارة الأميركية الجديدة أفضل من موقع الرياض، خاصة مع تلويح المملكة بالاستمرار في التصعيد على مختلف الأصعدة لتثبيت مكاسب حصدتها خلال عهد ترامب، وذلك عبر اصطفافات إقليمية كان آخرها فرض “مصالحة العُلا” والتقارب مع تركيا على أرضية مشتركة ضد تسوية منفردة لواشنطن مع طهران، وهو ما قابلته إدارة بايدن بتفعيل دور مصري تقليدي يتمثل في نزع فتيل تصعيد إقليمي غير محسوب مداه، يبدأ بليبيا وربما أثيوبيا لاحقاً، وقد يتوسع مستقبلاً باتجاه ساحات هشة جديدة مثل لبنان، الذي يبدو في نظر معظم القوى الإقليمية مرشحاً لأن يكون ساحة خلفية لضبط فعاليات الدور الأميركي سواء في ما يتصل بالصراع على غاز شرق المتوسط أو ما يرتبط بمآلات العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.