ميقاتي ينجح في رهانه الخارجي.. هل ينجح لبنانياً؟

وأخيراً بعد خمسة وأربعين يوماً، وأربعة عشر لقاءً بين الرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس اللبناني ميشال عون، تمكنت كاسحات الألغام الدولية والإقليمية من إزالة العوائق امام تشكيل حكومة منتظرة منذ أكثر من سنة، سرعان ما حظيت بترحيب دولي وعربي ولا سيما أميركي وفرنسي ومصري.

أولاً؛ الظروف الدولية الضاغطة:

لعب الانسحاب المهين للولايات المتحدة الامريكية من أفغانستان وبدء التحضير لانسحابها المرتقب من العراق وسوريا دورا رئيسيا في الإسراع بعملية تشكيل الحكومة في لبنان، فواشنطن لا تريد ان تترك خلفها فراغا في الشرق الأوسط يتهيأ لملئه خصومها الصين وروسيا وإيران، لذا قررت أن تواصل المهمة التي بدأتها الإدارة الامريكية السابقة بتوزيع المهام على حلفائها الإقليميين، فقامت بتسليم مهام الامن للكيان الصهيوني عبر اتفاقيات “أبراهام” التطبيعية مع عدد من الدول العربية، (الامارات والبحرين في الخليج والسودان في القرن الافريقي والمغرب في المغرب العربي). وفي هذه الاتفاقيات سيكون لدولة الكيان اليد الطولى امنياً من الخليج الى المحيط نيابة عن واشنطن وبرعايتها وحمايتها في مجلس الامن الدولي.

اما في الإدارة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، فمن الواضح ان فرنسا استطاعت نيل الرضا الأمريكي لملء الفراغ وكانت باكورة ذلك قمة بغداد التي عقدت خلال الشهر الماضي تحت الأنظار الامريكية بحضور الرئيس ايمانويل ماكرون شخصيا الى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وممثلين عن دول المنطقة بما فيهم إيران والسعودية، وكانت باكورة هذه القمة الاتفاق النفطي الضخم الذي حصلت عليه شركة “توتال” الفرنسية في مدينة البصرة جنوب العراق (ذات الغالبية الشيعية) والبالغة قيمته 27 مليار دولار، وهو لم يكن ليتم لولا موافقة العدوين اللدودين الفاعلين في العراق، إيران وامريكا.

ان موقف حزب القوات اللبنانية، الذي بات الوكيل الحصري للسعودية في لبنان، حيال الثقة بالحكومة سيكون مؤشرا للمنحى الذي ستتخذه القيادة السعودية في لبنان، مع العلم ان ميقاتي قدم للسعودية سلما للنزول عن شجرة عنادها عندما قال إثر تشكيله الحكومة انه سيعمل على اعادة ما انقطع مع المحيط العربي للبنان

من الواضح ان الموافقة غير المباشرة لإيران على هذه الصفقة لم تكن لتتم لو لم يقدم الجانب الفرنسي التزاما عبر عنه بالضغوط القوية المدعومة بضغوط مماثلة من الحليف الامريكي باتجاه طرفي تشكيل الحكومة، وهما ميشال عون ونجيب ميقاتي، لتنفيذ المهمة. وقد عقدت على هامش قمة بغداد سلسلة من اللقاءات الثنائية والثلاثية بعيدا عن الأضواء، علماً ان السعودية حاولت منذ امد ليس بالقريب مقايضة ملف دعمها للبنان مقابل تقديم تنازلات لصالحها في اليمن، ولكن هذا الموقف اصطدم في بغداد بشطارة المفاوض الإيراني، الذي رأى انه بالإمكان الحصول على بديل للدعم السعودي من خلال التفاوض مع الأصيل بدل الوكيل، أي مع الثنائي الفرنسي -الأمريكي الذي تولى تأمين الغطاء العربي الوازن لتشكيل الحكومة، أي مصر، بما لها من ثقل سياسي عربي، وقطر بما لها من وزن مادي، وبهذا تمكن المفاوض الإيراني ان يدفع مقابل الحكومة في لبنان من جيب العراق الذي سيستفيد بدوره من صفقة “توتال” وبات على السعودية ان تجد ورقة مساومة أخرى في مفاوضاتها مع ايران بعد ان خسرت الورقتين اللبنانية والسورية والا فانها ستبقى الى امد غير منظور على مقاعد لاعبي الاحتياط في المنطقة.

لقد ترجم المشهد الخارجي في تشكيلة حكومية وحدها فرنسا هي من يمتلك الثلث الضامن فيها من دونه استبعاد الحضور الواضح لملائكة واشنطن أيضا، على حد تعبير أحد المعلقين.. وامام هذه المعطيات، فان السعودية امام خيارين، اما اللحاق بالركب وعدم اخلاء الساحة لخصمها الخليجي (قطر) وبالتالي أن تعلن تأييدها ودعمها للحكومة واما الانزواء ومواصلة العناد في اليمن وبالتالي الغرق أكثر وأكثر في وحول حرب لا مخرج مشرف منها تماما كما حصل مع حليفتها واشنطن في أفغانستان.

ان موقف حزب القوات اللبنانية، الذي بات الوكيل الحصري للسعودية في لبنان، حيال الثقة بالحكومة سيكون مؤشرا للمنحى الذي ستتخذه القيادة السعودية في لبنان، مع العلم ان ميقاتي قدم للسعودية سلما للنزول عن شجرة عنادها عندما قال إثر تشكيله الحكومة انه سيعمل على اعادة ما انقطع مع المحيط العربي للبنان، في إشارة ضمنية الى السعودية.

ثانياً؛ الظروف الداخلية الضاغطة:

لا شك ان كل أطراف الصراع في لبنان كانوا مأزومين، فلا ميشال عون كان مرتاحا لحال المراوحة لأنها كانت تأكل من سني عهده ومن جمهور حزبه، ولا نجيب ميقاتي كان مرتاحا لان يكرر تجربة سلفه سعد الحريري في زيارات الى القصر الجمهوري بلا جدوى طوال 9 أشهر. كما ان حزب الله بات يستشعر التأثير السلبي لمواصلة المراوحة على بيئته الحاضنة التي لن تخرجها من فقرها وجوعها بضعة بواخر محروقات ايرانية على أهميتها، لذلك كان البحث عن حل “لا يموت فيه الديب ولا يفنى الغنم”، وهو بالأساس كان امرا ممكنا، ولكنه كان بحاجة الى المظلة الدولية والإقليمية التي ما ان توفرت حتى ركبت الحكومة وفق نظرية لا غالب ولا مغلوب وان يكن في طياتها الامران. اما على المقلب الاخر داخليا، أي قوى الانتفاضة الشعبية، فقد كان ملاحظا ان أي مجموعة من مجموعات الحراك المدني لم تبادر الى اتخاذ موقف او الدعوة الى تحرك ما على الرغم مما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي من معلومات عن فساد بعض الوزراء المعينين، وفي هذا مؤشر الى احتمالين، اما ان هذه المجموعات كغالبية أبناء الشعب اللبناني قد تعبت من الصراخ على مدى عامين من انتفاضتها ووصلت الى حالة يأس بالغة، واما ان غالبيتها تعمل على “ريموت كونترول السفارات”، كما تتهمها بعض قوى المنظومة السياسية الحاكمة.

الدموع التي ذرفها ميقاتي قد تكون نابعة من القلب واكنها لن تعيد الأموال لأصحاب الودائع، ولن تعطي الحليب للأطفال ولا الدواء للعجزة ولا الكهرباء لطلاب على باب عام دراسي مهدد

في هذا السياق، لا بد من ملاحظة ان المحاصصة لم تغب عنها بين قوى المنظومة الحاكمة والتغيير الوحيد الذي حصل هو ان هذه القوى آثرت ان تعيد انتاج سلطتها بوجوه مقنعة بدلا من وجوه نشطائها السياسيين المباشرين، وبالتالي فان ذلك يقود الى البحث عن البرنامج الذي ستقدمه حكومة إعادة انتاج منظومة الأزمة، فكيف لهذه المنظومة ان ترعو وتغير نهج الفساد والسرقة والهدر؟

إقرأ على موقع 180  دروس برسم حزب الله.. الحماية لبنانية أولاً

قد يقول قائل ان ممارسات وسياسات هذه الحكومة ستكون تحت مجهر القوى الدولية والإقليمية هذه المرة، وفي هذا الجواب نكتة سمجة ناهيك عن الكثير من السذاجة، لان ذلك يعني ان كل الحكومات السابقة على مدى 29 عاما لم تكن تحت هذا المجهر، وان القوى الدولية والإقليمية كانت “ترش” أموالها على المنظومة الحاكمة وهي لا تعلم ان هذه الأموال تسرق.

ان الدمعة التي ذرفها نجيب ميقاتي بعيد اعلان التشكيلة الحكومية، قد تكون نابعة من القلب، وقد تكون فعلا ناجمة عن تأثره بمشاهد الذل اليومية التي يشاهدها كل مواطن لبناني، ففي النهاية وقبل ان يكون سياسياً هو انسان، ولكن الدموع لن تعيد الأموال لأصحاب الودائع، ولن تعطي الحليب للأطفال ولا الدواء للعجزة ولا الكهرباء لطلاب على باب عام دراسي مهدد بعدم الانطلاق بسبب كل الازمات التي سبق ذكرها. ان الوسيلة الفضلى لكفكفة دموع دولته ودموع ملايين اللبنانيين، على الرغم من العمر القصير المقدر لحكومته (مبدئياً حتى الانتخابات النيابية في شهر أيار/مايو المقبل) هي ان يبادر هو شخصياً وبشجاعة لوضع حد لحال الانهيار المريع من دون ان يزيد الفقراء بؤساً والاغنياء ثراءً، عبر المبادرة فعلا الى تسريع وتيرة التحقيق الجنائي في مصرف لبنان أولا ويستتبعه بباقي الإدارات والمؤسسات والصناديق ومن ثم دعم التحقيق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت وعدم الموافقة على أي تأجيل للانتخابات.

في الختام، أستعين بتعليق لجاري الخباز “أبو محمد”. قال لي عن الحكومة الجديدة “متل الطعم ضد الكورونا، أي طعم أحسن من بلا ولا طعم”.. وعن التمني قال “يا أستاذ مين جرّب المجرب كان عقلو مخرب”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  روسيا فجّرت ربيع مصر 2011 بالقمح.. هل ينفجر مجدداً؟