عندما يُجازف بايدن إسرائيلياً في سنة.. إنتخاباته!

أقرأ أحياناً وأسمع كثيراً أن في واشنطن الآن من يعتبر أن المرحلة الراهنة من حرب غزة صارت تستدعي تدخلاً أمريكياً مختلفاً بعض الشيء عن نمط التدخل خلال الشهور الخمسة الماضية. أما التبرير الرسمي المُسرّب إلى خارج دوائر صنع القرار، وأغلبها وللحق في حال ارتباك وشعور بالتعاسة، فيميل إلى اعتبار أن أطراف الصراع الحاد قد حقّقت جميعها انتصارات كبيرة أو ضئيلة في جانب أو آخر، وهو الوضع الذي يستحق تدخلاً مناسباً.

يعتمد هذا التبرير مبدأ تتبناه الدبلوماسية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ويقضي بأن أمريكا سوف تتعامل بطريقة مختلفة مع أطراف أزمة أنهكتهم الحرب أو في حال تفاقم الضرر الذي حاق بمصالح أمريكا؛ أمريكا سوف تتعامل بمنطق أنهم جميعاً حقّقوا انتصارات من نوع أو آخر وبدرجة أو أخرى. لنا في مصر، ولا شك، تجارب لا نغفلها أو نتغافل عنها، تجربتنا مع هنري كيسنجر مهندس الاستراتيجية الأمريكية، حين كان يتدخل لتقوية طرف ضعيف في صراع، حتى يصبح هذا الطرف الضعيف أو المنهك طرفاً لائقاً وجاهزاً ليستحق صفة من صفات الانتصار، وبالتالي تتحسن مواقعه التفاوضية وتتحقق فرصته للقبول بوقف القتال والشروع في الاندماج في العملية السياسية التي تنوي واشنطن احتكار الإشراف عليها. حدث هذا في حرب السويس عندما أجبرت أمريكا إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من سيناء والقناة وفرضت على مصر القبول بسيادة أقل على سيناء لفترة استمرت حتى نشوب حرب العبور. دول العدوان كانت منتصرة عسكرياً ومصر منتصرة سياسياً. تدخلت أيضاً في حرب العبور بجسر جوي أنقذ إسرائيل من كارثة عسكرية كادت أن تكون مُحقّقة وقادت معركة وقف إطلاق النار خدمة لمصر. وفي المقابل، فرضت على الطرفين مفاوضات أفرزت اتفاقيات سلام ما تزال عليها مآخذ غير قليلة.

***

كانت مثيرة خلال الأيام القليلة الماضية متابعتنا لتطورات الوضع في حرب غزة، أو حرب فلسطين كما يجب أن تُسمى، في سعينا لتوقع اللحظة في هذه الحرب التي تستوجب تدخل واشنطن لتغيير دفة الحرب أو بالأصح لمنع توسعها وتمددها نحو آفاق قد يستحيل عندها تحقيق الأهداف الرئيسة لهذا الصراع.

أمريكا لن تقدر على استعادة “الوضع القائم قبلا” (status quo ante) سواء في الشرق الأوسط أم في إفريقيا أم في فنائها الخلفي، بل ولن تقدر بحالتها الراهنة وبحلفها المنهك والمضطرب على المحافظة على الوضع القائم في أغلب أنحائها

أنا شخصياً صرتُ مع الوقت أستبعد احتمال أن تترك أمريكا الأمور في الحرب وفي الشرق الأوسط عامة تتطور بالكامل نحو وضع لا تشارك في صنعه لاعتقادي أن مدرسة كيسنجر ما تزال هي الحاكمة في دوائر صنع القرار الاستراتيجي في واشنطن، ولاعتقادي أيضاً أن تغيراً ممكناً أو واقعاً بالفعل صار يُهدّد ثبات واستقرار بعض القواعد السياسية الداخلية في الولايات المتحدة نتيجة الأزمة الناتجة عن هذه الحرب.

لاحظنا جميعاً على امتداد الأزمة إلى أي حد ذهبت الولايات المتحدة لتثبت لمختلف الأطراف موقعها من هذا الصراع. رسّخت قواعد انحيازها ووضعت حدوداً وهدّدت علناً وسراً بأفعال ضد من يتجاوز أو حتى يقترب من هذه الحدود. تشاورت مع دول عديدة في الإقليم حول التمسك بصفة الإرهاب لحركة حماس وبالتالي ضرورة إسقاطها نهائياً من معادلة الصراع. حاربت إلى جانب إسرائيل بكل أدوات الحرب ما عدا الأفراد، وأقولها بتحفظ. لم تخجل أمام حلفائها العرب لكونها منحازة. لم تأبه لغضب الشعوب العربية وشعب فلسطين في المقدمة. جرجرت دول حلف الأطلسي إلى مواقف مبالغ فيها وخارجة عن مواثيق الحقوق والعدالة وحق تقرير المصير وانتهاء عصر الاستعمار، وكلها يفترض أن تكون من “ثوابت” وأخلاقيات السياسة في الحلف الغربي.

***

اعتمدت أمريكا منذ بداية هذه الحرب سياسة الانحياز الكامل للموقف الإسرائيلي، مع احتفاظها بحقها في قيادة هذه العلاقة. على الجانب الآخر، اعتمدت إسرائيل على حقها في قيادة يهود أمريكا في أداء مهمة التأثير في صنع القرار الأمريكي في أمور شتى على رأسها مصالح إسرائيل. تتضارب الآراء حول نتائج صنع سياسة خارجية في ظل ميوعة ومستويات هابطة من ازدواجية الولاء وقصص الفساد الأخلاقي والسياسي والأضرار الجانبية الناتجة عن هروب مجرمين للاحتماء بقوانين الوطن القومي في إسرائيل.

حدث في ظروف بعينها ونادرة أن خضع رئيس أمريكي لتوجهات صادرة من جهاز أو آخر فاتخذ موقعاً غير منحاز لإسرائيل. حدث هذا في كل مرة شعرت هذه الأجهزة بأن إسرائيل تجاوزت الحدود المتفاهم عليها، وأغلبها حدود لا يوجد مثلها في منظومة حلف الأطلسي أو في أي منظومة أخرى تقودها الولايات المتحدة. الشائع في العالم بأسره، وهو ما تشجع على اعتناقه النخبة في إسرائيل أنها هي التي تقود وليس أمريكا. تكسب إسرائيل قوة سياسية واقتصادية بانتشار هذا الزعم، بينما تتعمد أمريكا أن يعرف العالم أنها غير ممانعة أو معترضة. هذه الحقيقة تبدو أكثر وضوحاً في العلاقات مع دول العالم النامي وبخاصة مع دول الشرق الأوسط، الأمر الذي يثير كثيراً من عدم الفهم لحقيقة العلاقة بين أمريكا وإسرائيل.

لذلك فاجأت أمريكا كثيراً من المراقبين عندما وجّهت الدعوة إلى بني جانتس عضو مجلس الحرب الإسرائيلي لزيارة واشنطن وإجراء محادثات مع كبار المسئولين متجاوزة بنيامين نتنياهو بصفته رئيس الوزراء. كان واضحاً أن نتنياهو عازم على الاستمرار في تصعيد خلافه مع واشنطن ولكن ما لم يكن واضحاً للكثيرين هو عمق الأزمة الداخلية في واشنطن وأمور أخرى تدخلت جميعها لإقناع صانع القرار الأمريكي أن إسرائيل لامست بالفعل الحدود المحظور الاقتراب منها، بل وربما تجاوزتها. من هذه الأمور:

إقرأ على موقع 180  رونين ليفي من مجتمع المخابرات إلى الخارجية الإسرائيلية

أولاً؛ صعّدت الدول العربية ضغوطها على الحليفة الكبرى للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. تعلم هذه الدول أن المقاومة يساعدها وقف إطلاق النار. تعلم أيضاً، وهو الأهم، أن هذه الحرب أشعلت في الشعوب العربية نيران غضب لا عهد لها بمثلها. هذا الوضع، لو استمر، لهو أخطر على الاستقرار السياسي في كل هذه البلاد من أي عامل آخر.

ثانياً؛ نجاح المقاومة برغم كل شيء كفيل مع الوقت بأن يثير تفاعلات مناوئة للسلطات الحاكمة في دول عربية عديدة. من ناحية أخرى، استعادت القضية الفلسطينية مكانة مرموقة، ولعلها المكانة العالمية الأمثل منذ نشأة الصراع حولها. هذه المكانة لا تخدم بأي شكل مصالح أمريكا ولا أهداف إسرائيل واليهودية العالمية ولا مصالح بعض العرب كما اتضح من سلوكيات هذا البعض خلال الأزمة، مثل السعي المكثف لإقناع أمريكا عن طريق مبعوثيها بضرورة العودة إلى “الوضع القائم قبلاً” (status quo ante) بأي وسيلة وأي ثمن.

ثالثاً؛ حذّرت واشنطن كافة الدول من توسيع نطاق الحرب الدائرة في غزة، وراحت تساند هذا التحذير بتحريك أسطول بعد آخر إلى شرق المتوسط وجنوب البحر الأحمر وزيادة القوة الإسرائيلية المحاربة وتقديم خدمات استخباراتية سهّلت لإسرائيل عمليات اغتيال قادة عسكريين إيرانيين وفلسطينيين في أنحاء متفرقة من الشرق الأوسط. كل هذه الأعمال والتحركات والاغتيالات لم ترده إيران فاستمرت تدعم المقاومة والقضية الفلسطينية بل وصعّدت تدخلاتها، إلا أنها لم تتجاوز الحدود المتفق عليها مع الولايات المتحدة. تردّد، على كل حال، أن إيران، مدعومة داخلياً بصحوة ملموسة في التيار المحافظ، هدّدت بالتصعيد إذا استمرت إسرائيل في عمليات الإبادة. حمل التصعيد معنى التهديد بتجاوز الحدود المقررة سلفاً بين واشنطن وطهران. حمل أيضاً معني احتمال انتقال الغضب إلى كافة شعوب الدول الإسلامية.

أنا شخصياً صرتُ مع الوقت أستبعد احتمال أن تترك أمريكا الأمور في الحرب وفي الشرق الأوسط عامة تتطور بالكامل نحو وضع لا تشارك في صنعه لاعتقادي أن مدرسة كيسنجر ما تزال هي الحاكمة في دوائر صنع القرار الاستراتيجي في واشنطن

رابعاً؛ دارت مناقشات وحوارات في أوروبا وفي الشرق الأقصى أقلها معلن. لم يخفِ أغلب المشاركين فيها خيبة أملهم من السياسة الأمريكية الراهنة. مرة أخرى يكتشف علماء السياسة والخبراء الأوربيون كثرة الشقوق في جدران الحلف الغربي وأن الحرب ضد فلسطين عمّقت هذه الشقوق. اكتشفوا أيضاً الزيادة النوعية في القوة الجمعية للصين وروسيا والدول المقتربة منهما، مستفيدة جميعها من حالة الصحوة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كلها تأثرت بدفوعات ومداخلات جرت في محكمة العدل الدولية وفي جلسات مجلس الأمن وبهذه الانطلاقة غير المسبوقة في ميادين ومنصات الإعلام الإلكتروني. بمعنى آخر، نشهد على أنه بينما كان الغرب يتشرذم حول الموقف من الحرب في غزة كان الآخرون يتوحدون حول هدف إنشاء مجتمع دولي مختلف المعالم.

***

في الخلاصة؛ بالتدخل الأمريكي الفاضح والواضح في شئون إسرائيل الداخلية والحساسة يُجازف الرئيس جو بايدن وكثيرون من أعوانه ومن المرشحين للكونجرس في انتخابات الخريف بمواجهة صريحة وللمرة الأولى مع الجماعة الصهيونية الأمريكية. ليس هذا فقط ما يُقلق المفكرين السياسيين فهناك على مرمى النظر أوضاع كثيرة سوف تتعرض للتغيير بسبب هذه الحرب الدائرة في فلسطين أو في أعقابها أياً كانت نتائجها. أجازف بقول يستحق النقاش الهادئ، أجازف فأقول إن أمريكا لن تقدر على استعادة “الوضع القائم قبلا” (status quo ante) سواء في الشرق الأوسط أم في إفريقيا أم في فنائها الخلفي، بل ولن تقدر بحالتها الراهنة وبحلفها المنهك والمضطرب على المحافظة على الوضع القائم في أغلب أنحائها.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  سيرة شهداء مقاومين: "خميني عيناثا"، "ملاك كونين" و"مصنع الجبّين"