مرّت العلاقات الفرنسية – اللبنانية في الأسابيع الأخيرة بمرحلة من “التمخض والامتعاض” نتيجة عاملين. الأول؛ داخلي لبناني، بفعل تقليل فرقاء لبنانيين من أهمية الإهتمام الفرنسي بأزماتهم مقابل الإكثار في التعويل على الدور الأميركي. الثاني؛ خارجي، بفعل تصرفات بعض المسؤولين الأميركيين (في مقدمهم الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين) ورغبتهم الظاهرة بالتفرد بالملف اللبناني وتهميش الدور الفرنسي.
إغتنمت باريس مناسبة زيارة الرئيس نجيب ميقاتي لتوضيح أن إهتمامها بلبنان ليس “ظرفياً ولا مرحلياً” بل هو تعاطف “تاريخي ومستدام” وهي ليست مع فريق ضد آخر ولا مع طائفة على حساب أخرى بل هي معنية “بكل لبنان وبجميع اللبنانيين”. ولا تخفي العاصمة الفرنسية أن لها، كما لكل عاصمة كبرى، مصالح خاصة بها، لكن باريس تشدّد على أن تعاملها مع لبنان و”شراكتها” معه يتقدمان على علاقاتها مع أي جهة إقليمية أخرى وأنها تأخذ مصالحه في الإعتبار كأولوية.
وما تكريس الرئيس ماكرون برغم إنشغالاته، فرنسياً وأوروبياً ودولياً، ثلاث ساعات متواصلة للحديث والتشاور حول مختلف الأمور اللبنانية إلا “خير دليل” على مدى الإهتمام الفرنسي بهذا البلد والإلتزام المتجدد بإستمرار تقديم المساعدة المتعددة له في هذا “الظرف التاريخي الحرج والخطر” الذي يجتازه، من هنا جاء البحث “طويلاً ومتشعباً وشاملاً”.
لم تستبعد الأوساط الفرنسية قيام بري بزيارة قريبة إلى باريس التي بدت مُرحِّبة بها بهدف “تعزيز التواصل وتفعيل التشاور”. وألمحت إلى أن التعويل على دور بري يترافق مع الإبقاء على الرغبة الفرنسية في استمرار الإتصال مع حزب الله والتشاور معه
أولاً؛ لبنان والإستقرار الإقليمي
هذا العنوان كان الأبرز، وقد جرى البحث به والتشاور بكل تفاصيله على مستويات عدة، ثنائياً بين ماكرون وميقاتي وثلاثياً مع انضمام العماد عون إضافة إلى اللقاء المشترك بين قائد الجيش اللبناني ونظيريه الفرنسي الجنرال تياري بوركارد والإيطالي الأميرال جوزيبه كافو دراغون. وقد ظهر حرص واضح على ضرورة العمل بكل الوسائل المتاحة لحماية لبنان من أخطار تصاعد التوتر، أكان على حدوده مع اسرائيل أو على الصعيد الإقليمي ككل، بهدف المحافظة على أمن لبنان وتحصين سيادته. وقد جدّد الجانب الفرنسي إلتزامه التحرك في أكثر من إتجاه (ثنائي وجماعي، إقليمي وأوروبي ودولي) للحؤول دون التصعيد وتوسيع المواجهة.
ماذا عن الأفكار والمقترحات التي نقلها الجانب الفرنسي إلى الجانب اللبناني المتعلقة بتنفيذ القرارات الدولية في الجنوب اللبناني؟
تفضل الأوساط الفرنسية التحدث عن إقتراح “خطة” أكثر من إطلاق “مبادرة”، وتشير إلى أن المطلوب خلق جوّ من الثقة الأمنية المتبادلة بحيث تُبدّد هواجس الطرفين، ليس من خلال قرارات أو تدابير جديدة بل تفعيل كل القرارات الدولية الحالية من تثبيت مرتكزات إتفاق الهدنة (1949) إلى تطبيق مندرجات القرار 1701 (2006) بحيث “تتمكن القوات الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفيل) من ممارسة مسؤولياتها كاملة”.
وتُشير الأوساط إلى إعادة نظر فرنسية في بعض المقترحات التي وردت ضمن اقتراح الخطة الفرنسية.. وثمة تعديلات أدخلها الجانب الفرنسي على بنود الخطة على أن يدرسها الجانب اللبناني ويعطي أجوبته عليها قريباً، وتأمل باريس في أن يتجاوب لبنان مع مساعيها التوفيقية.
ويُشدّد الجانب الفرنسي على أهمية عامل الوقت، مبدياً تخوفه من إقدام الجناح الإسرائيلي المتشدد والمتطرف في حكومة بنيامين نتنياهو على القيام بـ”خطوة جنونية ومغامرة شديدة الخطورة” من خلال تصعيد المواجهة وإطلاق عمليات عسكرية هجومية تدميرية ضد لبنان.
وفي انتظار بلورة هذين الوضعين الأمني والديبلوماسي، أكد الجانب الفرنسي على تجديد الدعم للجيش اللبناني أكان على المستوى الثنائي أو على المستوى الجماعي الأوروبي والتنسيق مع الجانب الإيطالي في هذا الإطار، وستتولى لجنة ثلاثية مشتركة إعداد الخطوات العملية المقبلة بهدف تعزيز التعاون وتلبية الحاجات المتعددة عبر تدعيم قدرات الجيش في تنفيذ المهمات الموكلة إليه لبسط السيادة وضمان الأمن والإستقرار، على أن تكون الأفكار التي قدّمها قائد الجيش اللبناني إلى مؤتمر روما، مؤخراً، ركيزة هذا التنسيق الثلاثي الأبعاد.
ثانياً؛ ملف النازحين السوريين
تناول البحث أيضاً بين الجانبين الفرنسي واللبناني موضوع النازحين السوريين في لبنان. وقد شرح ميقاتي بشكل مستفيض الصعوبات المتعددة التي تواجه لبنان على مختلف الصعد الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والصحية والبنيوية وتعاظم الأخطار التي تُهدّد أمن المجتمع اللبناني وتماسكه، مطالباً بضرورة المساعدة الفاعلة أكان على الصعيد الفرنسي أو على الصعيد الأوروبي لتسهيل عودة القسم الأكبر من النازحين إلى بلادهم. وقد أدلى الجانب الفرنسي بعدد من الملاحظات، مبدياً تفهمه للمخاوف اللبنانية، وأشار الى أن هذا الموضوع سيُثار ضمن إطار جماعي خلال مؤتمر الإتحاد الأوروبي في بروكسيل في أيار/مايو المقبل. ولم يُسجل الجانب اللبناني أي تطور ملحوظ في الموقف الفرنسي – الألماني المتحفظ حيال هذه القضية.
وكان لافتاً للإنتباه أن ميقاتي قال في تصريحه بعد اجتماع الأليزيه إنه تمنى على الرئيس ماكرون “أن يطرح على الاتحاد الأوروبي موضوع الاعلان عن مناطق آمنة في سوريا بما يُسهّل عملية إعادة النازحين إلى بلادهم، ودعمهم دولياً وأوروبياً في سوريا وليس في لبنان”.
دعت باريس الفرقاء اللبنانيين إلى إغتنام فرصة الشهرين المقبلين لإجراء الإستحقاق الرئاسي لأنه بعد إنقضاء هذه المهلة ستكون الولايات المتحدة بدءاً من مطلع الصيف المقبل منصرفة بشكل تام لإنتخاباتها الرئاسية وبالتالي سيتراجع إهتمامها بالملفات الخارجية
ثالثاً؛ فرصة الشهرين رئاسياً!
الأوساط الفرنسية، كما الأوساط اللبنانية، أشارت إلى أن موضوع الإنتخابات الرئاسية اللبنانية جرى التطرق اليه من زاويته العامة من دون التوقف عند أي مرشح أو تناول أي إسم محتمل. فقد شدّد الجانب الفرنسي على ضرورة تحمل الفرقاء السياسيين مسؤولياتهم الوطنية من أجل إخراج بلدهم من أزمة الإستحقاق الدستوري التي من شان إستمرارها إلحاق المزيد من الضرر والأذى بسير عمل المؤسسات الدستورية وإنهاك وتصدع البنيان اللبناني. ودعت باريس الفرقاء اللبنانيين إلى إغتنام فرصة الشهرين المقبلين (أيار/مايو وحزيران/يونيو) لإجراء هذا الإستحقاق لأنه بعد إنقضاء هذه المهلة ستكون الولايات المتحدة بدءاً من مطلع الصيف المقبل منصرفة بشكل تام لإنتخاباتها الرئاسية وبالتالي سيتراجع إهتمامها بالملفات الخارجية. وأكدت باريس من جانبها على إستمرار مساعيها في هذا الإطار من خلال إعادة تحريك مهمة الموفد الرئاسي الوزير جان ايف لودريان وإمكان عودته قريباً إلى بيروت، وكان لافتاً للإنتباه أن ماكرون طلب من لودريان ـ شارك في الإجتماع مع ميقاتي ـ التواصل مُجدداً مع الأطراف اللبنانية.
هذا التوجه الفرنسي جاء بعد زيارة لودريان الأخيرة الى واشنطن ولقاءاته مع عدد من المسؤولين الأميركيين، ومن بينهم الموفد الرئاسي إلى لبنان آموس هوكشتاين. وكانت باريس قد طلبت مؤخراً من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال زيارته الأخيرة للعاصمة الفرنسية تسهيل مهمة لودريان اللبنانية وإزالة بعض العوائق والإلتباسات التي نشأت جراء بعض تحركات هوكشتاين المتناقضة مع المهمة الفرنسية.
صحيح أن أوساط الجانبين أكدت أنه لم يتم التداول بأي اسم لرئاسة الجمهورية لأن الجانب الفرنسي يؤكد أن لا مرشح رئاسياً محدداً له، كما أن الجانب اللبناني لم يأتِ من أجل “تسويق” إسم اي مرشح، إلا أن أوساطاً مراقبة ومهتمة بالملف اللبناني رأت أن الإسمين اللذين ما يزالا الأكثر تداولاً هما رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية وقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون اللذان يتمتع كل واحد منهما بنقاط قوة. وتعتبر هذه الأوساط أن المشكلة الحقيقية ما زالت داخلية وتحديداً ضمن الفريق المسيحي نتيجة عدم تخلي الزعامات المارونية عن أنانياتها وأحقادها واصرارها على تغليب مصالحها الشخصية الآنية والضيقة على مصلحة المسيحيين خصوصاً ومصلحة لبنان عموماً.
رابعاً؛ بري ودوره وزيارته المرتقبة لباريس
كانت لافتة للإنتباه خطوة الرئيس ماكرون المتمثلة بإجراء اتصال هاتفي مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري للتشاور بالمستجدات فور انتهاء اجتماع الأليزيه الذي أعقبه أيضاً اتصال بين رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان ورئيس مجلس النواب اللبناني. وتشير الأوساط المتابعة إلى أن اتصال ماكرون ـ بري انطلق من إعتبار أهمية موقع الأخير المزدوج، على الصعيد الدستوري كرئيس للبرلمان اللبناني وعلى الصعيد السياسي كأحد الفرقاء الأساسيين في الطائفة الشيعية. من دون أن يغيب عن بال باريس مكانة بري في المعادلة الداخلية ودوره الحواري المحوري إضافة الى إنفتاحه الخارجي لا سيما تجاه أوروبا والولايات المتحدة.
ولم تستبعد الأوساط الفرنسية قيام بري بزيارة قريبة إلى باريس التي بدت مُرحِّبة بها بهدف “تعزيز التواصل وتفعيل التشاور”. وألمحت إلى أن التعويل على دور بري يترافق مع الإبقاء على الرغبة الفرنسية في استمرار الإتصال مع حزب الله والتشاور معه.
أكدت باريس من جانبها على إستمرار مساعيها في هذا الإطار من خلال إعادة تحريك مهمة الموفد الرئاسي الوزير جان ايف لودريان وإمكان عودته قريباً إلى بيروت، وكان لافتاً للإنتباه أن ماكرون طلب من لودريان ـ شارك في الإجتماع مع ميقاتي ـ التواصل مُجدداً مع الأطراف اللبنانية
أسئلة أربع في انتظار أجوبة؟
كيف يبدو المشهد اللبناني في ضوء محادثات ميقاتي الفرنسية.. والمستجدات الإقليمية؟
الأوساط المتابعة للملف اللبناني، التي أبدت إرتياحها لإعادة تزخيم التواصل الفرنسي – اللبناني، تسارع إلى طرح هذه الأسئلة الأربع:
-هل تلتزم واشنطن بتفعيل التنسيق الجدي مع باريس حول الملف اللبناني، وبالتالي الإنتقال من مرحلة “التعاون المثمر” إلى مرحلة “التوافق العملي” حدودياً ورئاسياً؟
-هل تُتيح إسرائيل، وتحديداً رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، فرصة للمساعي الهادفة إلى تجنب “توسيع” المواجهة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية؟
-كيف سيتعامل لبنان مع المقترحات التوفيقية من أجل صيانة حدوده الجنوبية والحؤول دون امتداد النار التدميرية إلى الداخل اللبناني؟
-ماذا سيكون عليه موقع لبنان في حسابات إيران في حال قيام ابرام تسوية اقليمية أو دولية معها؟
أسئلة برسم واشنطن وبيروت وتل أبيب وطهران، وفي ضوء الأجوبة عليها يتحدد مسار الأمور في لبنان ومدى قدرة باريس على التعامل معها ومتابعة مفاعيلها.