..ورحلت رفيقة المهدي بن بركة من دون الكشف عن حقيقة المُجرم!

خلّف نعي السيدة غيثة بناني في باريس، يوم الأربعاء الأخير، 26 حزيران/يونيو 2024، عن تسعين عاما، حزناً وأسى كبيرين في الصف الديموقراطي واليساري بالمغرب، كما في شرائح مغربية واسعة. تجلى ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أجمعت عبارات وتدوينات التأبين على أن "بصمات السيدة غيثة بناني ستبقى حاضرة في الذاكرة السياسية والشعبية المغربية إلى الأبد".

من هي غيثة بناني؟

إنّ من رحلت لم تكن امرأة عادية؛ إنّها زوجة المعارض الوطني وزعيم اليسار في المغرب على امتداد عقود، المناضل الكبير المهدي بن بركة، القائد والثائر الأممي وأحد أبرز رموز حركات التحرّر الوطني في آسيا وافريقيا والحركات الثورية في العالم الثالث في القرن العشرين. عند اختطافه في باريس، كان بن بركة، برفقة تشي غيفارا، يُعدّ لعقد مؤتمر القارات الثلاث في هافانا في شهر كانون الثاني/يناير 1966.

غيثة امرأة ترمّلت وهي في الثلاثين من عمرها، فلم تلبس منديل الأرامل وثوب الحداد بعد تغييب زوجها، بل وقفت بشموخ وعزة نفس، وبكل ما أوتيت من قوة عزيمة وإرادة صلبة، مُندّدة بالجريمة ومكافحة من أجل الكشف عن المجرمين القتلة وحقيقة الجهات التي توارت خلف الاغتيال الشنيع.

من هنا، شكّل رحيل السيدة غيثة بناني، مناسبة قوية لإثارة الحديث من جديد حول المهدي بن بركة وقضية اختطافه وتصفيته قبل ستة عقود مضت.

***

عندما وقعت جريمة اغتيال المهدي بن بركة في باريس، يوم الجمعة 29 تشرين الأول/أكتوبر 1965، كانت زوجته غيثة وأولادهما (فوز وبشير وسعد ومنصور)، يسكنون في القاهرة، التي لجأ إليها بن بركة رفقة أسرته للإقامة في كنف الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي اتخذ من البروفيسور المتخصص في الرياضيات، الرئيس السابق للمجلس الاستشاري في المغرب، والمعارض اليساري المغربي البارز، مستشارا خاصا في الشؤون العربية والدولية. ومن ضمن الملفات التي أوكلها الرئيس المصري لمستشاره المهدي بن بركة، ملف خلاف عبد الناصر مع حزب البعث بجناحيه السوري والعراقي، ما اضطر بن بركة القيام برحلات مكوكية ما بين القاهرة وبيروت من أجل اللقاء بعدد من قادة البعث. ومما يُذكر أنّ السيدة مي جنبلاط، ابنة الأديب والمفكر اللبناني شكيب أرسلان وزوجة الزعيم الشهيد كمال جنبلاط، ووالدة السياسي البارز وليد جنبلاط، هي من كانت تُؤمن شقة سرية خاصة للمهدي بن بركة يُقيمُ بها خلال فترات زيارته للعاصمة اللبنانية، إذ كان بن بركة يتجنب النزول في الفنادق حرصاً منه على حياته.

 ***

الراحلة غيثة بناني هي ابنة القاضي والعلامة الرباطي أحمد بناني. تزوجت وهي دون العشرين من عمرها من الزعيم السياسي المهدي بن بركة عام 1949، وواجهت معه أزمات عدة، باعتباره كان سياسياً مُشاكساً متعدد الخصوم والأعداء السياسيين، ثم معارضاً بارزاً للملكية المطلقة وللحكم الفردي الذي نهجه الملك الراحل الحسن الثاني في حكم وإدارة شؤون المغرب.

بهذا الصدد، يقول بشير بن بركة عن والدته الراحلة: “لقد رافقت زوجها المهدي بن بركة في كل المحن التي عرفها في جميع مراحل حياته النضالية ضد الاستعمار ومن أجل بناء مغرب مستقل وديموقراطي، وتقاسمت معه أفراح وأحزان الحياة الأسرية حتى اختطافه واختفائه”.

وبدءاً من سنة 1960، تعرّضت مثل زوجها لمضايقات الشرطة السياسية للنظام التي بلغت ذروتها بعد صدور أكثر من حكم غيابي بالإعدام في حق المهدي بن بركة، رداً على مواقفه المنتصرة لجزائر الرئيس أحمد بن بلة، أثناء ما يسمى بـ”حرب الرمال”، الحرب التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر من عام 1963، بسبب مشاكل الحدود الموروثة عن المستعمر الفرنسي بين البلدين الجارين.

كما صدر حكم غيابي آخر على بن بركة بالإعدام، في المحاكمة التي عُرفت باسم “مؤامرة يوليوز”، لـ”قلب نظام الحكم الملكي واغتيال الحسن الثاني”، وصدرت فيها أحكام بالإعدام وبالسجن المؤبد في حق عدد من رفاق بن بركة، من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الراديكالي الذي واجه بوضوح وبقوة نهج الملكية المطلقة، ورفض دكتاتورية الملك الحسن الثاني.

لذلك سيضطر المهدي بن بركة بعد هذه التطورات الخطيرة إلى “تهريب” أسرته الصغيرة خارج المغرب حفاظاً على سلامتها وأمنها، فيما ظلّ هو يواصل تنقلاته ورحلاته النضالية بين العواصم.

وبعد عدة محاولات فاشلة استهدفت تصفية المهدي بن بركة، ستشهد نهاية أيام شهر تشرين الأول/أكتوبر 1965 اختفاءه الأبدي، بعد عملية اختطاف ارتكبت في وضح نهار خريفي بوسط باريس. وتم تنفيذ جريمة الاختطاف والتعذيب قبل التصفية والاغتيال، ثم التخلص من الجثة بتذويبها في حوض يحتوي على مادة “الأسيد”، وفق ما أورده العميل السابق للمخابرات المغربية أحمد البوخاري حول أسرار مقتل المهدي بن بركة في كتابه المنشور بفرنسا: “Le secret, Ben Barka et le Maroc” (السر: بن بركة والمغرب).

جريمة سياسية نفّذها عملاء جهاز الاستخبارات المغربي “الكاب وان” برئاسة الجنرال محمد أوفقير والكولونيل أحمد الدليمي، وبمساعدة استخباراتية تقنية فرنسية وأمريكية، ولم تغب بصمات “الموساد” الإسرائيلي عنها، كما اعترف علانية ليڤي أشكول، الذي شغل منصب الوزير الأول في إسرائيل في تلك الفترة، ما بين عامي 1963 و1969.

إقرأ على موقع 180  11 عاماً على تفجير «كنيسة القديسين».. لا للصمت

***

منذ اليوم الذي وصل فيه الخبر المشؤوم، باختطاف زوجها وأب أبنائها، وجدت السيدة غيثة نفسها مسؤولة عن رعايتهم وتربيتهم، فكرّست حياتها لهم، ومعهم ابني أختها المتوفية، اللذين كانا يعيشان مع أسرة المهدي. وبفضل تمتعها بخصال إنسانية رفيعة، نجحت في جعل الأبناء يتشبعون بالقيم التي كان يحملها المهدي بن بركة.

***

في سبعينيات القرن الماضي انتقلت أسرة بن بركة من القاهرة، التي عاشت بها منذ عام 1964، إلى الإقامة في باريس، بعد استئجار منزل تابع لأملاك البلدية، إثر تدخل مباشر من العمدة الجديد آنذاك للعاصمة الفرنسية، ولم يكن غير جاك شيراك الذي سيتولى رئاسة الجمهورية الفرنسية لمدة ولايتين متتابعتين، ما بين سنتي 1995 و2007.

ومنذ مغادرتها في ستينيات القرن الماضي، لم تعد غيثة وأولادها إلى المغرب، إلا سنة 1999، عند وصول الملك محمد السادس إلى السلطة بعد وفاة والده، وكانت الراحلة تعتبر الحسن الثاني مسؤولاً عن اختطاف واختفاء زوجها.

في يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر من سنة 1999، وصلت غيثة بناني مع تسعة من أفراد عائلتها إلى مطار الرباط، عبر رحلة جوية على متن شركة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، ولم تستغرق زيارتها لوطنها أكثر من أسبوعين، لتعود بعدها مباشرة إلى منفاها الاختياري بباريس.

***

على مدى ما يقرب من ستين سنة، كرست الراحلة حياتها إلى جانب أبنائها وأقاربها للصراع الطويل من أجل البحث عن الحقيقة ومصير زوجها من أجل أن تتمكن من الحداد عليه والترحم على قبره. غير أن الذي منعها من ذلك هو منطق “مصلحة الدولة العليا” في كل من المغرب وفرنسا، وانعدام الشجاعة السياسية لدى قيادتي البلدين.

في بيان النعي الذي نُشِر باسم عائلة بن بركة، ورد أن المرحومة “كانت عمود العائلة وملاذاً لكل الذين يرتبطون بالقيم الإنسانية وروح الأخوة والتضامن. كانت “مامو” عند البعض و”مامي” عند الآخرين، وكانت نقطة ارتكاز لكل عائلتها ومثالاً للبساطة واللطف والقلب الكريم. كانت تستمع للجميع دائماً ولا تنكر أحداً. كانت سيدة عظيمة، يقودها حزم منقطع النظير وشجاعة وكرامة مثالية. أما كرمها فكان بدون حدود”.

هكذا رحلت غيثة بناني عن هذه الدنيا من دون أن تعرف حقيقة اغتيال زوجها المناضل المغربي الشهير المهدي بن بركة.

تقول عائلتها: لقد تركت الراحلة غيثة بناني “ذكرى لامرأة جديرة بكل تقدير ورمز لمقاومة الزوجات والأمهات الحاملات لمشعل النضال من أجل الحقيقة ومواجهة النسيان والإفلات من العقاب. لقد توفيت بدون ألم. كانت هادئة، ومحاطة بأبنائها وأخيها علي الذي كان مثالا للتفاني ونكران الذات خصوصاً في السنوات الأخيرة”.

وبناء على قرار العائلة وتوصية الراحلة، سيوارى جثمان غيثة بناني، هذا الأسبوع، بإحدى مقابر العاصمة الفرنسية وليس في الرباط، مسقط رأسها وموطن أجدادها، “ما دامت الحقيقة الكاملة حول مقتل زوجها مُغيّبة”، وانتصار القيم التي ضحى بن بركة بحياته من أجلها، “ما يزال مؤجلاً”.

(*) راجع مقال الكاتب: سنة المهدي بن بركة.. الميلاد، الجريمة والأدوار 

(**) راجع رواية “الموساد” لكيفية تصفية المهدي بن بركة

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الزلزال الإنتخابي الفرنسي آتٍ.. أية ارتدادات مجتمعية سيُولّدها؟