ضرب منشأة مصياف.. الاستهدافات بالسياسة والإعلام

منذ أن حصل الهجوم الإسرائيلي البري المباشر على أحد المواقع العسكرية العلمية في مصياف والإعلام العربي والغربي يتداول الحدث بانهماك كبير، والتركيز على نوعية الموقع المستهدف عالي الحساسية العسكرية ودوره في الحروب والمواجهات المستمرة مع الكيان منذ العقد الأخير في القرن الماضي وحتى الآن.

الاستهداف الإعلامي الثاني كان وما زال مستمراً هو تظهير الدور الإيراني في هذا الموقع كدلالة على أن الحرب في سوريا وما أفرزته من كوارث اقتصادية واجتماعية وتحطيم لسوريا إلى خمسة أجزاء من الناحية الفعلية، هو نتيجة للوجود العسكري الإيراني الاستشاري وحزب الله في سوريا، ما أعاد أسئلة السوريين إلى الواجهة من جديد حول سبب مشكلاتهم التي يعانون منها؟

منذ أن بدأت ملامح صياغة جديدة للجزء الغربي من إقليم غرب آسيا انطلاقاً من المشروع الغربي لتفكيك الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918، دخلت هذه المنطقة في اضطرابات سياسية وأمنية وعسكرية لم تتوقف حتى الآن، وهي مرشحة للاستمرار بأشكال مختلفة نتيجةً لبقاء النظام الغربي مهيمناً على النظام العالمي إلى أجل غير محدد، رغم استمراره بالانكفاء.

وهذه الصياغة الجديدة للمنطقة أنتجت دولاً من خارج سياقها التاريخي والجغرافي، ومن جملة نتاجات المشروع الغربي كانت الدولة السورية التي تعرضت لعمليات قضم واحتلال لم تتوقف على مدى مئة عام ونيف.

على الرغم من تباين الأنظمة السياسية التي تتابعت على الحكم في سوريا المتقلصة، فإن موقف دمشق بشكل عام تعاطى مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وجودية للكيان السوري المستحدث، ففلسطين وفقاً للعقل السوري هي الجزء الجنوبي من سوريا، ونوابها السبعة عشر شاركوا في المؤتمر السوري التأسيسي الأول 1918- 1919، وهي تشكل الجزء الأغلى والأهم من سوريا، والأمر الآخر هو إدراك العقل السياسي السوري بأن طبيعة الكيان الصهيوني يحمل تهديدات وجودية لمحيطه الإقليمي بشكل عام ولسوريا بشكل خاص، ولذلك اندفع الشيخ عز الدين القسام السوري من جبلة ليقود ثورة فلسطين 1936، وفي الوقت نفسه، ينتقل النائب عزة الدروزة الفلسطيني من نابلس إلى دمشق ليتخذها مركزاً لدعم الثورة الفلسطينية وتأمين احتياجاتها المالية والعسكرية بالتعاون مع شبكة من السوريين والعرب وغير العرب.

أدرك السوريون من البداية بأن مواجهة هذا الكيان الجديد هي أكبر من طاقتهم، ليقينهم بأنهم يواجهون نظاماً عالمياً مسيطراً، والأمر يحتاج إلى تآزر قوى عربية ودولية تشترك مع بعضها البعض انطلاقاً من مصالح التهديدات المشتركة فيما بينهم، فكان التعويل على مصر جمال عبد الناصر وبقية دول عربية مناهضة، لكن نتائج حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 كشفت عن مسار جديد لمصر للتموضع مع النظام الغربي عبر البوابة الإسرائيلية، ما دفع بالرئيس السوري حافظ الأسد إلى العمل على مسار بديل عن المحيط الإقليمي بسوريا ذي الطبيعة العدائية، بالتقاط الإشارات الأولية لتغيير جيوسياسي كبير قادم من إيران، ففتح الأبواب الأولى منذ عام 1975 لقيادات شابة من حركة تحرير إيران (مصطفى شمران-محمد صالح الحسيني..) وسهَّل حركة تنقلهم وتدريبهم بين سوريا وسهل البقاع وجنوب لبنان مع دور واضح لموسى الصدر، فكان تعويله بالتقاط الإشارات الأولى في مكانه مع نجاح الثورة الإيرانية 1979، وتشكُّل قطب إقليمي جديد بديل عن مصر لتحقيق التوازن مع الكيان والمحيط الإقليمي العدائي المنسجم مع “إسرائيل” بالمحصلة.

دمشق بأمسّ الحاجة للعودة إلى النظام العربي من البوابة السعودية بشكل أساسي ومعها البوابة الإماراتية، وهما من ضرورات فك الحصار عن سوريا والبدء بإعادة الإعمار، والأمر الثاني كي تكونا معها بالضغط على تركيا للانسحاب من الشمال السوري بما تملكانه من قدرات اقتصادية هائلة تحتاجها تركيا

والأمر لم يقتصر على الرؤية السورية بالبحث عن مركز إقليمي وازن يستطيع تعزيز الدور السوري، ففي المقابل، كان هناك الطرف الإيراني الذي وجد نفسه في محيط إقليمي شديد العدائية له، خشية ارتدادات ثورته على جوارها الإقليمي والإسلامي، فوجدت أمامها الحليف شبه الوحيد الذي يستطيع أن يلعب دوراً موازناً في العلاقات العربية- الإيرانية، ويشتركان في الرؤية نفسها تجاه “إسرائيل” التي تحمل تهديدات وجودية أيضاً، عدا عن المنطلق الديني للتعاطي معه وفقاً للإطار الشرعي، وقدمت سوريا خبراتها العسكرية الصاروخية للإيرانيين بعد اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية أثناء الحصار عليهم لإيقاف قصف المدن الإيرانية، ومن هذه البدايات، انطلق المشروع الصاروخي البالستي الإيراني.

استطاعت دمشق أن تحصد ثمار العلاقة مع إيران بتحصيل دور إقليمي معترف به في الموازنة بين العلاقات مع الدول العربية وبين العلاقة مع إيران، بالإضافة إلى التوافق الكامل على دعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، ما منحها حصانة أمام التهديدات المستمرة في زمن ما بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي، وهي تدرك بأن واقع الجغرافيا السياسية بجذوره التاريخية لم يمنحها هذا الدور إلا نادراً في أزمنة فراغ المحيط الإقليمي الأقوى تاريخياً.

ومع ذلك، فإن العلاقة بين البلدين لم تتجاوز حدود الاتفاق على استراتيجيات السياسة الخارجية في المساحات المشتركة وانحصرت في الجانب العسكري المتبادل بما يحمي البلدين في صراعهما الدفاعي مع “إسرائيل” والغرب ضمن خطة الدفاع المتقدم، ولم يستفيدا من بعضهما البعض على المستوى الاقتصادي والعلمي إلا ضمن حدود متدنية لا تتجاوز 1 % من مجمل الاتفاقيات الموقع عليها بين الطرفين على مدى أكثر من أربعة عقود، لأسباب تتعلق بموانع داخلية ضمن البلدين، ولأسباب تتعلق بسعي دمشق لاستعادة الدور الإقليمي والوصول إلى استعادة السيطرة على كامل التراب السوري.

إقرأ على موقع 180  أنطون سعادة.. قراءة ما لم يُقرأ (1)

هذا الدور واستعادة وحدة الأراضي السورية لا يمكن أن يتحققا وفقاً لتصورات دمشق إلا بتحقيق توازن في العلاقات الإقليمية بين إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية بشكل أساسي باعتبارها متصدرة المشهد السياسي العربي وقائدة له، وهذا الأمر دونه مجموعة من التوجهات المتنافرة بين الدول الثلاث، بفعل التنافس الأقرب إلى الصراع على قيادة منطقة غرب آسيا، نتيجةً للانكفاء الأميركي المستمر، وبانتظار اليوم التالي لوقف إطلاق النار في غزة، وما سيترتب عليه من تداعيات على خرائط الجغرافيا السياسية.

تدرك دمشق بأن موقعها في هذا الصراع الإقليمي محوري في تحديد مستقبل الإقليم، وهي تحاول الإبقاء على التعاون الاستراتيجي مع إيران ومعها بقية قوى المقاومة، من مبدأ أن المقاومة أقل ثمناً من الاستسلام، وليقينها بأن الغرب وفي مقدمته “إسرائيل” لا يمكن لهم التسامح مع من تسبب بالأذية للكيان وللدور الأميركي، حتى لو حصل اتفاق أو تسوية إقليمية تتيح لدمشق الاستمرار وفقاً لصيغة هي الأقرب إلى الهدنة الطويلة مع الكيان، والتجارب السابقة لدول في المنطقة تؤكد ذلك، كما إن التجربة الذاتية في أربع مراحل أساسية من تاريخ سوريا المعاصر (1975-1984 و 1986-1990 و 2003-2007 و 2011- حتى الآن) ليست بعيدة عن صانع القرار السياسي.

وفي الوقت نفسه، تتعاطى دمشق مع واقع جغرافيتها السياسية بالطريقة التي توفر سبل البقاء، فالحاجة إلى عودة العلاقات الطبيعية مع تركيا تمس جوهر بقاء سوريا، بفعل ما تملك تركيا من أوراق مؤثرة في الواقع السوري، إن كان بالحدود الأطول للبلدين مع جوارهما، أم بامتلاكها قدرة التحكم بتدفق مياه نهري الفرات ودجلة، أم بنفوذها الواسع على شريحة واسعة من السوريين داخلها وداخل مناطق واسعة تحت سيطرتها المباشرة بالاحتلال أم بالمجموعات المسلحة، عدا عن الجغرافيا السياسية المشتركة المتداخلة منذ آلاف السنين وما أفرزته من ثقافات متقاربة، ولكن المشكلة الأساس هو التصلب التركي حتى الآن في الإقرار بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، والأمر الثاني هو محاولتها احتواء سوريا لقطع علاقتها العسكرية مع إيران، وآخر مشروع تم طرحه بعنوان جذاب، إثر لقاء الرئيسين رجب طيب إردوغان وعبد الفتاح السيسي في أنقرة، بإقامة تحالف تركي- سوري- مصري للدفاع عن فلسطين، كبديل عن تحالف سوريا مع إيران، بما يحقق خروج إيران من سوريا وإنهاء حركات المقاومة، بالرغم من استمرار علاقة البلدين مع “إسرائيل” حتى الآن، وبطبيعة الحال، فإن دمشق لا يمكنها أن تثق بهذا التحالف الجديد لما للبلدين من دور سلبي في سوريا، إن كان بالتدخل التركي المباشر في الحرب السورية، أم بعدم الوقوف الإيجابي الفعال لمصر مع سوريا في حربها مع ما تعدّه مصر تهديداً مستقبلياً لنظامها السياسي.

وفي الوقت نفسه، فإن دمشق بأمسّ الحاجة للعودة إلى النظام العربي من البوابة السعودية بشكل أساسي ومعها البوابة الإماراتية، وهما من ضرورات فك الحصار عن سوريا والبدء بإعادة الإعمار، والأمر الثاني كي تكونا معها بالضغط على تركيا للانسحاب من الشمال السوري بما تملكانه من قدرات اقتصادية هائلة تحتاجها تركيا، لكن الشروط العربية من الواضح أنها تفترض تقليص الدور الإيراني وقوى المقاومة، للانتقال في الخطوة الثانية نحو شكل من أشكال التطبيع مع “إسرائيل” بعناوين مختلفة، قد يكون العنوان المبدئي لها هو تحويل سوريا إلى بلد حيادي في الصراعات والحروب البينية في الإقليم، مقابل تدفق الاستثمارات الخليجية إلى سوريا، وهذا الأمر لا يجعل دمشق تشعر بالأمان في منطقة لم تشهد الثبات في الأحلاف إلا بين سوريا وإيران من جهة، وبين” إسرائيل” والنظام العربي من جهة ثانية تحت مظلة الولايات المتحدة، وكل الأحلاف خارج هذين الإطارين هي مجرد محاولات للاحتواء لا أكثر من ذلك.

ضمن هذا السياق العام، يمكننا أن نفهم طبيعة التجييش الإعلامي العربي والغربي تجاه الاعتداء الإسرائيلي الأخير على مصياف، والتشديد على سردية غير صحيحة حول طبيعة المنشأة العسكرية المستهدفة وربطها بإيران وحزب الله لإثارة النقمة من جديد عليهما، وتحميلهما مسؤولية ما يجري من حروب متنوعة في سوريا، باستغلال الإعلام لزيادة حجم الضغوط الاقتصادية الهائلة على السوريين في الداخل والخارج بسبب العقوبات الغربية من جهة، وبسبب السياسات الداخلية المتبعة حتى الآن، المسؤولة عن قسم كبير من حالة الإفقار المتزايدة بين السوريين، وعدم ثقتهم بإمكانية تغيير السياسات الداخلية التي يمكنها أن تُقَوِّم المزاج السوري العام، ورؤيته للصورة الكلية للصراع الإقليمي والدولي ومنعكساته على السوريين من جهة ثانية.

هذا الواقع يتطلب إرادات وآليات مختلفة للتعاطي مع واقع سوري وإقليمي ودولي شديد التعقيد، لا يمكن مواجهته إلا بتوفر الشرطين السابقين، بالإضافة إلى شرط ثالث لا ينفك عنهما وهو الحوامل المختلفة، ومن خارج الإطار المعهود.

(*) المصدر: موقع “الميادين دوت نت“.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الترسيم لبنانياً بعصا هوكستين.. وجزرة الإمارات!