هناك روابط عربية وأخرى إسلامية لهذه الجاليات وهناك روابط محدودة لبلد معين مثل المصريين والسودانيين واليمنيين واللبنانيين وغيرهم. إلا أن هذه الروابط لم تتطور وتتحول إلى قوة سياسية مؤثرة مع أنها كانت تطلق مواقف سياسية تدعم القضايا العربية.
في المقابل، نجد أن الجاليات اليهودية متماسكة ومتعاضدة ومتكاتفة وتمارس نفوذاً في السياسة والإعلام وعالم المال والأعمال وتمتلك مراكز دراسات وتهيمن على مراكز عديدة في مجالات الإعلام والأبحاث والتكنولوجيا.
كانت منظمة “أيباك” (AIPAC) وهي مختصر (American Israeli Public Affairs Committee) ممراً لكل من يريد الوصول إلى مناصب سياسية في الإدارة أو الكونغرس أو إدارة الولايات سواء أكان يهودياً أم لا.
ومثل “أيباك” هناك منظمات أصغر في بلدان أوروبية.
تُمسك “أيباك” بقرار الجالية اليهودية.. وفي الانتخابات تُصوّت غالبية اليهود وفقاً لما تشير هذه المنظمة ومن تتحالف معهم ولو أنها لا تُخرّج قرارها بشكل جامد.
أما العرب فهم متفرقون ومثلهم المسلمون أيضاً وليس لهم قرار موحد ولا نجحوا في أن يُشكلوا قوة ضغط في السياسة الأميركية برغم وصول عدد منهم إلى مجلسي الشيوخ والنواب ومواقع في الإدارة الأميركية.
أذكر منذ أكثر من عشرين عاماً جلستُ طويلاً مع باحث أميركي متفهم يجيد استخدام حاسة السمع. اقتنع معي أن العرب على حق في قضيتهم وأن الفلسطينيين مظلومون وأن المواقف الغربية تجاههم غير عادلة. لكن لم أنسَ ما قاله لي في نهاية حديثنا. قال إن اليهود منظمون ويجيدون تسويق قضاياهم ولديهم قوة انتخابية يُحسب لها كل حساب، وعددهم يناهز الثمانية ملايين. عندما ينظم العرب أنفسهم في جماعة وازنة ويُشكلون عندها قوة انتخابية يُنظر إليهم في الحسابات السياسية الأميركية.. عندها فقط يُمكن إحداث تأثير في السياسة الأميركية.
وكما قال مُحدثي، هكذا كان الوضع إلى أن جاءت انتخابات ٢٠٢٤ الرئاسية، وطرح موضوع الولايات المتأرجحة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي وأبرزها بنسلفانيا وميشيغان ونورث كارولاينا. توجهت الحملات الرئاسية إلى هذه الولايات وبينها ميشيغان لأجل كسب الأصوات الرمادية. في حالة ميشيغان هناك أصوات العرب، وأبرزهم اللبنانيون واليمنيون. قرّرت حملة دونالد ترامب التوجه نحو ميشيغان لأن المرشح الجمهوري خسر هذه الولاية في العام ٢٠٢٠ بفارق ١٠ آلاف صوت وأصوات العرب تناهز ٢٠٠ الف. فكلما كسب ترامب من هذه الأصوات وهي كانت بمعظمها تصب لمصلحة الحزب الديموقراطي، ازدادت حظوظ حملة ترامب بكسب هذه الولاية.
وهكذا حصل، أدركت الحملة ما يعانيه اللبنانيون والعرب من جراء سياسة جو بايدن وكامالا هاريس (الحزب الديموقراطي) في حربي غزة ولبنان ودعمهما المطلق لإسرائيل وعدم سعيهما إلى فرض وقف لإطلاق النار أو التوصل إلى تسوية توقف حرب الإبادة، فقرّرت أن يتوجه ترامب شخصياً إلى مدينة ديربورن معقل اللبنانيين الذين تعود أصول معظمهم إلى جنوب لبنان الذي يتعرض يومياً للتدمير الإسرائيلي بأسلحة وطائرات وذخائر أميركية.
ومن مطعم حسن عباس الذي يؤيد حركة أمل ورئيسها نبيه بري، أطلق ترامب وعده بوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان وأرفقه بوثيقة خطية. بذلك، تمكن دونالد ترامب من كسب أصوات اللبنانيين وكسب الولاية وربح الانتخابات.
من خلال هذه التجربة ـ الصدفة، تبين أن الجاليات العربية لا تتبع للأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة بل لقوى سياسية كان لها دور في توجيه الرأي العام للجالية برغم الامكانات الضخمة لدول غنية أنشأت العديد من مراكز الدراسات في الولايات المتحدة ظناً منها أنها قد تُحقّق نفوذاً من خلالها. كانت النتيجة أن سخر الرئيس باراك أوباما من هذه المراكز في مقابلته التي عرفت بـ”عقيدة أوباما”. لكن شاءت الصدفة أن يكون مطعم حسن عباس أكثر تاثيراً من هذه المراكز.
وعلى الضفة الشرقية للأطلسي في أوروبا.. هناك مهاجرون جاء معظمهم من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، أي من المغرب والجزائر وتونس.
في فرنسا، يُشكّل الجزائريون الغالبية بين الجاليات العربية والإسلامية وفي أمور معينة اندمجوا في الحياة السياسية فكان منهم وزراء ونواب في البرلمان ولهم حضورهم الانتخابي الوازن الذي تحسب له القوى السياسية الفرنسية كل حساب، فضلاً عن تميزهم بالآداب والفكر والعلوم (الجالية اللبنانية مميزة بالعلوم ووصلت منها سيدة إلى وزارة الثقافة لكنها لم تشكل قوة انتخابية وتم انتخاب أمين معلوف أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية مدى الحياة).
أما في بلجيكا وهولندا، فالجالية المغربية هي الأكبر، تشاركها جاليات تركية وأخرى تونسية. ونصل إلى ألمانيا حيث الجالية التركية هي الأكبر ومعها الكرد والمغاربة وجاليات أخرى.
ولطالما تحركت الجاليات الجزائرية والمغربية والتونسية بمعزل عن حكوماتها بعكس الأتراك الذين يرتبطون بحكومتهم ارتباطاً وثيقاً.
ولطالما كان لهذه الجاليات سجل من النضالات المطلبية دفاعاً عن حقوقهم أو رفضاً لأية محاولة تمييز، كما حصل عندما قتلت الشرطة الفرنسية شاباً من أصل جزائري لم يمتثل لها.
وفي هولندا، وهي مكان الحدث في العالم ليومين حيث غضب جمهور غالبيته من الجاليتين المغربية والتركية من جراء إقدام جمهور إسرائيلي (بينهم جنود مقاتلون في الجيش أتوا في إجازتهم إلى أمستردام للترفيه ومشاهدة مباراة رياضية) على اطلاق شعارات عنصرية مثل “الموت للعرب”، وشعارات ضد غزة ولبنان واستهزاء بأطفال غزة الشهداء، فضلاً عن تمزيق علم فلسطين. هاجم الجمهور العربي والتركي الغاضب بعفوية المشجعين الإسرائيليين وبدا انهم سيطروا على شوارع أمستردام وأمعنوا بالإسرائيليين ضرباً وأرغموهم على الصراخ (Free Palestine) كشرط للتوقف عن معاقبتهم.
ذُهلت هولندا وذُهلت إسرائيل وذُهل العالم من هذه الحادثة التي شاركت فيها جاليات من دولة المغرب الدولة المطبعة مع إسرائيل والتي يعتبرها الإسرائيليون صديقة، ومن تركيا الدولة التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية واقتصادية مع إسرائيل خصوصاً في هذه الأزمة وتُسهّل تمرير النفط الأذربيجاني عبر موانئها إلى إسرائيل.
وقد سارع نتنياهو إلى ارسال طائرات عسكرية لنقل المشجعين لكن هولندا الأوروبية لم تسمح بوصول طائرات عسكرية لنقل رعايا (كان نتنياهو يظنها من شدة دعمها لإسرائيل يُمكن أن تقبل بخرق السيادة الأوروبية) فعاد وأرسل طائرات تجارية. ثم جرى اللعب على وتر اتهام إيران لكن هذا الاتهام كان فارغاً لعدم وجود جالية إيرانية مشاركة في هذه الأحداث، ثم تحول الاتهام إلى حركة حماس، قبل أن يتم التراجع عنه ثم توجيه الاتهام إلى المسلمين عموماً وهنا شعرت القيادة الإسرائيلية بخطورة هذا الاتهام وسحبته ليستقر الرأي على “معاداة السامية”، وهي بضاعة رائجة لم تنته صلاحيتها بعد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف قامت جاليات تابعة لحكومات صديقة لإسرائيل، إلى حد معين، بمثل هذا الهجوم نصرة لفلسطين وعلمها؟ أين التطبيع واتفاقات ابراهام وترويج البعض لتطويرها في ولاية ترامب الثانية؟
إن أبرز الدروس المستقاة من أحداث أمستردام أن القضية الفلسطينية كانت وما تزال حاضرة بقوة في نفوس وعقول العرب والمسلمين برغم الدفق الإعلامي والثقافي الذي لم يؤثر على عقول وقلوب الآلاف ممن تحركوا عفوياً نصرة لفلسطين.
وإذا كانت بعض الدول والحكومات تُصدّق أنه يمكن السير باتفاقيات سلام بمعزل عن فلسطين أو تسير عى خطا نتنياهو وفق معادلة السلام مقابل السلام عوضاً عن الأرض مقابل السلام، فإنها تقع في خطأ جسيم وربما مميت.
آن الأوان للغرب أن يفهم أن الحكومات العربية والإسلامية الصديقة له هي في مكان وشعوبها في مكان آخر وأن أي تحرك نحو تسوية القضية الفلسطينية يجب أن يستند إلى مزاج الشعوب بالإضافة إلى قرار الحكام.