يصدر قرار المحكمة، فيما تتواصل الانتهاكات بحق الفلسطينيين، مما يثير العديد من الأسئلة حول العدالة الدولية وأهمية هذا القرار في إعادة الثقة بمنظومة حقوق الإنسان. ومع ذلك، هل يكفي هذا القرار لتغيير الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية؟ وهل يمثل بداية جديدة للمحاسبة الدولية للمسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب في اي بقعة من بقاع الصراع في العالم؟
من الضروري التأكيد على أن نتنياهو وغالانت يجب أن يحاكما عن الجرائم التي ارتكباها ضد الإنسانية، وهي تصنف ضمن “جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية”، وفقًا للقانون الدولي الإنساني. إذ أن المحكمة الجنائية الدولية كانت قد أصدرت قرارات سابقة بحق شخصيات دولية متورطة في جرائم مشابهة، لكنها اليوم تتخذ خطوة غير مسبوقة بحق مسؤولين إسرائيليين لطالما اعتادوا أن يبقوا خارج المساءلة، مما يعكس تحولًا في كيفية محاسبة المسؤولين الإسرائيليين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ومن المهم التمييز بين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية؛ فالأولى تُركّز على محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم دولية مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، بينما تعنى الثانية بالقضايا القانونية بين الدول. وفي هذا السياق، كانت دولة جنوب إفريقيا قد قدّمت شكوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في غزة. لكن قرار مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية القاضي كريم خان بالقبض على نتنياهو وغالانت يُمثّل خطوة عملية نحو محاسبة الأفراد المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، وهو ما يعكس تحولًا حقيقيًا في كيفية التعامل مع الجرائم الدولية المرتكبة ضد الأفراد.
أحقية القضية الفلسطينية
تعتبر القضية الفلسطينية واحدة من أكبر القضايا الإنسانية في العصر الحديث، حيث يعاني الشعب الفلسطيني من انتهاكات مستمرة لحقوقه الأساسية. إن سياسة الاحتلال الإسرائيلي وما يرافقها من تدمير ممنهج للبنية التحتية والمنازل والمؤسسات وتهجير السكان قد أسهمت في تفاقم الأوضاع الإنسانية على الأرض، مما يجعل القضية الفلسطينية واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا في المحافل الدولية.
إن قرار المحكمة الجنائية الدولية يُقدّم جرعة دعم معنوي كبير للفلسطينيين، ويُعزّز موقفهم الساعي إلى تحقيق العدالة والمساواة وركيزته بناء دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. كما أنه يبعث برسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن محاسبة القادة المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان ليست أمرًا يمكن تجاهله، مهما كانت هيبة الدولة التي يقودونها.
برغم أن الطريق لا يزال طويلًا، إلا أن هذه الخطوة تُمثل بداية محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية. فإذا تم استثمار هذا القرار بشكل صحيح، فقد يكون نقطة تحول نحو تحقيق السلام والعدالة في المنطقة والعالم. ففي النهاية؛ أن تأتي العدالةُ متأخرةً، خيرٌ من أن لا تأتي أبداً
أهمية القرار
على الرغم من تقارير موثقة من منظمات دولية عديدة حول الإنتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، فإن الصمت الدولي ظلّ سائدًا لعقود طويلة. لقد كانت محاولات المجتمع الدولي لإيجاد حلول دبلوماسية فاعلة محاطة بالكثير من التردد، حيث أظهرت القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، دعمًا غير محدود لإسرائيل وآخر دليل على ذلك إجهاض المحاولة الأخيرة لإصدار قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة. ومع ذلك، فإن قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على نتنياهو وغالانت يُمثّل نقطة تحول في هذا السياق، يؤمل أن يجعل المجتمع الدولي يتحرك لمحاسبة كل المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. فهل يمكن أن يكون هذا القرار بداية لمرحلة جديدة من الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية؟
منظومة حقوق الإنسان
لقد شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا في الثقة بمنظومة حقوق الإنسان الدولية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. فقد تسبب الصمت الدولي تجاه المجازر التي ترتكب بحق الفلسطينيين في تعميق اليأس والإحباط، وبالتالي، يُمثّل قرار المحكمة خطوة نحو إعادة الأمل في تحقيق العدالة، لكنه يثير العديد من الأسئلة حول إمكانية متابعة هذا القرار وتفعيله على أرض الواقع: هل ستقوم الدول الأعضاء في اتفاقية روما بخطوات فعالة لتطبيق هذا القرار؟ وهل سيؤدي القرار إلى تغيير حقيقي في مواقف الدول الكبرى التي تدعم إسرائيل بشكل غير مشروط؟
تداعيات القرار
يُمثل قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على نتنياهو وغالانت رسالة قوية مفادها أن المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لن يكونوا فوق القانون بعد الآن. يُمكن أن يؤدي هذا القرار إلى تشكيل ضغوط دولية على إسرائيل، ويدفع بعض الدول إلى إعادة النظر في علاقاتها معها. على سبيل المثال، أيّدت العديد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا قرار المحكمة (ألمانيا قرّرت درس القرار)، مما يعكس تحولًا في مواقف بعض الدول التي كانت تدعم إسرائيل بشكل كامل. في الوقت ذاته، يواجه هذا القرار معارضة شديدة من دول أخرى، أبرزها الولايات المتحدة، التي أظهرت دعمًا مطلقاً لإسرائيل على مختلف الأصعدة.
انعكاسات القرار
من المهم أيضًا أن نلاحظ كيف أن هذه الانتهاكات لا تقتصر فقط على غزة والضفة الغربية، بل تمتد إلى لبنان، حيث تتشابه الجرائم المرتكبة ضد المدنيين. الحرب الممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة، والتي تشمل الهجمات الجوية على المستشفيات والمرافق الطبية، والتدمير الشامل للبنية التحتية، تتشابه مع ما يحدث في لبنان. في كلا السياقين، نجد أن هناك استهدافًا للمدنيين، بما في ذلك للصحفيين والمسعفين والأطباء ورجال الأطفاء والدفاع المدني، حتى أن قوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) في جنوب لبنان لم تسلم من اجرام إسرائيل، ناهيك بالأضرار الجسيمة التي لحقت بالبيئة والتدمير الواسع لمواقع أثرية تاريخية وثقافية. الحرب في غزة تشهد أيضًا استهدافًا للمباني والمنشآت التي تمثل تراثًا تاريخيًا، وهو ما يثير تساؤلات حول قرار إسرائيل بمحو الذاكرة الفلسطينية واللبنانية، وهي جزء لا يتجزأ من الذاكرة العربية والإنسانية.
أسئلة مفتوحة
تثير هذه القضية العديد من الأسئلة: هل سيؤدي قرار المحكمة إلى تغيير حقيقي في السياسات الإسرائيلية؟ هل سيستجيب المجتمع الدولي لدعوات الفلسطينيين للعدالة؟ وكيف يمكن أن يؤثر هذا القرار على مستقبل النزاع في فلسطين ولبنان والمنطقة بشكل عام؟ هل سيشكل بداية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم في مناطق النزاع الأخرى؟
إن قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على نتنياهو وغالانت صحيح أنّه يأتي متأخرًا، لكنه يحمل في طياته أملًا جديدًا للشعبين الفلسطيني واللبناني وكل شعوب العالم التوّاقة إلى الحرية والعدالة والمساواة. وبرغم أن الطريق لا يزال طويلًا، إلا أن هذه الخطوة تُمثل بداية محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية. فإذا تم استثمار هذا القرار بشكل صحيح، فقد يكون نقطة تحول نحو تحقيق السلام والعدالة في المنطقة والعالم.
في النهاية؛ أن تأتي العدالةُ متأخرةً، خيرٌ من أن لا تأتي أبداً.