بين رسالة ترامب ووساطة بوتين.. هل الإختراق الأميركي مُحتمل مع إيران؟

يمضي العالم، منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، نحو اصطفافات جديدة لم تكن، قبل 80 عاماً، لتلوح في ذهن أحد، كأن يظهر هذا الانقسام الحاد بين الولايات المتحدة وأوروبا في النظرة إلى روسيا، أو أن تتعامل واشنطن مع الحلفاء والخصوم من منطق القوة. ويتجلى ذلك في التهديد بالضم إلى التعريفات الجمركية التي يعتبرها ترامب "أجمل كلمة في القاموس".

يخضع الشرق الأوسط، كما أوروبا، لإعادة هيكلة جيوسياسية هي الأخطر منذ العام 1948، ويتزايد تداخل ملفاته المعقدة، بالملف الأوكراني. وليس من قبيل المصادفة، أن المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف يتولى الجهود الديبلوماسية المبذولة سواء في غزة أو في أوكرانيا.

ووسط الانهماك بغزة وأوكرانيا، يمضي ترامب ببث رسائل متناقضة لإيران، تنم عن ترهيب وترغيب. فبعد الإعلان الخميس الماضي عن إجراء مناورات جوية مشتركة مع إسرائيل في سماء البحر الأبيض المتوسط، كشف ترامب أنه بعث برسالة إلى القيادة الإيرانية، وعلى الأرجح إلى المرشد آية الله علي خامنئي، يؤكد فيها أنه يفضل الشروع في مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي.

وبرغم نفي خامنئي لأمر الرسالة واعتراضه على “البلطجة الأميركية” إلا أن المناورات العسكرية، واستئناف سياسة “الضغوط القصوى”، وتزويد إسرائيل بقنابل خارقة للتحصينات، والتسريبات عن “الرسالة” والقنوات التفاوضية، كُلُها ليست منفصلة عن جملة من التطورات التي تؤكد أن البرنامج النووي الإيراني، ما يزال يشغل حيزاً أساسياً في السياسة الخارجية الأميركية بالتوازي مع الجهود المبذولة في كل من غزة وأوكرانيا.

الوساطة الروسية

ومع الانفتاح الأميركي على روسيا تسهيلاً لحل النزاع الأوكراني، لم يُفوّت الكرملين فرصة الاستفادة من وضعيته الجديدة، كي يطرح نفسه وسيطاً بين واشنطن وطهران. ودور الوسيط بين إيران والغرب، كانت تتنكبه الترويكا الأوروبية، فرنسا وبريطانيا وألمانيا في الأشهر الأخيرة، وعُقدت اجتماعات عدة في جنيف، من دون كثير جدوى. لا بل أحدث الدور الأوروبي ردة فعل سلبية في طهران عندما هدّدت هذه الترويكا باللجوء إلى آلية “سناب باك” في مجلس الأمن، من أجل تفعيل العقوبات الأممية مجدداً، إذا لم تجب إيران عن التساؤلات التي ما تزال معلقة في شأن نشاطاتها النووية في العقد الأول من القرن الجاري.

الدخول الروسي على خط الوساطة، تأمل منه موسكو تحييد الدور الأوروبي في وقت تلتزم فرنسا وبريطانيا وألمانيا موقفاً محتضناً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على عكس التنائي الذي وسم العلاقات الأميركية-الأوكرانية منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض قبل أكثر من 40 يوماً، وتُوج بالمشادة الكلامية غير المسبوقة في عالم الديبلوماسية بالمكتب البيضوي في 3 آذار/مارس الجاري.

وبحسب الديبلوماسي الروسي المخضرم ميخائيل أوليانوف، فإن موسكو وواشنطن، قد أرستا قناة اتصال حول الدور الروسي كوسيط. وكشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن أوليانوف نصح الولايات المتحدة بأن تحصر مطالبها فقط بما يتعلق بالبرنامج النووي وبألا تطالب بإدراج البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي لطهران على جدول التفاوض.

ولا ريب في أن موسكو تراهن على أن علاقاتها الاستراتيجية مع طهران، كفيلة بجعلها تبدي مرونة إزاء التفاوض مع واشنطن. ولا يتعلق الإلحاح الروسي فقط بمناكفة الأوروبيين في هذه اللحظة الحاسمة من مصير النزاع الأوكراني، وإنما أيضاً لاعتبارات تصب في صميم المصالح الروسية في شرق أوسط يشهد تحولات زلزالية على وقع الحروب الإسرائيلية وسيطرة حالة من عدم اليقين في شأن مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا في ظل النظام السوري الجديد والغموض الذي يحيط بمستقبل هذا البلد وسط احتدام الصراع التركي-الإسرائيلي عليه.

في خضم هذا الاحتدام في المواقف والخيارات، تحاول موسكو إحداث اختراق في الملف النووي الإيراني، بما يحفظ ما تبقى لها من مكانة في شرق أوسط ينجرف نحو الفوضى بأسرع من المتصور، وفي عالم تسقط فيه التحالفات القديمة التي ظنّ البعض بأنها راسخة، وذلك لمصلحة عودة القوميات واستراتيجيات مستعادة من القرن التاسع عشر

هكذا واقع، يفترض سعي روسيا إلى تفادي خسارة استراتيجية أخرى، ومن مصلحتها انتهاز عودة العلاقات مع أميركا كي تحول دون توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، مع سينجم عن ذلك من انفجار مواجهة إقليمية جديدة في ظل موازين قوى مختلة بقوة لمصلحة إسرائيل وأميركا.

وبالتوزاي، يستطيع ترامب أيضاً الاستفادة من الوساطة الروسية في الملف النووي الإيراني، كي يقنع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم المسارعة إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية، قبل استنفاد الديبلوماسية غرضها. ولطالما أعلن ترامب أنه لا يريد الزج بالولايات المتحدة في نزاع جديد بالشرق الأوسط. وبناء عليه، يمكن أن توفر الوساطة الروسية، رافعة يستخدمها ترامب لتأخير الضربة الإسرائيلية، وتالياً تفادي التورط الأميركي.

العقيدة النووية الإيرانية!

وفي الآونة الأخيرة، يخوض المسؤولون الروس نقاشاً مع المسؤولين الإيرانيين حول احتمال فتح حوار مع الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، التقى نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الجمعة مع السفير الإيراني لدى روسيا كاظم جلالي. والشهر الماضي، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف طهران، بعدما كان التقى للتو نظيره الأميركي ماركو روبيو في الرياض للبحث في رؤية ترامب لإيجاد تسوية للحرب الروسية-الأوكرانية. وأكد الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن المحادثات المستقبلية بين روسيا وأميركا ستشمل البرنامج النووي الإيراني.

إقرأ على موقع 180  النّظرة الصّوفيّة.. أيضاً، مفتاح "الإرادة الحُرّة"؟ (٣)

ومن المؤكد، أن أميركا وإسرائيل تسعيان إلى الاستفادة من واقع الخسائر الاستراتيجية التي ألمّت بإيران العام الماضي، بعدما أضعفت الحرب الإسرائيلية “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان وتزامن ذلك مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.

 لكن في طهران تسود حسابات، خصوصاً في أوساط التيار المتشدد الذي يرى أن تغيير العقيدة النووية، هو الحل الأنجع لتحقيق الردع ومنع ضربة إسرائيلية أو ضربة إسرائيلية-أميركية مشتركة.

كما يدور جدل داخلي حاد حول جدوى الشروع في حوار مع الولايات المتحدة. وحتى الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان الذي طالما دعا إلى سلوك المسار التفاوضي، قال الأسبوع الماضي: “كنت أعتقد أن المفاوضات هي الخيار الأفضل، لكن المرشد (خامنئي)، أوضح أننا لن نتفاوض مع الولايات المتحدة، وسنمضي وفقاً لتوجيهاته”.

وبزشكيان، واقع تحت الضغوط المتزايدة للتيار المتشدد. هذه الضغوط أدت إلى تقديم نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف استقالته للمرة الثانية في ستة أشهر، بعدما أوحى في رسالة الاستقالة بأن خامنئي طلب منه العودة إلى التدريس في الجامعة. وظلّ ظريف، مهندس الاتفاق النووي لعام 2015، لفترة طويلة عرضة لحملات المتشددين عليه، بسبب حمل أولاده الجنسيتين الإيرانية والأميركية.

وقبل استقالة ظريف، نجح المتشددون الذين يهيمنون على مجلس الشورى، في نزع الثقة عن وزير الاقتصاد عبد الناصر همتي الأسبوع الماضي، بعدما حمّلوه تبعة التدهور المستمر في العملة الوطنية في مقابل الدولار الأميركي. أما همتي فكان يرى أن الاقتصاد الإيراني لا مجال أمامه للتعافي في ظل العقوبات الغربية، وبأن الطريق لإزالة العقوبات، هو في سلوك طريق الحوار مع الغرب.

ويتخذ المتشددون من الإذلال الذي تعرض له زيلينسكي في البيت الأبيض، حجة للقول بأن هذه هو النموذج لطريقة تعامل أميركا مع زعماء العالم، سواء من الحلفاء أو الخصوم.

على أنه، بين الذهاب إلى الحوار أو إلى القنبلة، يعتبر الوقت عاملاً ضاغطاً على إيران من جهة وعلى إسرائيل وأميركا من جهة ثانية.

وكان لافتاً للانتباه هنا، إعلان المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافييل غروسي، قبل يومين، أن العقوبات الأميركية أخفقت منذ عام 2018 في منع إيران من تطوير برنامجها النووي. ووفقاً لتقديرات الوكالة، فإن إيران تنتج كمية كافية من اليورانيوم العالي التخصيب، لصنع قنبلة نووية واحدة كل 30 يوماً، وإن تحويل هذه المادة إلى وقود لرأس حربي نووي، قد لا يستغرق سوى أيام قليلة.

والأخطر، هو ما أضافه غروسي من أن إيران ليست الوحيدة التي تفكر في تطوير قدراتها النووية، فقد بدأت دول أخرى في مراجعة سياساتها الدفاعية وسط تصاعد التوترات الدولية.

في خضم هذا الاحتدام في المواقف والخيارات، تحاول موسكو إحداث اختراق في الملف النووي الإيراني، بما يحفظ ما تبقى لها من مكانة في شرق أوسط ينجرف نحو الفوضى بأسرع من المتصوّر، وفي عالم تسقط فيه التحالفات القديمة التي ظنّ البعض بأنها راسخة، وذلك لمصلحة عودة القوميات واستراتيجيات مستعادة من القرن التاسع عشر.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "خواطر أوكرانية".. الصين نحو القمة