

المشهد الأول: الرئيس الأميركي دونالد ترامب في محادثاته مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ومع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ومع الملك الأردني عبدالله الثاني. هو مشهد يُعبّر عن حقيقة ذلك “اليانكي” المعتقد بجبروته والمعتدّ فيه من جهة، ومن جهة أخرى، يُبيّن كيف تُبنى العلاقات بين الدول على أساس المصلحة وليس الندية.
المشهد الثاني: بنيامين نتنياهو يُهدّد النظام الجديد في سوريا بالتدخل في حال استمر في التضييق على “مكوّن وطني سوري” تحت حجة منحهم حصانة من قبله وحمايته.
المشهد الثالث: الواقع اللبناني المتناقض حدّ الافتراق بين الخطابات السياسية لأفرقاء يشغلون الحكومة نفسها.
هذه ليست أحجية، بل هو حال العالم اليوم متمثلاً بنموذج المشاهد الثلاثة. فبين الدولي والإقليمي والمحلي رابط يقف على حدود القضايا المتشابكة، وينطلق من مصالح محددة كي يُعيد تأكيد منطقه بالهيمنة بكل أشكالها وبكل الطرق المتاحة.
ترامب لم يكن في محادثاته تلك يخلق أعرافاً جديدة، بل كان يُجاهر بها كي لا تبقى حبيسة الغرف المغلقة. بهذا المعنى هي كانت “هز عصا” لكثيرين: أعداء، خصوم، حلفاء وغيرهم.
أوروبا سيصيبها الصداع حتماً، وهي التي جهدت كي تشكّل ثقلاً نوعياً سياسياً واقتصادياً، إلّا أنها عجزت عن ذلك بسبب عوامل عديدة؛ اتكأت على الولايات المتحدة الأميركية وحاصرت روسيا ولاعبت الصين عن بعد، وها هي اليوم تجهد كي لا تكون الأثمان مكلفة.
نتنياهو المعتد بقوته و”فرادته” مستفيداً من دعم غربي مفتوح وصمت بلغ حدّ التواطؤ إقليمياً وعربياً، يندفع صوب كل بلدان المنطقة متدخلاً، إن عسكرياً أو سياسياً، كي يُعيد تشكيل المنطقة بموازين قوى مختلفة بحيث يكون لكيانه حق القيادة. وفي المقابل، هناك نظم سياسية تتحسس رؤوسها ومصالحها وأدوارها، وعلى ذلك تدور رحى المصالح على حساب حقوق الشعوب وآمالها في منطقة التبدلات الدائمة والتوترات المستدامة.
أمّا لبنان، فهو مختبر المساكنة القسرية بين مختلفين على كل شيء لكن متفقين على العيش في غرفة واحدة، ولا مشكلة إن تضاربوا بأثاث المنزل أو حطموه.
إن شعوب المنطقة لم تهدأ بعد، وإرهاصات التحرك وإن لم تظهر إلّا أن مواطن قوتها كامنة في أكثر من موضع وقضية. وعليه، مراجعة ما حصل هو واجب لا ضوابط أو محرمات في مقارباته. تحديد المسؤوليات ضرورة، من دون تجنٍ ولا تهرب منها. مصارحة الشعوب والانحياز إلى خياراتها هو الميزان الذي يقيس حجم القضايا وأهميتها
هل بدأ تنفيذ “الحلم”؟
إن سردية الأحداث عن أصل المشاريع الغربية في منطقتنا، منذ ما قبل سايكس بيكو، كانت واضحة من مبتدئها القائم على منطق “إعادة التكوين” لكن وفق منطلقات مختلفة. أما خبرها، فهو “الواقع الحالي” الذي نعيشه ونتعايش معه. فـ”الدول الهجينة” هو مصطلح أو تعريف لكيانات لا تحمل مقومات بناء أطر “دولتية” قادرة على إرساء الغاية من قيامها، كالمؤسسات والجغرافيا والمقدرات والعلاقات والوظيفة.. وإذا لم تتوافر، فيمكن اصطناعها، وهذا يعني قيام كيانات، بطبيعتها قاصرة، غاية وجودها هي وظائف سياسية أو مهام في خدمة مشاريع كبرى، مؤقتة كانت أم دائمة.
الكيان الصهيوني هو، بهذا المعنى، “مشروع وليس دولة”، إن بالوظيفة أو بالتكوين والسلوك. هو “حالة” دائمة الحركة وفق “وعود مزعومة”، حتى بألوان علمه والذي يُترجم بخطّي الحدود الواقعة بين نهرين. فالمخطط الإسرائيلي اليوم يُطيح بالجغرافيا، مستفيداً من الفراغ القائم ومن حالة حرب مفتوحة. فيجاهر نتنياهو بشعار “حماية الأقليات”، ويترجمه “بالدفاع عن الدروز” تمهيداً لإنشاء دويلتهم، التي تبدأ من شرق الجنوب اللبناني لناحية جبل الشيخ وصولاً إلى الحدود العراقيّة قرب البوكمال، واستكمالاً لذلك ضمها إلى كيانه لاحقاً، وهكذا تكون “اسرائيل” قد وصلت إلى حدود نهر الفرات شرقاً، وغزة الواقعة على حافة النيل غرباً. فهل سيصبح الحلم الصهيوني حقيقة مادية؟
من جهة أخرى، وبالعودة إلى أصل الحكاية، فبين الوظيفة (الدور) والواقع (الجغرافيا) كانت تُرسم الأدوار التي تبدلت طبيعتها ولاعبوها مرات عديدة، فشرق أوسط متحرك كان الوصفة لبلاد، اتساعها يُطّل على محيطات ويحصر بحاراً ويختزن طاقة. هذا الموقع كان بوابة الرياح الغربية ومقصدها.
اليوم تتتابع النكبات وتتنقل برحالها من بلد إلى آخر: فلسطين قيد التصفية. سوريا قيد التقسيم. العراق في مأزق الهوية المترجحة بين ولاءات مختلفة. لبنان مختبر الانزياحات الدائمة والضائع بين وجهين. الأردن القائم منذ نشأته على التركيب الهجين والملتبس. مصر المثقلة بتَركات متراكمة فثقل الهمّ أكبر من الطاقة على الحركة.. وإذا ما أضيفت إلى كل هذا تنويعة ولاءات ناتجة من ممالك ومشيخات سنصبح في منطقة واقعة دوماً على فوالق زلزالية لا تهمد أو تستكين.
المسألة هنا ليست بحاجة إلى كثرة عناء لفهمها، بقدر ما هي بحاجة إلى السير في مسار إعادة تصويب وجهتها باتجاهات تخدم مصالح دولها وشعوبها ومستقبلهم. وهنا يصبح من الأجدى التفتيش عن ممرات آمنة نحو تلمّس بعض من انفراجات تؤمن العبور السلس نحو بناء الدولة الوطنية القادرة بكل مندرجاتها ووظائفها.
المقاومة كضرورة حتمية
هي فعل أصيل في وجه الخطر الوجودي مهما كان نوعه. ليست اختراعاً ولا هواية. هي ضرورة حتمية تفرضها الطبيعة المتحركة للشعوب ومصالحها وأهدافها ومسببات وجودها. الكلام عنها كما لو أنها مستوردة أو مصطنعة أو ذريعة هو بجوهره موقف سياسي وانحياز مشتبه فيه. الطبيعة بحدّ ذاتها قائمة على فعل التغيير المستمر كما الكائنات: فالثبات هو الجمود وهنا يعني الموت. الاستكانة هي القبول بكل شيء وهنا الانهزام. التعايش هو فعل العاجز الذي يرضى بما يُعرض عليه وهنا الكذب. هي مفردات تسري مضامينها على كل ما يتحرك على وجه البسيطة.
من هنا لا بد من القول إنّ العربدة المتفلتة من حدود المنطق والمتجاوزة لحدود الجغرافيا التي يقوم بها الصهيوني اليوم، هي فعل تثبيت حقائق لواقع ملتبس وغريب. لكن واقع المنطقة لم يكن يوماً ملائماً لمثل هذه المشاريع، ولن يكون مستقبلها كذلك. فهي منطقة التقاطعات الكبرى ومنطلق التغيير في كثير من المحطات. وكائنٌ مصطنعٌ وهجينٌ لا مكان له فيها، برغم فتح العديد من عواصمها أبوابها له. هي “وهنة” تاريخية يجب أن تُصحّح. لم تدم السيادة لأحد ممن حاولوا السيطرة عبر التاريخ وإن مكثوا قروناً وسنوات. القريب والبعيد والمتوسط. غزاة ومحتلين ومنتدبين. بربطات عنق أو جلاليب.. لا فرق، لم يسيدوا، بالرغم من نجاحهم في استيلاد أنماط من أبناء المنطقة مهجّنين ليحكموا بواسطتهم.
الإقلاع عن التجارب الفاشلة والمكرّرة هي دعوة لمشروع وطني شامل وجامع؛ عناصره متوافرة بكثرة في الواقع المعيوش حالياً بكل أشكاله ومنطلقاته وقواه: فهل نستطيع؟ هي ليست دعوة بقدر ما هي محاولة لرمي حجر في المياه الراكدة. فهل من يسمع ويُبادر؟
من هنا تصبح إعادة النظر بكيفية المواجهة أمراً ملزماً؛ لا تكرار للصيغ التي جُرّبت، ولا تقليد لصيغ متماثلة. قد يكون التماثل من باب الواقع المتشابه ضرورة تفرضها القراءات، إلّا أن الركون إلى الماضي لا يجب أن يشكل الأساس لصوغ البرامج. القراءة المتأنية للفعل بذاته ولردات الفعل بذاتها كفيلة باجتراح أنماط جديدة. لا خوف من الذي جرى فالأهم هو التخطيط لما سيأتي والتحوّط منه.
الدولة الوطنية المطلوبة
ربما هنا الأمر أكثر صعوبة، ليس لطبيعة الموضوع بل لكثرة الموروث في هذا المجال. لم ننجح في منطقة تقع بين الأطلسي والهندكوش في الولوج إلى بناء الدول من باب مواصفاتها العلمية. بل فضّلنا الصيغ الهجينة والتماثل. وبذلك لجأنا إلى الصيغ الملتبسة، التي قاربت الحداثة من جانب الشكل وغاصت في التماثل مع صيغ الماضي المتناقضة في المضمون.
غابت المرتكزات الصلبة لمصلحة الارتجال المستمر، فوقعت التجربة وكيانها وشعوبها في فخ “المراحل الانتقالية” وبقيت فيها، فرسّختها كنموذج وتوارثتها. وفي مجالات أخرى كانت العائلية هي المُحدّد، وبذلك تباطأت الاندفاعة و”غرّزت” في وحول التناقضات والتعطيل من دون أي انتاج أو تطوير؛ ما حتّم التفتيش عن الرعاية التي تحوّلت إلى حماية مستدامة في خدمة مشاريع سياسية قادمة من ما وراء البحار. المطلوب هو الدولة الوطنية، ليس بمواصفاتها فقط بل بمكوناتها وآلياتها. بحيث لا يجب أن يكون الاتفاق على الدور والوظيفة من باب التحاصص أو حفظ الحقوق المجزأة، بل حقوق كاملة للجميع وبالتساوي.
هنا تتقدم المواطنة على بقية التعريفات الأخرى كي لا يصبح الانتماء هو الممر الإلزامي للمساهمة في القيام بموجبات الدولة، من انتاج السلطات إلى تقرير شكل الحكم وبرامجه ومصالحه ومصالح بنيه وقضاياه ومنطلقاته.
هذا ما يجب أن يُشكّل العنصر الأساس في المقاربة الضرورية لشكل الحكم وآلياته، ويُحدّد أيضاً دور المواطن كمنتج لمؤسساته ومساهم فيها. يُضاف إليها بناء الاقتصاد المنتج والقادر على التكيّف وتأمين الاحتياجات وفك أي شكل من أشكال التبعية أو الاعتماد على الغير.
البديل المفقود
هذا هو الواقع المعيوش اليوم في المنطقة. عدوانٌ وسيطرةٌ وتمادٍ وعنفٌ وضغطٌ وحصارٌ وتفتيتٌ وتغييرُ أنظمة. وحده نتنياهو يُبادر. ما تقوم به دول العدوان هو نوعٌ من “كيّ الوعي” كي لا يبقى من يرفع صوتاً وليس سيفاً في وجه الذي يحدث.
إن كسر القوالب القائمة حالياً أصبحت حقيقة واقعة لا لبس فيها ولا التباس. تعميم الهزائم وتهوينها والبناء على مفاعيلها أضحت كما لو أنها قدر محتوم. هجر الماضي بما وبمن فيه أصبح تنكراً لقضايا كبرى وذلك تحت حجة عدم التكرار، وتركه للذكرى والتدليل. الأفق أُقفل على أي بصيص من نور.. وكثيرة هي أسس السردية القائمة حالياً والمبنية على تعميم ثقافة العجز وعدم القدرة. الماضي مضى وذكراه للتدليل والتماثل، لكن الإنكار لذلك التاريخ هو قبول مجاني لحالة الهزيمة.
إن شعوب المنطقة لم تهدأ بعد، وإرهاصات التحرك وإن لم تظهر إلّا أن مواطن قوتها كامنة في أكثر من موضع وقضية. وعليه، مراجعة ما حصل هو واجب لا ضوابط أو محرمات في مقارباته. تحديد المسؤوليات ضرورة، من دون تجنٍ ولا تهرب منها. مصارحة الشعوب والانحياز إلى خياراتها هو الميزان الذي يقيس حجم القضايا وأهميتها. لا تنكر لأي محاولة مهما كانت نتائجها، فمسار التحرر والتحرير لا يستوي على مقياس واحد. تجميع القوى وإيجاد لغة الحوار الواضح والصريح هو مفتاح اجتراح الحلول وتكوين برنامج المواجهة. لا تفريط بحقوق الشعوب ومستقبلها، من حرية وديموقراطية ومساواة ولقمة عيش.. كما لا التباس في التموضع أو الخطاب.
الإقلاع عن التجارب الفاشلة والمكرّرة هي دعوة لمشروع وطني شامل وجامع؛ عناصره متوافرة بكثرة في الواقع المعيوش حالياً بكل أشكاله ومنطلقاته وقواه: فهل نستطيع؟ هي ليست دعوة بقدر ما هي محاولة لرمي حجر في المياه الراكدة. فهل من يسمع ويُبادر؟