

لا يجوز التلاعب بهذا الأمل. إذ أنّ المصداقية أساس في الخطاب العام والخطاب الإعلامي تجاه المجتمع. بحيث قد تكون ضخامة الإحباط وفقدان الثقة على قدر ما يتمّ بثّه من أخبار غير دقيقة أو مجرّد أوهام أو مشاريع غير قابلة للتحقيق في المدى المنظور. ولا معنى اليوم لرمي أسباب استمرار المعاناة كلّها على الخارج وعقوباته، كما كان الأمر في العهد البائد. والأسوأ هو أن يقتصر التركيز فقط على مساوئ ذلك العهد من دون التعرّض حقّاً لتحديات اليوم بصدقٍ وشفافيّة ومن دون أيّ نقد لبعض التوجّهات والممارسات الجارية بغية تجنّب تداعياتها.
بالتأكيد، لا يمكن الانتقاص من الجهود الكبيرة المبذولة تجاه تركة سني الصراع. وبالطبع لا يُمكِن الفُكاك من حقيقة أنّ الأمور تحتاج إلى وقتٍ كي تصل هذه الجهود إلى نتائجها. لكن من الواجب بالقدر نفسه أيضاً توضيح أنّ بعض السياسات قد تؤدي إلى استمرار المعاناة وأنّ بعض الخطابات الإعلاميّة حول ما يجري تبعث آمالاً ليست في مكانها.
فقد منحت الولايات المتحدة، منذ كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، إعفاءً عن عقوباتها، التي تشكّل الأساس في تحديد موقف أيّ دولة أو شركة تريد المساعدة أو العمل في سوريا، فقط ما يخصّ قطاع الطاقة والكهرباء في سوريا. وعمّت الأنباء في محطّات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أنّ سفن نفط عملاقة لرفد محطّات الكهرباء ومحطّات عائمة في طريقها إلى الساحل السوري. لكن الكهرباء لم تأتِ من البحر المتوسّط. وفي المحصلة جاءت بعض الكهرياء من الأردن بعد فترة، ثمّ زادت كمياتها بعد شهرين مع منحة غاز قطريّة مؤقتّة تمّ ضخّها في ميناء العقبة. كما زادت قليلاً كميّات الكهرباء المستوردة من تركيا، التي كانت أصلاً تغذّي مناطق إدلب وإعزاز وعفرين منذ زمنٍ طويل. كذلك عمدت سوريا بأموالها الضئيلة إلى شراء سفينتي فيول لرفد محطاتها.
هكذا شهدنا تحسّناً طفيفاً للتغذية بالكهرباء بعد أربعة أشهر من دون أن يوضِح المسؤولون عن القطاع بشفافيّة ما هي الإشكاليّات التقنيّة والإداريّة التي أعاقت وتعيق تحسّناً أكبر. هناك بالتأكيد إشكاليّة المحدوديّة الزمنيّة (ستّة أشهر) للإعفاء الأميركي، ولكن أيضاً إشكاليّات في زيادة إنتاج الغاز السوري، وإصلاح محطات الطاقة والتحويل وخطوط النقل. يضاف إلى ذلك الشرذمة الإداريّة والماليّة بين شركة الكهرباء العامّة وشركات الكهرباء الخاصّة العاملة في شمال غرب سوريا.
يكمُن دور الدولة في الحماية الاجتماعية، وبخاصّةً في مجالات الصحّة والتعليم والخدمات الأساسيّة. فلا معنى لتحرير قطاع الصحّة مثلاً من دون إنشاء نظام تأمين صحيّ عموميّ. ولا معنى لتوكيل “المنظّمات غير الحكوميّة” بالحماية الاجتماعيّة، مهما كان دورها سابقاً في الإغاثة أثناء الصراع، ولا سيما أنّ تمويلها اليوم خارجيّ يخضع لأولويّات ليست للدولة والمجتمع
والجدير ذكره أن مؤسسّات الأمم المتحدة، قامت، حتّى خلال سنوات الصراع، ببعض الإصلاحات في هذا القطاع، وهي تعرض مساهمتها مستقبلاً في إصلاحات أخرى، برغم أنّها تفتقر أصلاً للموارد. إذ أنّ قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب بوقف المعونات الخارجيّة يدفع معظم أجهزة الأمم المتحدة إلى فصل موظّفيها. كما انخرط البنك الدولي مؤخّراً في السعي لمساعدة هذا القطاع؛ مساعدةٌ ليست فقط مالية، بل أيضاً لوضع أسس لحلّ إشكاليّات القطاع والتوافق مع الحكومة حول الأولويات وحلّ الإشكاليّات التقنيّة والإداريّة. إذ لا معنى لزيادة الإنتاج عندما يتمّ هدر أكثر من 50% من إنتاج الكهرباء في الشبكة. كما ينبغي أن يساهم تحسّن الكهرباء في إعادة النازحين واللاجئين إلى مدنهم وقراهم.
من ناحية أخرى، من اللافت للانتباه أنّه برغم النوايا الطيبّة والكفاءات، لم تُبرِز خطابات أعضاء حكومتي “تيسير الأعمال” و”الانتقال”، إشكاليّات العمل والبطالة في سوريا ولا إشكاليّات الحماية الاجتماعيّة.
إنّ هذه الخطابات وأصداؤها الإعلاميّة تُركِّز على الانتقال إلى الاقتصاد الحرّ وفتح باب الاستثمارات بشكلٍ واسع، بينما تخلق وهماً أنّ اقتصاد السلطة البائدة كان اشتراكياً. فماذا كان حقّاً اشتراكيّاً في هيمنة رامي مخلوف أو أسماء الأخرس الأسد ورجال أعمالهما على الاقتصاد؟ هيمنةٌ كانت أصلاً أحد أسباب الانتفاضة الشعبيّة في العام 2011.
لا يُمكِن في الواقع خلق فرص عمل في سوريا مع فتح باب الاستيراد على مصراعيه، في بلدٍ لن يتمّكن من زيادة صادراته إلاّ بعد زمنٍ طويل. والعبرة ليست من سوريا بل من سياسات الرئيس ترامب الحالية التي ترمي إلى تخفيض الدين الخارجي وزيادة العمالة في الولايات المتحدة. ولا يُمكِن أيضاً خلق فرص عمل فقط عبر التقانات الحديثة، برغم أهميّة نشرها. إذ أنّ هدف هذه التقانات هو توفير العمالة، وبخاصّةً عندما يتمّ الحديث عن الذكاء الاصطناعي الذي بات يُقلّص فرص العمل حتّى في مجال إنتاج البرمجيات.
لقد أثبت الشعب السوري، في سوريا وفي بلدان اللجوء والهجرة، أنّه شعبٌ نشيط، يعرِف أنّ العمل لكسب الرزق.. كرامة. والأولويّة هي لإطلاق إمكانيّاته عبر توفير البنى التحتيّة ووسائل التمويل، مصارف عادية كانت أم إسلاميّة، بتمويلٍ أصغر أم أكبر، وعبر حمايته من الاحتكارات وحمايته اجتماعياً.
هكذا يأتي دور الدولة كمنظّم للاقتصاد “الحرّ” أساساً للحماية من الاحتكارات، الداخليّة منها كما الخارجيّة؛ رجال أعمال السلطة البائدة أم رجال أعمال جدد؛ وذلك لتأمين صدقيّة “المنافسة الحرّة” وتنشيط فرص العمل. والعبرة هنا في لبنان وغيره من البلدان العربيّة التي أفسدت فيها الاحتكارات كلّ الجهود أمام نهوضٍ حقيقيّ لاقتصاداتها. فهل يُعاد إعمار حمص كما كان مشروع المحافظ السابق إياد غزال، التي قامت دنيا حمص عليه؟
كما يكمُن دور الدولة أيضاً وأساساً في الحماية الاجتماعية، وبخاصّةً في مجالات الصحّة والتعليم والخدمات الأساسيّة. فلا معنى لتحرير قطاع الصحّة مثلاً من دون إنشاء نظام تأمين صحيّ عموميّ. ولا معنى لتوكيل “المنظّمات غير الحكوميّة” بالحماية الاجتماعيّة، مهما كان دورها سابقاً في الإغاثة أثناء الصراع، ولا سيما أنّ تمويلها اليوم خارجيّ يخضع لأولويّات ليست للدولة والمجتمع. صندوق النقد والبنك الدوليين خرجا أصلاً ومنذ زمنٍ طويل ممّا كان يسمّى “توافق واشنطن” الذي كان يوصي بتقليص الإنفاق على الصحّة والتعليم، وما زال هناك من ينادي بذلك اليوم في سوريا.
من ناحية أخرى، يتم التهليل إعلامياً بسياسات تحرير التعامل بالنقد الأجنبي في سوريا، بعد أن كان محظوراً سابقاً. ولكنّ السؤال يبقى عمّا إذا كان هذا التحرير وانفلات الصرّافين غير النظاميين مع كبح السيولة بالليرة السورية وفروقات أسعار الصرف بين الرسميّة والحرّة قد أديا في النهاية إلى سحب مبالغ كبيرة من العملة الصعبة من أيدي من احتفظ بها ليومٍ أسود أو وصلته كمساعدة من مغتربيه؟ هذا في وقتٍ تحتاج فيه سوريا كدولة لهذه العملة الصعبة لتأمين الحدّ الأدنى من الواردات.
يسري ذلك على التهليل لخفض أوروبا عقوباتها على سوريا في حين لم يتمّ رفع العقوبات سوى عن المصارف الحكوميّة التي لا تتعامل مع الخارج، كالمصارف الزراعية أو الصناعية، وليس التجارية أو المركزية. ومن دون أن تتمّ أصلاً الإشارة إلى الأموال الحكوميّة السورية المحجوزة في أوروبا بفعل العقوبات.
نعم، الآمال كبيرة والتحديات كبيرة أيضاً، ومهمّات الإصلاح للخروج من آثار الصراع صعبة ومعقّدة، في هذه المجالات وغيرها. لكنّ حلّها لا يكمُن بالتهليل والتضليل الإعلاميّ وإنّما بالشفافيّة وبترسيخ المصداقيّة أمام المجتمع. إنّ الشعب كان، وسيبقى، أساس الحكم.