توافق أميركي-صيني يُعيد الهند وباكستان عن حافة الهاوية

قبل الإعلان عن الاتفاق على وقف النار بشكل مفاجىء أمس (السبت)، تأرجحت الهند وباكستان، لنحو ثلاثة أسابيع على شفير التصعيد المحسوب والحرب الشاملة. ومع أنها ليست المرة الأولى التي يحتدم فيها التوتر بين القوتين النوويتين إلى هذا المستوى الخطير منذ عقود، فقد سادت مخاوف مشروعة من احتمال حصول انفجار واسع، أخذاً في الاعتبار الأوضاع الداخلية في كل من البلدين والظروف الإقليمية والدولية.

شرارة التصعيد انطلقت في 22 نيسان/أبريل الماضي، عندما هاجم ثلاثة مسلحين سياحاً في مدينة باهالغام في الشطر الهندي من كشمير. المسلحون عمدوا إلى فرز 26 سائحاً هندوسياً على حدة وأردوهم بالرصاص، قبل أن يفروا. الهجوم هو الأخطر من نوعه منذ عام 2019، عندما قتل أكثر من 40 جندياً هندياً في هجوم انتحاري بسيارة مفخخة قرب سريناغار العاصمة الصيفية لولاية كشمير. تلا ذلك الهجوم حرب محدودة، تدخل على اثرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى لدى الدولتين لوقفها.

تتهم الهند عادة مجموعات مسلحة تتخذ من باكستان مقراً لها لتنفيذ هجمات في كشمير. ومنذ انفصال باكستان عن الهند عقب الاستقلال عام 1947، نشبت ثلاثة حروب واسعة بين الدولتين، اثنتان منهما بسبب كشمير.

لم تتبنّ أية مجموعة مسلحة الهجوم على السياح. لكن الهند اشتبهت في أن جماعة “لشكر طيبة” الباكستانية المتشددة، هي التي نفذت الهجوم، بـ”تواطؤ” من إسلام آباد. ومنذ 22 نيسان/أبريل، يتبادل الجيشان الهندي والباكستاني إطلاق النار على الحدود المشتركة المعروفة بـ”خط السيطرة” الممتد بطول 2065 كيلومتراً، والذي رُسم على أثر الحرب الواسعة عام 1971. والأربعاء، قصفت مقاتلات “رافال” الهندية التي اشترتها نيودلهي من فرنسا ما وصفته بـ”معسكرات للإرهابيين” في كشمير وكراتشي ولاهور وروالبندي. ووصفت حكومة ناريندرا مودي الرد بأنه “محسوب وغير تصعيدي”. وخلال اليومين الماضيين، ردّ الجيش الباكستاني بالصواريخ والمسيّرات بقصف مناطق عدة في الأراضي الهندية بالصواريخ والمسيّرات في سياق ما سماه عملية “البنيان المرصوص”. وبعد ظهر السبت، أعلن الجانبان عن وقف للنار.

حرب بالوكالة

يمكن بعد سرد وقائع الأحداث المتسارعة، الانتقال إلى معالجة بعض الأسباب التي دفعت كلاً من الهند وباكستان إلى الرقص على حافة الهاوية، على رغم احتمالات الانزلاق إلى أول حرب بالوكالة تخوضها الولايات المتحدة والصين.

عمل مودي المتكىء على خطاب شعبوي يُعلي القومية الهندوسية على ما عداها من الأقليات الدينية الأخرى في الهند، على تمتين أواصر العلاقات مع الغرب منذ أكثر من عشرة أعوام. ودفعه هذا عام 2019 إلى إلغاء الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به كشمير. أحدث هذا القرار استياء واسعاً لدى الغالبية المسلمة التي تتشكل منها الولاية ومن خلفها المجموعات المسلحة الداعية إلى ضم كشمير الهندية إلى كشمير الباكستانية، وأبرزها “لشكر طيبة” المسؤولة عن هجمات مومباي التي أسفرت عن نحو 160 قتيلاً عام 2008، و”جيش محمد” الذي تبنى هجوم 2019 في كشمير.

وتوثيق العلاقات الهندية مع الغرب، صاحبه نمو اقتصادي كبير نقل البلد الأكبر سكانياً، إلى مصاف المنافسة الجدية للصين العملاق الآسيوي الآخر. ولعبت الولايات المتحدة على جذب نيودلهي بعيداً عن روسيا، من طريق الاستثمارات الاقتصادية والتكنولوجية والتعاون الأمني، الذي تُرجم في انضمام الهند عام 2004 إلى تحالف “كواد” الذي يجمع أيضاً الولايات المتحدة واليابان وأوستراليا. الهدف من هذا التحالف الرباعي تشكيل رافعة أمنية واقتصادية، تحتوي الصعود الصيني في المحيطين الهادىء والهندي.

إن غرق الهند في حرب مع باكستان، سيؤثر على استراتيجية الولايات المتحدة القائمة على استمالة نيودلهي في المواجهة الأشمل مع الصين. وستكون بكين أكثر حرية في الإعداد لاستعادة تايوان، سلماً أو حرباً، وتعزيز نفوذها في بحر الصين الجنوبي، وهذا ما يفترض بإدارة ترامب على رغم انشغالها بأوكرانيا وبغزة وبالمفاوضات مع إيران، الضغط على صديقها مودي لوقف التصعيد، بينما تولت الصين على الأرجح اقناع باكستان بالتوقف عسكرياً عند هذا الحد

الهروب من الداخل!

هل هي محض صدفة أن يتزامن القصف الهندي على الأراضي الباكستانية، مع توقيع الهند وبريطانيا على اتفاق تجاري “تاريخي” بعد أعوام من المفاوضات الشاقة؟ وفي الوقت نفسه تتفاوض نيودلهي وواشنطن على اتفاق تجاري مماثل. والأكثر لفتاً للنظر أن الاتفاق على وقف النار تزامن مع جلوس وفدين أميركي وصيني في جنيف للتفاوض على وقف الحرب التجارية بينهما. وترامب، سبق نيودلهي وإسلام آباد في الإعلان عن وقف النار بين الجانبين.

وسعى مودي أيضاً إلى تنويع مصادر وارداته من الأسلحة، ولم تعد روسيا هي المصدر الرئيسي للآلة العسكرية الهندية، بعدما دخلت أوروبا وإسرائيل على الخط. وعلى رغم أن مودي لم يؤيد العقوبات الغربية على روسيا بعد هجومها على أوكرانيا في 2022، وزار موسكو أكثر من مرة، فإنه وجّه انتقادات حادة للحرب، وكان ينظر بلا شك بعين الريبة إلى “الشراكة بلا حدود” بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ. وفي هذه الغضون، لم تكن الحدود الهندية-الصينية مستقرة تماماً مع مناوشات متكررة.

مودي هذا، لم يستطع ابتلاع هجوم 22 نيسان/أبريل. وأراد من خلال مهاجمة مواقع داخل باكستان، استعادة الردع، من دون الذهاب إلى حرب شاملة. مثلاً أطلقت مقاتلات “رافال” صواريخها على المواقع داخل باكستان، من الأجواء الهندية. كما تجنب قصف مواقع تابعة للجيش الباكستاني. وترافقت الخطوات العسكرية مع إجراءات لتقنين تدفق المياه من الأراضي الهندية إلى باكستان. إجراء وصفته إسلام آباد بأنه “إعلان حرب”، نظراً لاعتماد مساحات شاسعة من أراضيها الزراعية على المياه التي تنبع من الهند.

إقرأ على موقع 180  مصر في مواجهة عصر دولي.. جديد

في الوقت نفسه، بات اقتصاد باكستان معلقاً على قرض من صندوق النقد الدولي بنحو 7 مليارات دولار. من دون هذا القرض، ليس مبالغاً حصول انهيار. كما أن العلاقات مع أفغانستان في أسوأ حالاتها منذ الانسحاب الأميركي عام 2021 وعودة حركة طالبان إلى الحكم. ويتبادل الجانبان القصف المدفعي عبر الحدود ويسقط قتلى من الجانبين، إلى إقفال متكرر للمعابر الحدودية بين البلدين.

سوء الأوضاع الاقتصادية، يعيد تظهير دور الجيش والاستخبارات العسكرية في السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي في باكستان، مما يهمش دور رئيس الوزراء شهباز شريف والرئيس آصف زرداري، إلى حد كبير.

اليوم، يُوصف قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير بأنه متشدد دينياً، واتخذ مواقف تصعيدية من الضربات الهندية، وهدّد بالانتقام. ووصف كشمير بأنها بمثابة “الوريد” لباكستان، في استعادة لما قاله ذات مرة مؤسس باكستان محمد علي جناح.

وليس سراً أن الاستخبارات العسكرية الباكستانية تلعب دوراً رئيسياً في دعم الجماعات المناوئة للهند في كشمير. وسبق لهذه الاستخبارات أن دعمت فصائل “المجاهدين” ومن ثم “طالبان” في أفغانستان في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. وكان الجنرال ضياء الحق يطمح إلى جعل باكستان مركزاً للإسلام السياسي في العالم.

ما هو سر التوقيت؟

ينفلش المشهد في جنوب آسيا على المعادلة الآتية. هناك الهند التي تُعمق علاقاتها الاقتصادية والتسليحية مع الغرب. وهناك باكستان التي باتت تعتمد على الصين بنسبة 80 في المئة من أسلحتها المستوردة. الجيش الباكستاني، واجه الـ”رافال” الفرنسية بمقاتلات من طراز “جي 10 س” وصواريخ أرض-جو صينية الصنع.

وبناء على قاعدة مسلم بها، وهي أن أياً من الأحداث الكبرى في عالم السياسة والعلاقات الدولية، لا تقع بمحض الصدفة، يصير مشروعاً التساؤل لماذا انفجر التوتر بين الهند وباكستان، في ذروة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟

صحيح أن العداء بين الهند وباكستان موروث منذ عقود. لكن هذا لا يلغي أن العوامل الإقليمية والدولية، تلعب دوراً في الدفع نحو خفض التصعيد أو الدفع نحو الحرب الشاملة.

مبدئياً، قد لا يكون من مصلحة ترامب أن يسجل على نفسه أن حرباً أندلعت في جنوب آسيا وهو موجود في البيت الأبيض. ويُردّد الرئيس الأميركي، أن من بين الأسباب التي تدفعه إلى بذل جهود لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية، هو خوفه من أن تجر العالم إلى حرب نووية.

ماذا إذن عن الهند وباكستان اللتين تملك الواحدة منهما 170 رأساً نووياً؟

تولى وزير الخارجية ماركو روبيو الاتصال بنظيريه الهندي والباكستاني من أجل خفض التصعيد ووقف النار. أما المفاجىء فكان كلام نائب الرئيس الأميركي جيه. دي. فانس الذي قال إن حرباً في جنوب آسيا “لا تعني الولايات المتحدة”!

إن غرق الهند في حرب مع باكستان، سيؤثر على استراتيجية الولايات المتحدة القائمة على استمالة نيودلهي في المواجهة الأشمل مع الصين. وستكون بكين أكثر حرية في الإعداد لاستعادة تايوان، سلماً أو حرباً، وتعزيز نفوذها في بحر الصين الجنوبي، وهذا ما يفترض بإدارة ترامب على رغم انشغالها بأوكرانيا وبغزة وبالمفاوضات مع إيران، الضغط على صديقها مودي لوقف التصعيد، بينما تولت الصين على الأرجح اقناع باكستان بالتوقف عسكرياً عند هذا الحد، برغم استمرار الخروقات المتبادلة من جهة وعدم وجود ضوابط جدية لمنع الانفجار مجدداً من جهة ثانية، إلا إذا توافرت إرادة هندية – باكستانية بتغطية دولية (أميركية – صينية – روسية) لمناقشة القضايا الخلافية بين البلدين.. وهي حتماً كثيرة.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  قروض دولية إنقاذية للبنان VS رياض سلامة!