

بالتأكيد سيختلف السوريّون اليوم في الإجابة على السؤال المطروح. اختلافٌ حادّ بقدر المظالم التي خلّفتها بهم حربهم، وبقدر المطامع التي بدأت تظهر ملامحها. لكن يمكن في سياق الإجابة أن يتمّ طرح أسئلة أخرى: ألم يكن بقدرة هذه الدول “الداعمة” أن تُوحِّد المعارضة، وبخاصّةً المسلّحة منها، منذ زمنٍ كي لا تستمرّ المعاناة طويلاً؟ أم أنّ الحرب في سوريا لم تكُن فقط صراعاً مع إيران وحلفائها بل أيضاً صراعاً بين هذه الدول “الداعمة” ذاتها؟ وكذلك ألم تكن هذه الدول تعرِف أنّ العقوبات التي فرضتها ستنهِك أصلاً الشعب السوري أكثر بكثير من السلطة القائمة، وأنّ هذا سيُضعف إمكانيّة مقاومة الشعب لهذه السلطة؟
الآن وبعد هروب الأسد الابن من السلطة، يبقى السؤال قائماً حول إمكانيّة توافق الدول “الداعمة” للسوريين، أم أنّ إعادة نهوض سوريا ما زال يخضع لصراعات هذه الدول بين بعضها البعض؟ بالتأكيد ستأتي الإجابة سريعة فيما يخصّ تركيا وإسرائيل، برغم أنّ هذه الأخيرة اعتُبِرَت هي التي أطالت بقاء الأسد طويلاً في السلطة. ولكنّ الدعم التي تُظهره لبعض السوريين لا هدف له سوى شرذمة السوريين وبسط النفوذ، وبخاصّةً على المناطق الجنوبيّة. ولكن ماذا عن الدول الأخرى؟ هل هناك بينها تسابق على التحالف مع هذه أو تلك، أو بشكلٍ فرديّ بغية تحقيق مصالح في أفق وضع سوريا على خارطة المنطقة المستقبليّة أم أن المنافسة تتمحور حول مصالح تخصّ الموارد الطبيعيّة وطرق إمدادها ومصادر الريع أكثر من إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي ورخاء الشعب السوري؟
على هذا الصعيد، من الواضح أنّ المناخ الدوليّ والإقليمي القائم غدا بعيداً عن.. التوافقات. فلا توافق حقيقياً بين الدول الأوروبيّة بل منافسة، وكذلك هو الأمر بين الدول الخليجيّة. ولا توافق بين هاتين المجموعتين وبين إدارة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، التي باتت تفرِض “أولويّة أمريكيّة” على الجميع وحتّى على تركيا وإسرائيل.. هذا ما نشهده اليوم بالتحديد على لبنان، بعد الحرب الأخيرة وفي القرارات المتعاقبة فيما يخصّ غزّة.
هناك حاجة إلى عودة سريعة للحريّات والحياة السياسيّة، لأنّ نهوض النشاط السياسي ولو تدريجيّاً هو الكفيل بإيجاد جهات مجتمعيّة يتّم التفاوض معها، وكذلك التعاون معها، مقابل استفزازات ما يسمّى بالجهات “المنفلتة” أو “الخارجة عن القانون” أو الخارجيّة. وإذا ما كان من ضرورة لـ”مجلس سياسي” يضبط إيقاع خروج البلاد من أزمتها، لا بدّ من أن يشمل هذا المجلس جميع التنوّعات السياسيّة والطائفيّة والإثنيّة
في سوريا، لافتٌ للانتباه أنّ أغلب الحديث يكثُر عن رؤية مستقبليّة بعد عشرات السنين، إلاّ نادراً، بدل التنطّح للإشكاليّات التي يعاني منها السوريون اليوم وسبل حلّها سريعاً. علماً أنّ البلاد لن تكون قادرة على اتخاذ القرارات الصائبة ضمن التنافس الدوليّ إلاّ إذا أعادت بناء قدرات مؤسّساتية داخليّة تستطيع فعليّاً خدمة الصالح العام السوريّ… ولجميع السوريين.
أمّا فيما يخصّ العقوبات، ينشط السوريّون أنفسهم الذين بذلوا جهوداً كبيرة على تشديدها وتعقيدها واستطالة أمدها، على إزالتها كاملة اليوم. هذا برغم أنّهم كانوا يعرفون جيّداً أنّها تُعاظِم فقر السوريين وأنّها تخلق فروقاً باتت كبيرة بين مناطق السيطرة في سوريا مما يجعل إعادة توحيد البلاد أمراً صعباً حتّى بعد “سقوط السلطة”. لقد بات رفع العقوبات أيضاً صعباً. إذ غدت عالقة في غياهب التنافس بين الدول، بل أيضاً التنافس بين مراكز النفوذ في مجلسي النوّاب والشيوخ الأمريكيين.
وفي الواقع، باتت اليوم كلّ عمليّة مساعدة للنهوض بسوريا، مثلاً لاستعادة الكهرباء أو لعودة شركة الطيران السورية للعمل أو لدرء آثار الجفاف المحدِقة، مجالاً لمقايضات بين دولٍ وجهات إقليميّة ودوليّة.
ومن اللافت للانتباه أنّ لا أحد يتحدّث حقّاً عن العقوبات الأخرى، الأمميّة وليست “أحاديّة الجانب”، التي تمسّ “هيئة تحرير الشام” وقادتها، أو ما يسمّى “قائمة 1267” في مجلس الأمن الدولي. كما لا تقوم السلطات الحالية في سوريا بطلب رسميّ لإزالتها، ولا جهود أيضاً تجاه القائمة الأمريكيّة حول الكيانات التي ترتكب انتهاكات حيال الحريّات الدينيّة. هذا في حين أنّ هناك تشابكًا بين كلا النمطين من العقوبات وأنّها ذات علاقة عضويّة ببعض الآليّات المالية التي تتمّ اليوم محاولة تفعيلها في سوريا.
وبرغم الظلال التي تطرحها هذه الأسئلة، تبقى هناك التحدّيات الحقيقيّة داخل سوريا وعلى أصعدة الدولة والمجتمع ووحدته ووحدة الأرض. إذ أنّ مواجهتها بشكلٍ فعليّ هي التي تفتح الآفاق تجاه “لعبة الأمم”.
ولا بدّ من القول إنّه برغم الحماسة برحيل الأسد و”بالانتصار” وبرغم الجهود المبذولة، تبقى سوريا بحاجة إلى آليّة لتوحيد أرضها ومؤسساتها بشكلٍ حقيقيّ. فالأمور ما زالت في تفاوتٍ كبير بين مناطق الشرذمة السابقة، إدلب وشمال حلب وشرق الفرات وبقيّة سوريا. ولا بدّ من رؤية تضع توحيد المؤسسات والآليّات والأوضاع وتقليص الفروقات كأولويّة وطنيّة، وبخاصّةً أنّ التفاوت بات يتّسِع اليوم حتّى بين المدن والمناطق التي كانت سابقاً تحت سيطرة السلطة البائدة.
وعدا عن التلاعب على وحدة المجتمع، تبقى سوريا أيضاً بحاجة ماسّة إلى آليّة عدالة انتقالية شفّافة، لا مجرد مصالحات آنيّة، كي تلتئم جراحات سنين الحرب وتعالج مظالمها. ولا بدّ أنّ هناك حاجة إلى عودة سريعة للحريّات والحياة السياسيّة، لأنّ نهوض النشاط السياسي ولو تدريجيّاً هو الكفيل بإيجاد جهات مجتمعيّة يتّم التفاوض معها، وكذلك التعاون معها، مقابل استفزازات ما يسمّى بالجهات “المنفلتة” أو “الخارجة عن القانون” أو الخارجيّة. وإذا ما كان من ضرورة لـ”مجلس سياسي” يضبط إيقاع خروج البلاد من أزمتها، لا بدّ من أن يشمل هذا المجلس جميع التنوّعات السياسيّة والطائفيّة والإثنيّة.
وما هو أكثر أهميّة وأساسيّ هو أن يشعر السوريون بالأمان وأنّ الجيش الجديد يُبنى عسكريّاً وفكريّاً على أنّه… جيش الوطن، كلّ الوطن.
جميع الدول التي تعيش هشاشة حربٍ داخليّة طويلة وصراعٍ دولي وإقليمي بالوكالة تواجه بعد نهاية القتال أو التغيير مجدّداً من “لعبة الأمم”، وإن بشكلٍ مختلف عمّا كانت عليه الأمور خلال الصراع المسلّح. والسبيل الوحيد للنهوض هو تمكين مؤسسات الدولة، المدنيّة والعسكرية، وآليّات السلم المجتمعي كي تنفتح آفاق وطنٍ لجميع مواطناته ومواطنيه… وبالتأكيد هذه هي المسؤوليّة الحقيقيّة اليوم.