أن يُطلب من أوكرانيا أن تتخلى عن 20 في المئة من أراضيها لروسيا (تسليم منطقتي دونيتسك ولوغانسك بالكامل وتقاسم زابوريجيا وخرسون)، وأن تُخفض عديد جيشها إلى النصف (من 800 ألف حالياً إلى 400 ألف)، وأن تُقيد صناعاتها الصاروخية القادرة على ضرب العمق الروسي، وأن تتخلى عن طلب عضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وأن لا يُسمح لها بنشر قوات أجنبية على أراضيها، وأن يُعاد الاعتبار إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي حظرها فولوديمير زيلينسكي بعد الحرب، كل ذلك، يعتبر ثمناً باهظاً ستدفعه أوكرانيا في سبيل وقف الحرب.
وعلى ماذا تحصل أوكرانيا في المقابل؟ ضمانات أمنية أميركية تجعل منها حليفاً من خارج حلف شمال الأطلسي، ونشر مقاتلات أوروبية في بولندا لحماية كييف من أي هجوم روسي مستقبلاً، وتسييل مئة مليار من الودائع الروسية المجمدة في المصارف الغربية، من أجل إعادة الإعمار، وتوافق روسيا على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي.
كيف وُلدت الخطة، التي ستتوج بـ”مجلس سلام” يترأسه ترامب، على غرار “مجلس السلام” الذي نصت عليه الخطة الأميركية لقطاع غزة؟
بعد الغاء قمة بودابست بين ترامب وبوتين التي كانت مقررة في 15 أيلول/سبتمبر الماضي، بسبب ما عُزي وقتذاك إلى أخفاق وزيري الخارجية الأميركي ماركو روبيو والروسي سيرغي لافروف في تحديد جدول أعمال للقمة بحيث تحقق اختراقاً ديبلوماسياً يوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، انخرط المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ورئيس مجلس الثروة السيادي الروسي كيريل دميترييف (وكلاهما يأتي من قطاع الأعمال)، في مباحثات بميامي في فلوريدا، في النصف الثاني من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
دميترييف هو مستثمر في عالم المصارف وخريج جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، بدأ يبرز على الساحة الديبلوماسية منذ شباط/فبراير الماضي، عندما شارك في عداد وفد ترأسه لافروف إلى اجتماع مع نظيره الأميركي روبيو في السعودية، في سياق الانفتاح الديبلوماسي للبيت الأبيض على الكرملين منذ فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية مطلع هذه السنة.
قيل يومذاك أن لافروف حاول أن لا يحصل دميترييف على كرسي في مقابلة الوفد الأميركي، بسبب شعور وزير الخارجية الروسي، بأن الوافد الجديد إلى عالم الديبلوماسية الروسية، سيجعله أقل حظوة لدى بوتين. وفعلاً شاعت في الأسابيع الأخيرة تساؤلات كثيرة حول سبب تغيب لافروف عن الكثير من الاجتماعات الرئيسية للمسؤولين الروس، وعما إذا كان نجم أحد أكثر وجوه الديبلوماسية السوفياتية سابقاً والروسية لاحقاً، بدأ بالأفول، لمصلحة دميترييف، برغم أن الأخير، يُنظر إليه على أنه من خارج النظام القائم.
لم يكن لافروف وحده الذي انحسر دوره مؤخراً، فهذا هو المبعوث الأميركي الخاص لحل النزاع كيث كيلوغ، يتنحى أيضاً لمصلحة ويتكوف وجاريد كوشنر، صهر ترامب، الذي دخل على خط الأزمة، على غرار دخوله على خط المساعي لوقف الحرب في غزة.
وبعث ترامب بالخطة إلى زيلينسكي بواسطة وزير الجيش الأميركي دان دريسكول الذي يعتبر أحد الرجال الثقات لدى الرئيس الأميركي، الذي طلب منه أيضاً أن يحصل خلال زيارته لكييف في وقت سابق من الأسبوع، على موافقة أوكرانيا على مشاركة الولايات المتحدة في تقنيتها المتطورة لصناعة المسيّرات التي أدت دوراً كبيراً في الحرب من خلال ضربات موجعة في العمق الروسي. تعتبر كييف اليوم الأكثر تفوقاً في عالم المسيّرات الجوية والبحرية، التي ألحقت أضراراً فادحة بالبنى التحتية الروسية العسكرية والاقتصادية.
لم يكن في مستطاع زيلينسكي على رغم تمسكه بمبدأ عدم التنازل عن أية أراض، أن يرفض الخطة فوراً، بل طلب مناقشتها مع ترامب في الأيام المقبلة. يعاني زيلينسكي منذ تفجر الفضيحة في قطاع الطاقة في أوائل الشهر الجاري، من انتكاسة داخلية هي الأخطر منذ تسلمه منصبه عام 2019. ذلك، أن المكتب الوطني لمكافحة الفساد توصل بعد تحقيقات استمرت 15 شهراً، إلى الكشف عن فضيحة رشى واختلاس بقيمة مئة مليون دولار، ما تسبب باستقالة وزير العدل هيرمان غالوشينكو ووزيرة العدل سفيتلانا غرينتشوك. وتدور أحاديث عن تورط أندريه يرماك (كبير مستشاري زيلينسكي) في القضية، بينما فرّ رجل الأعمال البارز تيمور مينديتش إلى إسرائيل منذ تفشي أنباء الفضيحة.
ألقت الفضيحة بثقلها على زيلينسكي في وقت يعاني فيه جيشه من نقص حاد في عديده. وهناك تقارير عن فرار نسبة كبيرة من الشباب بين سن الـ18 والـ25 إلى أوروبا قبل أن يحين دورهم في التجنيد. وانعكس النقص في الجنود، على الجبهات مؤخراً. وتمكن الجيش الروسي بعد أشهر من الهجمات المتواصلة، من اقتحام مدينة بوكروفيسك الاستراتيجية في منطقة دونيتسك بإقليم الدونباس، والسيطرة على أجزاء منها. سقوط هذه المدينة يُعرّض آخر مدينتين يسيطر عليهما الجيش الأوكراني في هذه المنطقة، وهما كراماتورسك وسلوفيانسك.
كما تقدم الجيش الروسي في الأسابيع الأخيرة في خاركيف وسومي وزابوريجيا وخرسون. وبذلك حققت روسيا تقدماً في الشهرين الأخيرين هو الأسرع، بعدما ساد جمود على سائر الجبهة لمدة طويلة.
أضف إلى ذلك، طوى ترامب مسألة تزويد أوكرانيا بصواريخ “توماهوك” متوسطة المدى، التي في امكانها ضرب موسكو وسان بطرسبرج وكل روسيا الأوروبية. وفي هذا المجال، تجدر الإشارة إلى أن الحديث عن الـ”توماهوك”، ردّت عليه روسيا باختبار صاروخ عابر للقارات “أوريشنيك” القادر على حمل رؤوس نووية، وبإجراء تجربة على الغواصة النووية المسيّرة “بوسيدون”. وردّ ترامب باعطاء أوامر للقوات الأميركية بإجراء اختبارات على الأسلحة النووية للولايات المتحدة. وبدا أن أميركا وروسيا تعودان بهذه التجارب إلى ما قبل انتهاء الحرب الباردة، وتدشنان من جديد عصر السباق النووي. والصين بدورها ليست بعيدة عن تطوير ترسانتها النووية بسرعة هائلة للحاق بركب واشنطن وموسكو. وفرنسا، هي الأخرى، وضعت صواريخها النووية الجديدة لغواصاتها في الخدمة.
التوتر النووي المتجدد، كان عاملاً آخر من العوامل التي حسمت ضرورة الإسراع في صوغ خطة السلام الأوكرانية.
ويتعين ألا يغيب عن البال، أن العقوبات التي فرضها ترامب قبل أسبوعين على شركات النفط الروسية الرئيسية (روسنفت ولوك أويل)، أحدثت بلبلة في صادرات الطاقة الروسية، التي تعتبر الممول الفعلي لآلة الحرب. ناهيك عن العقوبات التي فرضها ترامب على الهند لاستمرارها في استيراد النفط من روسيا. ولا يستهان أيضاً بالأضرار الكبيرة التي ألحقتها الضربات الأوكرانية بمصافي النفط الروسية وبموانىء التصدير.
كل هذه العناصر مجتمعة، حملت بوتين على إيفاد دميترييف إلى أميركا، كي يعمل مع ويتكوف على إعداد خطة للسلام، تحصل بموجبها روسيا على جزء لا بأس به من مطالبها.
والخطة الأميركية الحالية، لا تعجب القادة الأوروبيين الذين بدأوا بتشبيهها باتفاق ميونيخ للعام 1938، عندما وافقت بريطانيا وفرنسا على التخلي عن تشيكوسلوفاكيا لألمانيا النازية، الأمر الذي مهّد لنشوب الحرب العالمية الثانية. والآن، يُحذّر قادة الاتحاد الأوروبي، من إن أية خطة للسلام “تكافىء” روسيا، من شأنها أن تُشجع بوتين على غزو مولدافيا أو أية دولة من دول البلطيق.
وإذا ما قيض للخطة الأميركية النجاح، فإن الولايات المتحدة وروسيا، هما اللتان تقتسمان أوكرانيا من الناحية الفعلية. ولم تمض أشهر على توقيع اتفاق المعادن بين واشنطن وكييف، والآن، أميركا هي التي يقع على عاتقها العبء الأكبر من الضمانات الأمنية لكييف، وتالياً ترسيخ المزيد من النفوذ الأميركي في هذا البلد، بينما تفوز روسيا بالشرق الأوكراني ومعادنه أيضاً.
ضاقت الخيارات هذه المرة كثيراً على زيلينسكي لأن المعروض عليه يرقى إلى كأس سم، هي ثمن وقف الحرب.. أما قول “لا” هذه المرة فستكون مكلفة أيضاً.
