ألبير مخيبر وزيراً.. الرجل يصنع الكرسي لا العكس (3)!

وُجِدت بين الرئيس كميل شمعون والنائب ألبير مخيبر الوافد حديثًا إلى الندوة البرلمانية «كيمياء رهيبة» ما أزعج بعض الشيء ريمون إدّه، وفي حكومة العهد الشمعوني الثانية عشرة والأخيرة دُعي مخيبر للاشتراك بالحكم، فقبل، ولكن ليس بأي ثمن. فقد اشترط على الرئيس سامي الصلح، مقابل مشاركته في الحكومة، ألّا يتمّ التجديد لشمعون وهذا ما حصل.

في 14 آذار/مارس من عام ثورة الـ1958 ولدت، لأول مرّة في لبنان، حكومة موسّعة من 14 وزيرًا. عادةً كان عدد أعضاء الحكومات تسعة وزراء وما دون، ولكلّ وزيرٍ أكثر من حقيبة، ولأول مرّة يشارك حزب «الكتائب اللبنانية» في الحكم من خلال جوزف شادر الذي أُسندت إليه وزارة التصميم العام، أما مخيبر فأُنيطت به وزارة الصحّة، ووزارة الخارجية بالوكالة التي أسندت (بالأصالة) إلى الشخصية الفكرية والأكاديمية البارزة الدكتور شارل مالك الذي كانت بصماته واضحة في صناعة سياسة لبنان الخارجية وفي صياغة بيان الثقة الذي تلاه سامي الصلح، وفيه أن «لبنان يحيا أولًا في ذاته، وثانيًا في تفاعله الحرّ الخيّر الشريف مع عالمه العربي، وثالثًا في إسهامه بقدر استطاعته في الخلق الحضاري، ورابعًا في استساغته كلّ حق وكلّ نور حيث يجدهما في العالم الأوسع. والحكومة تتطّلع وتتوق إلى مستقبل تعاوني عربي خلاق يسهم لبنان فيه، بمحبّة وصدق ما بعدهما محبّة وصدق، في الحياة العربية الجديدة المتفتحة المشرقة».

لم تمضِ أسابيع قليلة على ولادة الحكومة، وأقل من شهر على الوحدة السورية-المصرية حتى بدأت أعمال العنف المتنقّل والتصعيد السياسي والشعبي والمناطقي في وجه الحكم، وفي 13 نيسان/أبريل 1958، يا لمصادفة التواريخ، عنونت صحيفة «النهار» على صدر صفحتها الأولى:

النواب الموالون يبلغون رئيس الحكومة استعدادهم لتسليح أنصارهم والمعارضة تعتبر الثورة حقًا مشروعًا عن النفس، والقوّة الثالثة([1]) تشجب أعمال العنف.

فاتورة الأدوية والإستشفاء

وعلى الصفحة الأولى، من العدد نفسه، ورد خبر لافت للإنتباه جاء فيه: «في نطاق حملةٍ لتأمين التطبيب المجاني وتخفيض أسعار الأدوية استدعى الدكتور ألبير مخيبر وزير الصحّة العامة أمس برقيًا جميع المحافظين والقائمقامين إلى اجتماعٍ عقد في العاشرة قبل الظهر في مكتبه في الوزارة وذلك من أجل تأمين مشروع الوزير القاضي بإنشاء أربعين مستشفًى ريفيًا في مختلف المناطق اللبنانية ويأمل الدكتور مخيبر بالتنفيذ في أقرب وقت».

ما أن أدرك تجّار الأدوية أن الوزير ماضٍ في خطواته لخفض أسعار الدواء حتى بادروا إلى طلب الاجتماع به في منزله، «وفي اللقاء مع وفدٍ منهم تمّ عرض مبلغ مالي على مخيبر لقاء ترك مسألة تسعير الدواء على حالها، فخرج من الاجتماع ليتصل بالشرطة والإبلاغ عن وجود من يحاول رشوة وزير في الحكومة اللبنانية وعاد إلى الاجتماع ليخبر الجميع بما فعله لتوّه»

كان مخيبر، والثورة على الباب، وزيرًا لكلّ لبنان ولجميع اللبنانيين. الرئيس شمعون يخوض صراعًا مع معارضيه ويبلغهم استعداده للتخلّي عن فكرة التجديد مقابل اعتراف المعارضين بخدماته للقضايا العربية، ومعالي وزير الصحّة يبعد الحسابات السياسية عن برنامج عمله الوزاري وعن قراراته وقد أولى مسألة تخفيض فاتورة الأدوية أهمّية قصوى فواجهه خصومه بمقولة «أنه يقوم بالدعاية لنفسه».

في ذاك الزمن كان هامش الربح في بيع الدواء يصل إلى 70%، أي سبعين قرشًا بالليرة، وذلك بموجب التعرفة التي وضعتها الوزارة في العام 1950. وما أن أدرك تجّار الأدوية أن الوزير ماضٍ في خطواته لخفض أسعار الدواء حتى بادروا إلى طلب الاجتماع به في منزله، «وفي اللقاء مع وفدٍ منهم تمّ عرض مبلغ مالي على مخيبر لقاء ترك مسألة تسعير الدواء على حالها، فخرج من الاجتماع ليتصل بالشرطة والإبلاغ عن وجود من يحاول رشوة وزير في الحكومة اللبنانية وعاد إلى الاجتماع ليخبر الجميع بما فعله لتوّه»([2]) فتراجعوا عن عرضهم المالي واقتنعوا أن المواجهة مع الرجل خاسرة فأسقط مخيبر شكواه واقترح – من موقع قوّة – على المستوردين تخفيض الأسعار فاستمهلوه عشرين يومًا لكنه كان حازمًا في رفضه المماطلة.

وفي 6 أيار/مايو، قبل يومٍ من اغتيال الصحافي نسيب المتني كان «الحكيم» يعقد مؤتمرًا صحافيًا، من دون كلام سياسي، ويعرض فيه لـ«اكتشافاته» في مجاهل الأدوية ومن الحلول التي اقترحها على المستوردين وسبقها دعوة لهم إلى تخفيض الأسعار فاستمهلوا عشرين يومًا لكنه رفض وعرض عليهم حلولًا عدّة:

أولها، ترك سوق الأدوية حرًّا، وثانيها تأميم الأدوية خصوصًا الأدوية الضرورية لحياة الإنسان فرفضوا، أما ثالثها فجعل الأدوية خاضعة لنظام الحصر، أي أن يأتي المستوردون برؤوس أموالهم وتصبح لهم شركة على غرار شركة إدارة حصر التبغ فوعدوا بدرس الحلّ الأخير.

وبعد مرور أربعة أسابيع، من العمل الدؤوب على هذا الملفّ من دون ضجة أو تحدٍّ، قرّر مخيبر تخفيض أسعار الدواء بما نسبته 40% فردّ الصيادلة ملوّحين بإعلان الإضراب احتجاجًا على تخفيض أسعار الدواء واحتجاجًا على «استفزازات وزير الصحّة وتهديداته المتكرّرة بنشر التعرفة» فكان جوابه «إذا قرّرت نقابة الصيادلة إعلان الإضراب سيكون ردّي عنيفًا ولن أتأخّر عن ملاحقة الداعين إلى الإضراب أو المحرّضين عليه. وفور إعلان الإضراب سأعمد إلى الموافقة على فتح صيدليات جديدة وأترك عملية استيراد الأدوية والمتاجرة بها حرّة… لا التهديدات ولا سواها تقدر على الحؤول بيني وبين تحقيق ما وعدتُ به المواطنين من تخفيض أسعار الدواء ووضع حدّ للمأساة التي يعيشها المرضى في لبنان».

أحداث الـ1958

لكن المأساة الأكبر، هي حال الانقسام المرضي، العمودي والأفقي، في البلاد بين معارضةٍ مدعومة من «القاهرة» وموالاة مدعومة من «الغرب». فغداة اغتيال المتني صاحب جريدة “التلغراف” ليل 7/8 أيار/مايو، طالب نوابٌ الحكومةَ بالاستقالة وأعلنوا عن إضرابٍ عام كما شهد مجلس النواب مناقشات حادة وفي الثاني عشر من أيار/مايو استقبل الأمين العام للخارجية سفير الجمهورية العربية المتّحدة ليحيطه علمًا بأن وزير الخارجية قد أبرق إلى السفارة اللبنانية في القاهرة بتعليمات يطلب فيها تقديم احتجاج إلى وزارة خارجية الجمهورية المتّحدة على التدخّلات التي يُقدم عليها مسؤولون في الجمهورية العربية المتّحدة للتحريض وإثارة الفتن ويتضمّن الاحتجاج طلب الحكومة اللبنانية وقف أي تصرّفات تسيء إلى صلات الأخوّة بين البلدَين الشقيقَين.

القاهرة من جهتها رفضت الاحتجاج كما تمنّع وزير خارجيتها عمر فهمي عن تسلّم مذكّرة الاحتجاج من القائم بالأعمال اللبناني في القاهرة غالب الترك، وردّ صائب سلام أحد قادة الثورة على اتّهامات «الخارجية اللبنانية» نافيًا وجود علاقة للجمهورية المتّحدة بأحداث لبنان، وبلغت المواجهات ذروتها وأعلن الرئيس كميل شمعون عن رفع شكوى إلى الجامعة «وسنرفعها إلى مجلس الأمن ولن أدفع ثمن الاضطرابات الموجّهة من الخارج ولم أقل مرّةً أنني أريد تجديد الرئاسة ولا قلت إنني لا أريده… وعلى كلّ حال لن أطلب تعديل الدستور». فردَّ سلام «التجديد أساس المعركة».

وفي الرابع عشر من أيار/مايو 1958 بدت حكومة سامي الصلح عاجزة عن ضبط الأرض فعرض الرئيس شمعون على قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب تشكيل الحكومة بعد سقوط أكثر من 250 قتيلًا وجريحًا في خمسة أيام، لكن الأخير تريّث بقبول العرض. وفي اليوم نفسه اجتمع أمين عام الخارجية بالوكالة السفير محمد علي حمادة (والد الوزير السابق مروان حمادة) مع السفير عبد الحميد غالب مرّتَين. وبعد أسبوعٍ التقى الرئيس شمعون الصحافة العالمية وأبلغها بشكوى لبنان إلى الجامعة العربية (قدّمها السفير توفيق يوسف عوّاد) ومجلس الأمن ويؤكّد أنه لن يدفع ثمن الاضطرابات الموجّهة من الخارج، وقالها بصريح العبارة «لن نكون من أتباع سياسة الجمهورية المتّحدة».

اِهتزت حكومة العهد الأخيرة ولم تقع مع استقالة وزير الدفاع الوطني رشيد بيضون في 22 أيار/مايو وتلاه بعد 24 ساعة وزير البرق والبريد والهاتف بشير العثمان ولاقاهما وزير العدل بشير الأعور فاستقال «برقيًا» من روما ولم يؤخذ باستقالته، وصمد مخيبر مع الصامدين في الحكومة يقوم بواجباته تجاه مواطنيه ويعمل على تأمين الأدوية. «مرّة بالليل اتّصلوا بي من طرابلس وهم بحاجة الى أدوية. اِتّصلت بالسائقين فرفضوا بحجّة الخوف من الأوضاع، قلت لهم إنني أنا سآخذ السيارة الى طرابلس. فمنعوني وذهبوا لإيصال الأدوية. أعطيتُ المثل الصالح كوزير صحّة للمواطنين»([3]) لكن صحّة الوطن كانت تحتاج لعلاجٍ مختلف.

ومع ازدياد الأوضاع سوءًا وارتفاع المتاريس بين المواطنين وانغماس لبنان تدريجًا في حربٍ أهلية «تقدّمت الحكومة اللبنانية بشكوًى لدى مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية المتّحدة متّهمةً إيّاها بمساعدة الثوار وبالتدخّل في الشؤون الداخلية اللبنانية، فأرسل مجلس الأمن فريقًا من المراقبين للتأكّد من صحّة الشكوى، وجاء تقريرهم لا يُؤكّد ولا ينفي وجود التدخّل»، فردَّ وزير الخارجية بالوكالة ببيانٍ اتّسم بالحدّة عرض فيه ملاحظاته على عمل المراقبين وتحديد شواهد تؤكّد على التدخّل وتزويد الثوار بالأسلحة.

مخيبر: «مرّة بالليل اتّصلوا بي من طرابلس وهم بحاجة الى أدوية. اِتّصلت بالسائقين فرفضوا بحجّة الخوف من الأوضاع، قلت لهم إنني أنا سآخذ السيارة الى طرابلس. فمنعوني وذهبوا لإيصال الأدوية. أعطيتُ المثل الصالح كوزير صحّة للمواطنين»

شمعون يستنجد بأميركا

وفي بداية تموز/يوليو طردت الحكومة سبعةً من موظّفي سفارة الجمهورية العربية المتّحدة، وجميعهم مصريون وتمّ إبلاغهم بأنهم غير مرغوب ببقائهم في لبنان لدورهم في الاتّصال بعناصر الشغب والفتنة وأعطوا مهلةَ 48 ساعة للخروج من الأراضي اللبنانية. وكان مخيبر حريصًا على تطبيق القرار الحكومي من دون تباطؤ. فالسيادة خطّ أحمر ولا يمكن لأيٍ كان تجاوزه. وكان العهد حريصًا على استنفاد كلّ الوسائل الديبلوماسية قبل استعمال الخرطوشة الأخيرة، فبعد شكويَين إلى مجلس الأمن والجامعة العربية، لم يؤدّيا إلى أي نتيجة، طلب الرئيس شمعون تدخّل أميركا العسكري والذي حدّد أسبابه بخمسة هي:

  • المساعدة التي تقدّمها جهات خارجية للثوار.
  • إن الشكوى إلى جامعة الدول العربية لم تعطِ أي نتيجة.
  • إن مراقبي الأمم المتّحدة لم يقوموا بأيِّ عمل.
  • إن مجلس النواب أعطاني – والقول منسوب لشمعون – في جلسته المنعقدة في 16/1/1958 تفويضًا بالقيام بأيِّ عمل يضمن استقلال لبنان وسيادته «وترك له حريّة اختيار الظرف المناسب للتنفيذ”.
  • إن قيام الثورة في العراق في 14 تموز/يوليو 1958 كان من شأنه تشجيع الثوار على الاستيلاء على الحكم في لبنان”.

وهنا، يقول شمعون، استدعيتُ سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا وطلبت تدخّل الأسطول السادس. لم تستجب واشنطن في البدء لطلب شمعون بإنزال قوّات البحرية الأميركية، ولكن قيام ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958 في العراق وسقوط النظام الملكي، جعل واشنطن تستجيب لطلب الرئيس شمعون وأنزلت قوّات المارينز على شواطئ بيروت.

إقرأ على موقع 180  جيل فلسطيني جديد.. أكثر تجذراً وإقتحاماً

وفي الساعة الثانية من بعد ظهر الثلاثاء 15 تموز/يوليو، رست على مسافة قريبة من الشاطئ اللبناني تسع قطع حربية تابعة للأسطول السادس الأميركي، وخرج منها 16 زورقًا الى آليات ومصفّحات ودبّابات برمائية، محمّلة خمسة آلاف من جنود مشاة البحرية. بدا الإنزال الأميركي بمثابة طوق عسكري غربي يوقف تمدّد الشيوعية والناصرية الى بلدان الجوار العربي بعد نجاح الانقلاب في العراق.

وفي 21 تموز/يوليو، طلبت الحكومة اللبنانية إبعاد السفير عبد الحميد غالب الذي وصفه النائب إميل بستاني «بأنه يمثّل حكومته لدى المعارضة اللبنانية وليس لدى الحكومة».

وفي الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر 23 تموز/يوليو، استدعى الأمين العام لوزارة للخارجية إلى مكتبه السيد عبد الحميد غالب لإبلاغه قرار مجلس الوزراء بإبعاده عن الأراضي اللبنانية، ولسببٍ ما تولّى وزير الخارجية بالوكالة ألبير مخيبر إبلاغه القرار وقد استقبله وقوفًا لكي لا يترك مجالًا للأخذ والردّ.

وذكرت وكالة الأنباء العربية أن المقابلة استغرقت دقيقة واحدة وذكرت مصادر مقرّبة من السفارة العربية المتّحدة لصحيفة النهار أن السفير (غالب) قدّم احتجاجًا شفهيًا شديد اللهجة إلى الأمين العام للوزارة الأستاذ فكتور خوري بسبب تصرّف الحكومة اللبنانية وإقدامها على إذاعة نبأ الإبعاد قبل أربعة أيام من حدوثه.

ونسب إلى وزراء اتّصالهم ببعض الصحف يوم السبت وإبلاغه قرار مجلس الوزراء، ثم تكرّر الاتّصال يوم الإثنين مع الإلحاح بوجوب إبراز النبأ ونسبت إحدى وكالات الأنباء إلى الدكتور ألبير مخيبر، المتولّي أعمال وزارة الخارجية تصريحًا جاء فيه، أن الأستاذ محمد علي حمادة أبلغ السفير تمنيات الحكومة في أن يكون أول سفير لبلاده بعد زوال الحكم الحالي في مصر.

غير أن موقفًا صدر عن الدكتور مخيبر ينفي فيه التصريح المنسوب إليه جملة وتفصيلًا ويقول إنه مختلق من أساسه، ويظنّ أن بعض موظّفي الخارجية ذوي المقاصد المعلومة هم الذين أدلوا بالتصريح نيابة عن الدكتور مخيبر.

عهد حلو ليس حلوًا

اِنتهى العهد الشمعوني، وبدأ عهد اللواء الأمير (فؤاد شهاب)، فغاب مخيبر عن المشهد الحكومي، ونشط برلمانيًا بشكل لافت للإنتباه، وبين البرلمان والطبّ والشأن العام وجد «الحكيم» متعةً في إنشاء مزرعة أبقار في منطقة «العشاري» القريبة من بيت مري، بالتعاون مع أخيه أديب، وتمتلك عيلة مخيبر في «العشاري» أراضٍ حرجية وكانت ملجأها إبّان أحداث 1860.

رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي توجّه إليه في جلسة الثقة «أنه، أي مخيبر، مسؤول بلا مكتب» فأجابه الوزير: إن الرجل من يصنع الكرسي، ولكن الكرسي لا تستطيع أن تخلق الرجال

كانت «العشاري» ساحة استراحة مع الطبيعة والهدوء ومتابعة شؤون بقراته وقد بلغ عددها الأربعين، قد أطلق على كلٍّ منها اسمًا وحضر وضعها لعجولها كما ضمّت المزرعة رؤوس ماعز وطيور بط وأوز. المزرعة شغفه الآخر، وفيها كان يعقد اجتماعات سياسية، وعلى الرغم من الخصومة الموصوفة مع العهد الشهابي، فقد حافط مخيبر على صداقات ثابتة مع رجال النهج، وأقربهم إليه جان عزيز.

ولم يكن عهد شارل حلو، حلوًا على «الحكيم»، وبعد انتخابات العام 1972 عاد ألبير مخيبر وزيرًا في حكومة الرئيس صائب سلام (27 أيار/مايو 1972 حتى 25 نيسان/ابريل 1973) بثلاث حقائب وهي التصميم العام والإعلام والإسكان والتعاونيات إلى منصب نائب لرئيس مجلس الوزراء. والملفت للنظر أن رئيس مجلس النواب السابق صبري حمادة تولّى حقيبة الأشغال العامة والنقل!

أما بما خصّ «شؤون التعاونيات والإسكان” التي أسندت إلى مخيبر كوزارة دولة فقد جاء من ينتقد تلك الوزارة الـ«قيد التكوين» ويشجّعه على رفض الحقيبة باعتبار أن لا صلاحيات فيها، حتى أن رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي توجّه إليه في جلسة الثقة «أنه، أي مخيبر، مسؤول بلا مكتب» فأجابه الوزير: إن الرجل من يصنع الكرسي، ولكن الكرسي لا تستطيع أن تخلق الرجال ويتابع مخيبر «أجمل ما سمعته قول الرئيس كرامي أن لا مكتب لي وقد تُرجم قوله على صعيد الرأي العام إلى عطف ومحبّة، أنا أفخر أن وزارتي محرومة كالناس الذين أعمل لهم، وأرى من حقّهم أن يجلسوا على الكراسي قبل النواب والوزراء. أن دورنا يأتي بعدهم (…) في كلّ دول العالم وزارة إسكان ولبنان كان متخلّفًا وواجب عليه أن يسير متوازيًا مع رسالته فينزع فورًا إلى سياسة الإنسان الكلّية الشاملة التي أصبحت في يومنا هذا فوق الإيديولوجيات وفوق اليسار واليمين، وأصبحت في العالم كلّه تيّارات تستهدف سعادة الإنسان طارحةً جميع الاعتبارات الأخرى، سعادة الإنسان المتعدّد الأبعاد»([4]) سعادة الإنسان؟! كلام غريب في قاموس السياسة اللبنانية!

أُجريت على الحكومة السلامية عمليات «توسعة» و«تعديلات» فبعد شهرَين من تشكيلها، خرجت حقيبة الإعلام من يد مخيبر وذهبت إلى النائب خاتشيك بابكيان وأُسندت وزارة التصميم العام إلى نائب البترون جورج سعاده، كما تقدّم الوزير إدوار حنين في شهر آب/أغسطس باستقالته لأسبابٍ تتعلّق بالسياسة التربوية ووجود مدارس خاصة إلى جانب المدارس الرسمية والمنافسة بين السياسة التربوية الأنكلو-ساكسونية والسياسة التربوية اللاتينية وما ينشأ عن هذه المنافسة من اختلاف في وجهات النظر على صعيد المدارس ووزارة التربية نفسها وكذلك مشكلة توحيد مناهج التعليم.

في ما مضى لم يكن الوزراء متمسّكون بكراسيهم وإن استقالوا فلأسباب واضحة لا لكونهم بيادق في أيدي أولياء أمرهم. بعد استقالة حنين رشّح العميد إدّه «حليف الكتلة»، ووزير التربية الوطنية بالوكالة ألبير مخيبر للحلول أصيلًا في «التربية» لكن فرنجيه آثر تعيين الوزير هنري إدّه ثم أقاله لاحقًا بناءً على اقتراح رئيس الحكومة، في سابقةٍ حكومية. فتولّى ألبير مخيبر وزارة التربية بالأصالة، بعد أن آلت إليه بالوكالة.

اِستقالت حكومة سلام، فخلفتها حكومة موسّعة برئاسة تقي الدين الصلح (8 تموز/يوليو 1973) ضمّت 4 وزراء دولة هم جوزف شادر، علي الخليل، مجيد إرسلان وألبير مخيبر، دام عمر حكومة الصلح خمسة عشر شهرًا. بعدها لا الصلح عاد إلى السراي ولا مخيبر عاد إلى الوزارة؛ المعارضة تشبهه أكثر! 

إغتيال غسان كنفاني

ولعلّ الحدث الأمني الأبرز الذي واجهته حكومة صائب بك كان اغتيال عضو المكتب السياسي في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” الروائي والصحافي الفلسطيني غسّان كنفاني في 8 تموز/يوليو 1972 بواسطة تفجير سيارته وذلك بعد 39 يومًا على عملية اللد (20 أيار/مايو 1972). كانت الساعة جاوزت الحادية عشرة قبل الظهر بقليل، فسمع الجيران انفجارًا هائلًا مزّق غسّان وابنة شقيقته لميس نجم البالغة من العمر 17 سنة، وكان شقيقه سيذهب معه من الحازمية إلى بيروت لكنه نسي فرشاة أسنانه في المنزل فعاد ليحضرها فوقع الانفجار. ووُجد في مكان الحادث رسم شمعدان وعبارة باللغة الإنكليزية «مع تحيات السفارة الإسرائيلية في كوبنهاغن»!

وظهر يوم الاغتيال وصل صائب بك وعائلته إلى مطار بيروت للتوجّه إلى إيطاليا في رحلة استجمام تقوده إلى بحيرة كومو، وكان في وداعه الدكتور ألبير مخيبر ووزير الداخلية بالوكالة جميل كبّي وصرّح سلام في المطار «كلّ مرة أترك لبنان أترك قلبي فيه لكن الضرورة الصحّية تتطلب أن أترك مهمّاتي فترة من الزمن وليس أدلّ على اطمئناني إلى استقرار لبنان من مغادرتي بلدي العزيز في هذا اليوم بل أقول ربما كان في ذلك خدمة وطنية إذ يعطي هذا انطباعًا للجميع بأنه لو لم يكن هناك اطمئنان كامل إلى استقرار الوطن لما تركت بلدي يومًا واحدًا».

عندما كان الرئيس سلام يهمّ بمغادرة صالون الشرف متوجّهًا إلى الطائرة همس المدير العام لقوى الأمن الداخلي هشام الشعّار في أذن رئيس الحكومة ناقلًا إليه خبر اغتيال كنفاني. تجهّم وجه سلام وطلب إلى كبّي بصفته وزيرًا للداخلية بالوكالة وإلى الشعّار التوجّه إلى مكان الحادث ومتابعة سير التحقيق. وقيل لصائب بك أليس من الصعب أن تسافر وتترك وراءك هذا الجو المتفجّر؟ فكان جوابه: «البركة بالحكيم».

ولأول مرّة في تاريخ لبنان، لا بل إنها المرّة اليتيمة التي يمارس فيها نائب رئيس الحكومة مهام رئيسه لمدّةٍ ناهزت الثلاثة أسابيع لم تغب فيها القرنفلة البيضاء عن مكتب رئيس الحكومة، وقد نشرت صحيفة “النهار” كاريكاتوراً في عددها الصادر في 10 تموز/يوليو 1972 بريشة بيار صادق، وفي الرسم الدكتور مخيبر يهاتف «إهدن» وأمامه على الطاولة صورة صائب بك معتمرًا الطربوش مع السيكار والقرنفلة والطربوش: ألو أهدن هون الوكالة اعطونا الوكيل.

«حين سافر صائب سلام أخذتُ مكانه كرئيس حكومة بالصفات كافة. اِستعملتُ صلاحياتي كافة لحين عودته. الأجواء السياسية كانت أفضل بكثير في ظلّ رفض رجال السياسة أن يأخذ نائب الرئيس موقع الرئاسة الثالثة».([5]) وحتى الثانية!

سافر صائب بك يوم الأحد. باشر الدكتور مخيبر مهامه ومسؤولياته يوم الإثنين كرئيس حكومة بالوكالة وعقد ندوةً صحافية تناول فيها بشكل أساسي اغتيال غسان كنفاني وقيل له «إن الوزراء عندما يتسلّمون وزارات بالوكالة يقتصر نشاطهم على تصريف الأعمال الروتينية”، فعلّق «أنا أقوم بالعمل كرئيسٍ للحكومة».

واجه مخيبر تداعيات اغتيال كنفاني بكثيرٍ من المسؤولية والوضوح، ولم تكن هناك مضاعفات محلية كما خشي البعض لكن التصعيد جاء من مصر، ومن صحيفة “الأهرام” بالذات المناصرة للعمل الفدائي.

اِستقالت حكومة سلام، فخلفتها حكومة موسّعة برئاسة تقي الدين الصلح (8 تموز/يوليو 1973) ضمّت 4 وزراء دولة هم جوزف شادر، علي الخليل، مجيد إرسلان وألبير مخيبر، دام عمر حكومة الصلح خمسة عشر شهرًا. بعدها لا الصلح عاد إلى السراي ولا مخيبر عاد إلى الوزارة؛ المعارضة تشبهه أكثر! 

(*) كتاب “ألبير مخيبر”، صادر عن دار سائر المشرق 2022.

المصادر والمراجع:

[1]– ضمت «القوّة الثالثة» يوسف سالم، بيار الجميّل، هنري فرعون، شارل حلو، غسّان التويني، الدكتور يوسف حتّي، بهيج تقي الدين، جورج نقّاش، محمّد شقير، جان سكاف، غبريال المرّ ونجيب صالحة، وانسحب منها لاحقًا الجميّل وحلو.

[2]– من لقاءٍ مع سليم مخيبر.

[3]– من برنامج «حوار العمر» مع جيزيل خوري.

[4]– من حديثٍ إلى مجلّة الجمهور 27 تموز 1972.

[5]– من برنامج «حوار العمر».

Print Friendly, PDF & Email
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  البابا يستعد لزيارة سوريا.. والموعد "سيكون مفاجئاً"!