أدّت الجغرافيا السياسية دوراً رئيساً في رسم السياسات الخارجية للجزيرة العربية، وللسعودية بصورة خاصة. فهي أراضٍ قاحلة واسعة، تُطلّ على البحر الأحمر والخليج، ومن الجنوب هناك عُمان واليمن اللذان يشكّلان حاجزاً مانعاً لوصول المملكة إلى بحر العرب. والصلة الوحيدة لها، عبر البَرّ مع شمال أفريقيا وآسيا وأوروبا، هي طريق “بلاد الشام” و”بلاد الرافدين” (“الهلال الخصيب”)، اللذين شكّلا الاندفاعات المتتالية لسكان نجد والحجاز، قبل الإسلام، ومعه، وبعده.
أغلبية هذه الاندفاعات كانت في سياق إعادة تشكيل المنطقة وفقاً لرؤى المناطق القاحلة الجافة، وما تتركه من آثار في بنية العقل السياسي، وسلوكه المتوقَّع. وغالباً ما تأخذ بُعداً عُدَّ “تدميرياً لحضارات الهلال الخصيب ودوله”، لكن القوى الإمبراطورية لوادي النيل وهضبة الأناضول والهضبة الإيرانية، كانت السد الأساسي لمنع وصول هذه القوة الصحراوية إلى تحقيق أهدافها الكبرى. وشهدنا ذلك في دور مصر (في عهد محمد علي باشا) وهضبة الأناضول (أيام حُكم العثمانيين) في القضاء على تحالف محمد بن عبد الوهاب والسعوديين، مطلع القرن التاسع عشر. وأدّت بريطانيا دوراً أساسياً في تحجيم دور المملكة الجديدة عام 1922، مع كل من العراق والأردن، لضبط حدود اللعبة في هذه الدول الثلاث.
لم يكن هذا هو الهاجس الوحيد لدى المملكة الجديدة لآل سعود. فبالإضافة إلى هواجسها من الدول الإقليمية الكبرى، فإن قلقها يمتدّ إلى الخوف من إمكان اللقاء بين العراق وسوريا، وما يعنيه ذلك من وحدة “الهلال الخصيب” بأكمله، وهو الذي يستطيع وحده حجز الاندفاعات الصحراوية ضمن حدودها. وهذا ما دفع عبد العزيز آل سعود إلى التشديد على أبنائه بشأن ضرورة العمل على عدم لقاء العراق وسوريا.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من إطلالتها الواسعة على البحر الأحمر والخليج، فإن مملكة آل سعود تفتقد السيطرة على مضيقَي باب المندب وهرمز، الأمر الذي يجعلها تحت رحمة القوى المسيطرة على المضيقين اللذين يشكّلان التهديد الأكبر لتدفقات النفط، هذه المادة التي تمثل أكثر من 90% من مصادر دخل المملكة. وهذا يفسر لنا مجمل السياسات المتَّبَعة في اليمن، وصعود أنصار الله، الذين تربطهم علاقة استراتيجية بمحور طهران ـ دمشق ـ بيروت، وإشرافهم على طرق التجارة العالمية في البحر الأحمر، كما يفسر لنا السعي الكبير للسيطرة على شبوة، وتمرير أنابيب النفط إلى بحر العرب.
كان للحرب في أوكرانيا دور كبير في تصعيد مستوى الصراع الدولي، مع استمرار المأساة السورية وتوسعها، وارتفاع مستوى الضغوط المعيشية والاقتصادية على الأغلبية العظمى من السوريين، نتيجة أسباب داخلية وخارجية، ما شكَّل فرصة جديدة لعودة التشدد السعودي تجاه سوريا مجدداً، بعد إشعارات إيجابية سابقة، بشأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وافتتاح سفارة الرياض في دمشق
انطلاقاً من هذه الهواجس والمخاطر، يمكننا أن ندرك كيف يتعامل العقل السياسي لقاطني الجزيرة العربية، في نسختها السعودية، مع أزمات المنطقة وصراعاتها. فعلى الرغم من احتوائه مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر، فإن القلق من مصر لم يتوقّف، الأمر الذي أدى إلى حصر سياسات المملكة بشأن مصر في تنفيذ ما تقتضيه خدمة السياسات الأميركية والإسرائيلية، والإبقاء على مصر بين الموت والحياة، مسلوبة الإرادة والدور، وكذلك الأمر تجاه تركيا الأناضول، التي شكلت عبر تاريخها تهديداً لطموحات الجزيرة العربية. الأمر نفسه بالنسبة إلى إيران، التي استطاعت الوصول إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وحقّقت وجوداً ونفوذاً لا يستهان بهما، في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، تاريخاً وحاضراً، الأمر الذي أغلق على السعودية الممر البرّي الوحيد مع العالم، على الرغم من علاقتها المميزة بالولايات المتحدة.
انخرطت المملكة، بصورة واسعة، في الحربين السورية والعراقية، بعد تردد واضح عام 2011، وخصوصاً في سوريا، لكنها سرعان ما حسمت أمرها، ورأت أن الفرصة لن تتكرر، لتثبيت وقائع نظام إقليمي جديد، يكون لها فيه الدور الإقليمي الأبرز بعد “إسرائيل”، على أمل هزيمة محور كامل في غربي آسيا، وهو المحور الذي له القدرة على الوصول إلى شانغهاي في بحر الصين شرقاً.
لم يكن هذا التدخل الواسع في الحرب السورية، وفي الحرب العراقية من قبل، بالأمر المُيسّر للمملكة، فهي دخلت كواحدة من الدول الفاعلة في غرفة الموك، التي قادت الحرب في وسط سوريا وجنوبها وشرقها، تحت الإدارة الأميركية المباشرة، بل كان الأمر شديد التعقيد، وغير قابل للتعيين النهائي، وخصوصاً بعد التدخل المباشر من إيران وروسيا بدعوةٍ من دمشق، وما ترتّب على ذلك من قلب لمسار الحرب بصورة غير مكتملة.
كان للحرب في أوكرانيا دور كبير في تصعيد مستوى الصراع الدولي، مع استمرار المأساة السورية وتوسعها، وارتفاع مستوى الضغوط المعيشية والاقتصادية على الأغلبية العظمى من السوريين، نتيجة أسباب داخلية وخارجية، ما شكَّل فرصة جديدة لعودة التشدد السعودي تجاه سوريا مجدداً، بعد إشعارات إيجابية سابقة، بشأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وافتتاح سفارة الرياض في دمشق، لتطل السعودية، من جديد، على المشهد السوري، من على منبر الأمم المتحدة، على لسان وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، داعيةً إلى “حلّ سياسي، وفق القرار 2254″، ثم عبر ما أطلقه وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بشأن “مبادرة عربية لحل سياسي في سوريا، وفقاً للقرار السابق والقرار 2642”.
لم يكن هذا التوجه الجديد للمملكة، التي تقود هذا الخيار، إلا تعبيراً عن الهواجس السعودية، خشيةً من الاتفاق الثلاثي الذي عُقد في طهران بين روسيا وتركيا وإيران، في 19 تموز/يوليو الماضي، وبعده اجتماع الرئيسين الروسي والتركي في سوتشي في 5 آب/أغسطس. وفي هذين الاجتماعين تحركت عربة اللقاء السوري التركي، في خطواتها الأولى، تحت الإشراف الروسي، الأمر الذي شكَّل ضغطاً على العقل السياسي السعودي، خشيةً من نجاح هذه الاتفاقات، التي يمكن لها، إذا ما وصلت إلى نهاياتها، أن تقلب موازين المنطقة بأكملها، عبر نظام إقليمي جديد، سينعكس سلباً على الدور الإقليمي للسعودية.
الأمر الآخر الدافع لهذه المبادرة الجديدة، هو الإرادة الأميركية القاضية بعدم السماح للقاءات المشتركة السابقة بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، لأن واشنطن بذلك ستخسر كامل منطقة غربي آسيا، التي ستصبح فيها الطرق مُعبَّدة من شرقي البحر الأبيض المتوسط حتى بحر الصين، ومن أوراسيا إلى الهند.
وهنا، تلاقت مصالح الأميركيين ومصالح الجانب السعودي، على “ضرورة إغراء سوريا بحل سياسي، وفقاً للقرارين السابقين، عبر تفسير يتيح استمرار النظام السياسي، مع بعض التعديلات غير الجذرية، بما يُوجد مخرجاً لدمشق وللجميع، في مقابل رفع الشرعية عن الوجود العسكري لكل من إيران وروسيا في سوريا”.
ومن الطبيعي هنا ألّا تتجاوب دمشق مع هذا الانفتاح العربي الموعود، وهي التي اختبرته منذ تأسيس سوريا الحالية عام 1920، وفي كل المرحلة الممتدة من بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، بالإضافة إلى أن القرارين الدوليين يُتيحان تفسيراً أميركياً لنهاية مرحلة بأكملها. وتبقى العلاقة بموسكو وطهران هي الضمانة لدمشق، وهي لن تذهب إلى الانفتاح على المبادرات العربية وغيرها، إلّا بضمانة هاتين العاصمتين، ومن خلفهما بكين.
(*) بالتزامن مع “الشروق“