أوروبا والفاتيكان لموارنة لبنان: حذار “الإلغاء المتبادل”

كيف تبدو صورة المشهد الرئاسي اللبناني من زاوية المنظار الفرنسي ـ الأوروبي ـ الفاتيكاني المتابع للمستجدات الداخلية والمواكب للمتغيرات الدولية والإقليمية؟

!”Hier c’était presque idyllique. Aujourdhui cest devenu consternant et hallucinant”

“برغم كل مظاهر الحرب وبشاعتها كان الوضع في لبنان بالأمس شبه رائع، أما اليوم فقد أصبح مذهلاً ومخيفاً ومرعباً”!.

هكذا وصف ديبلوماسي فرنسي عتيق عاش في بيروت خلال ما عرفت بـ”حرب السنتين” (1975 ـ 1976) في بداية الحرب اللبنانية وواكب ويلات القصف والقنص والخطف، ومن ثم تابع مرافقة أحداث هذا البلد من خلال مختلف المواقع الديبلوماسية التي تسلمها وآخرها كان لها علاقة بلبنان والشرق الأوسط. وهو أراد بهذه الكلمات التعبير عن شعوره بمدى خطورة الأوضاع اللبنانية وعمق الأزمات المتعددة التي يمر بها هذا البلد والتي “تُهدّد مستقبل وجوده وتركيبته وتُعرّض مصير شعبه إلى الضياع والتشتت”.

في ظل أجواء القلق التي أعقبت إنتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وتعثر عملية انتخاب خلف له، كيف يبدو المشهد اللبناني الرئاسي من باريس وبروكسيل وروما؟

تجمعت في الأيام الماضية معلومات مصدرها أكثر من عاصمة أوروبية وجرى التداول بها بين باريس وبروكسيل وبين عدد من الشركاء الأوروبيين والتشاور مع بعض الحلفاء الغربيين في مقدمهم الولايات المتحدة وجرى العمل بصمت لاقتراح أكثر من مسار قد يُساعد في إيجاد مخرج سياسي ما يساهم في بدء إطلاق ورشة الإصلاح كمعبر إلزامي للسير في خطة التعافي المالية والاقتصادية علها تساعد في الحد من تفاعلات الأزمة الإجتماعية الحادة والمتنوعة التي يواجهها لبنان “المُهدد بمسار انحداري خطير”.

باشر أصحاب هذا التصور بالعمل على تعبيد الطريق أمام وصول قائد الجيش العماد جوزف عون وتأمين انتقاله من اليرزة إلى قصر بعبدا بعد إزالة العوائق المتعددة أمام موكبه الرئاسي. وقد سعى أصحاب هذا التصور إلى التحرك على أكثر من خط. الأول والأساس كان في اتجاه الضاحية الجنوبية المتحفظة على هذا الخيار

انطلق التصور الفرنسي – الأوروبي – الغربي من عدة معطيات أبرزها الآتي:

أولاً؛ عمق الانقسام عامودياً بين صفين سياسيين لبنانيين من جهة، وشدة الاختلاف أفقياً داخل الصف الواحد من جهة أخرى، إضافة إلى صعوبة بروز أكثرية نيابية واضحة تؤمن الغلبة لفريق لوحده.

ثانياً؛ التباعد الفاضح بين أبرز المرشحين الرئاسيين المارونيين حيث بدت معاركهم أشبه بـ”معارك إلغاء متبادلة” بين مرشحين أربعة (سليمان فرنجية، جبران باسيل، سمير جعجع، ميشال معوض) ينتمون الى الطائفة نفسها (المارونية) والى المنطقة ذاتها (الشمالية).

ثالثاً؛ عدم قدرة هؤلاء المرشحين الأربعة من عقد تحالفات في ما بينهم من خلال تأمين فوز أحدهم، بل إنهم مصممون على خوض معركة “آحادية شخصية أنانية”. كما أنه من الصعب على كل منهم جمع “أقل فيتوات على إسمه”.

رابعاً؛ صعوبة التوصل إلى “مرشح توافقي” نظراً لغياب “الرجل المعجزة” الذي يتمتع في الوقت نفسه بالمواصفات الخلقية والوطنية والخبرة المطلوبة والثقل السياسي اللبناني والتأييد العربي والدولي، ذلك أن مرشحي الصف الثاني “لا طعم ولا لون ولا مصداقية حقيقية لهم” بل هم يتوزعون بين رجال مال وأعمال ووزراء سابقين “مغمورين ومتلونين ومموهين ولا يتمتعون بحيثية فاعلة”.

خامساً؛ أجواء دولية متوترة وخلط أوراق إقليمية وعدم وجود بيئة إقليمية أو دولية قادرة على إنضاج ظروف تسوية لبنانية ما.

سادساً؛ التخوف الجدي من “الشغور السياسي الكامل” مع فوضى اقتصادية ـ مالية ـ إجتماعية من شأنها زعزعة الإستقرار الهش وخطورة استغلال أكثر من جهة خارجية هذا الوضع كل منها لحساباتها وأجنداتها الخاصة. إضافة إلى خطر فلتان الهجرة غير الشرعية عبر البحر في اتجاه الشواطىء المتوسطية.

سابعاً؛ عدم اتضاح الأفق والدخول في مرحلة يكتنفها الغموض وتتقاذفها كل الإحتمالات بحيث تُعرّض لبنان وللمرة الأولى منذ مائة سنة إلى خطر يُهدّد في الوقت نفسه “مستقبل وجود الكيان في صيغته الحالية وبقاء الشعب وتماسكه”.

السيناريو الأول

انطلاقاً من المعطيات السابقة، برزت الحاجة إلى “رئيس انتقالي” يمتلك الحد الأدنى من المواصفات على أن تكون أبرز مهمات خارطة طريقه: إدارة الأزمة، الإمساك بالوضع الأمني وضمان الإستقرار (منع تدفق النازحين واللاجئين في قوارب الموت نحو الشواطىء الأوروبية)، إعادة لملمة الإدارات، استرجاع بعض من الهيبة المفقودة إلى المؤسسات وتفعيل عملها، تحريك عملية الإصلاح والنهوض، إعطاء إشارة أمل ضرورية للداخل ورسالة ثقة إلى الخارج.

وبناءً على ما تقدم، باشر أصحاب هذا التصور بالعمل على تعبيد الطريق أمام وصول قائد الجيش العماد جوزف عون وتأمين انتقاله من اليرزة إلى قصر بعبدا بعد إزالة العوائق المتعددة أمام موكبه الرئاسي.

وقد سعى أصحاب هذا التصور إلى التحرك على أكثر من خط. الأول والأساس كان في اتجاه الضاحية الجنوبية المتحفظة على هذا الخيار. فبدأ الجهد لتأمين “الالتزامات والضمانات” المطلوبة التي تريح “حزب الله” وتزيل أسباب التخوف من هذا الخيار.

أما الخط الثاني، فكان خط ميرنا الشالوحي من خلال وعد النائب جبران باسيل بالنظر في كيفية معالجة موضوع العقوبات الأميركية المفروضة عليه مقابل تسهيل هذا الخيار.

إلا أن إقدام “القوات اللبنانية” على تبني هذا الخيار وإعلان ترحيبها به أحدث “نقزة” لدى قيادة حزب الله فعاد التخوف من تكرار “التجربة المريرة” مع الرئيس السابق ميشال سليمان. من هنا عاد الكلام عن تمسك الحزب بخيار رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية كمرشح “مضمون” داخلياً و”مقبول” خارجياً.

إقرأ على موقع 180  عبد اللهيان أول الخامنئيين على رأس الخارجية الإيرانية

السيناريو الثاني

إعادة طرح التصور الذي سبق وألمح إليه الرئيس ايمانويل ماكرون خلال زيارته إلى بيروت قبل أكثر من عامين وهو التوصل إلى عقد إجتماعي جديد يأخذ في الاعتبار المستجدات المتعددة التي واكبت مرحلة ما بعد اتفاق الطائف. صحيح أن السعودية التي عادت بحضور متحرك من باب البيان الثلاثي الوزاري الثلاثي السعودي ـ الفرنسي ـ الأميركي مع التمسك بتعويم صيغة اتفاق الطائف، إلا أن المتغيرات ستفرض إن لم يكن تعديل بعض مضمونها فأقله تطوير بعض ما جاء فيها. وهنا يكمن التخوف الأوروبي والفرنسي خصوصاً من أن يتم ذلك على حساب المكوّن المسيحي (والملاحظ تفادي استعمال كلمة “مؤتمر تأسيسي” وخيار “المثالثة” نظراً لحساسية هذه العبارات ليس فقط لدى الشريحة المسيحية في المجتمع اللبناني بل أيضاً لدى مختلف الشرائح الأخرى).

والبحث يتناول إيجاد “الجهة الخارجية الحاضنة” لأن هكذا مبادرة بحاجة ليس فقط إلى دولة خارجية تمتلك امكانات “الضيافة” بل تمتلك أيضاً وسائل “الرعاية” المتعددة الوجوه لتأمين ظروف وشروط عقد مثل هذا اللقاء اللبناني الموسع. لذلك ثمة توجه إلى حشد أوسع تأييد لمثل هذا التصور من أوروبي إلى أميركي إلى سعودي مروراً بالفرنسي (الأكثر إهتماماً وتحركاً)، وفي حال تم التوصل إلى هذا التصور الجديد فسيكون بمثابة المدخل الجدي “لإعادة ترسيم منهج حكم جديد تتفاعل من خلاله مكونات المجتمع اللبناني في إطار إداري وتنظيمي يحترم ممارسة التعددية على الأرض ويسمح لها بتنمية مناطقية ذاتية في إطار كيان ثابت، متماسك، موحد وجامع”.

السيناريو البديل

تلازماً مع عملية استمزاج الآراء وتكثيف التشاور حول إحتمال اعتماد أحد السيناريوين السابقين، برزت فكرة التوصل إلى “تسوية مزدوجة” تتناول في الوقت نفسه التوافق على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المقبلين بشكل يضمن أوسع تأييد داخلي وخارجي يحظى برضى البعض ويُطمئن البعض الآخر. ولكن يبدو أن هذا الطرح لم يأخذ مداه بعد.

كل هذه السيناريوات وغيرها موجودة على الطاولة ويبدو أن لا شىء جدياً محسوماً حتى الآن. الخياران الأولان هما في خانة “الخيارات الإستراتيجية” في حين أن الخيار الثالث هو من ضمن “الأفكار التكتيكية”.

والأكيد أن التريث هو صفة المرحلة الحالية والمعنيون يحتفظون بأوراقهم وهناك قناعة أن “لا هدايا مجانية” وأن دقة الأوضاع الدولية مع ما تحمله من متغيرات إقليمية سيكون لها الكلمة الفصل حيث أن موضوع انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية لن يكون منعزلاً عن تفاعلاتها.

وجهت هذه الدوائر أكثر من رسالة مباشرة وغير مباشرة إلى المراجع السياسية والكنسية المسيحية في لبنان مبدية امتعاضها الشديد من سلوكياتها وليس أقلها قرار إرجاء زيارة البابا فرنسيس الى بيروت برغم متابعته برنامج رحلاته الخارجية ـ متجاوزاً إشكالية صعوبة تنقله ـ وما زيارته الأخيرة إلى البحرين إلا الشاهد الواضح على أن قرار تأجيل زيارة البابا للبنان “لم يكن بدافع صحي أبداً”

تناغم أوروبي- فاتيكاني

في انتظار تبلور هذا المشهد ينهي أصحاب هذا التصور باطلاق تحذير قوي وبأقسى العبارات موجهاً إلى القيادات المسيحية والمارونية تحديداً مقترناً بنعوت فاضحة (كذب، حقد، نكد، أنانية، جشع، خبث، قلة ضمير وعدم مسؤولية..) من خلال حثها على وضع حد لـ”معارك الإلغاء الشخصية المتبادلة”، مخافة أن يؤدي ذلك إلى “إلغاء” موقع طائفتهم من صلب المعادلة الوطنية أو أقله تحجيم دورها وإضعاف نفوذها. كما جرى تجديد الدعوة الملحة لهؤلاء الفرقاء “أن يتحملوا مسؤولياتهم وأن يكونوا على مستوى المرحلة المصيرية التي تعصف بوطنهم الذي يمر بأزمة غير مسبوقة إضافة إلى الأخطار التي تتناول الأزمة الوجودية لطائفتهم وضرورة تحصين بقاء أبنائهم على أرضهم حيث أن عاملي الوقت والديموغرافيا لا يعملان لمصلحتهما”.

يترافق ذلك مع التلميح ضمناً إلى إمكان اللجوء مجدداً إلى عقوبات غير علنية قد يقدم الأوروبيون والفرنسيون عليها كما فعلوا في وقت سابق دون إعلان رسمي أو ضجة إعلامية وتضمنت إجراءات متعددة إدارية (الحد من حرية التنقل أو التعامل المالي أو تضييق الحركة وغيرها من تدابير داخل أوروبا).

ويبدو أن هذه المواقف تتناغم مع التوجهات التي تكوّنت لدى دوائر الكرسي الرسولي في الفاتيكان حيث أنها تشاطر الشركاء الأوروبيين هذه التخوفات من خلال وصفها صيغة العيش معاً اللبنانية الحالية بـ”الهشة”. من هنا تكررت الدعوة إلى ضرورة تقويتها وتدعيمها من خلال “رؤية مسيحية موحدة ومتماسكة”. كما أن الدوائر الفاتيكانية ترى أن على الكنيسة المارونية أن تتحرك “بتجرد وبفعالية” وتقدم على إتخاذ مبادرات شجاعة بحيث “تكون قريبة من شعبها المتألم وتواكبه في جلجلته”، مع السعي إلى تحقيق الحد الأدنى من التوافق السياسي والوطني المطلوب. وقد وجهت هذه الدوائر أكثر من رسالة مباشرة وغير مباشرة إلى المراجع السياسية والكنسية المسيحية في لبنان مبدية امتعاضها الشديد من سلوكياتها وليس أقلها قرار إرجاء زيارة البابا فرنسيس الى بيروت برغم متابعته برنامج رحلاته الخارجية ـ متجاوزاً إشكالية صعوبة تنقله ـ وما زيارته الأخيرة إلى البحرين إلا الشاهد الواضح على أن قرار تأجيل زيارة البابا للبنان “لم يكن بدافع صحي أبداً”.

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  البحر الأحمر.. بحيرة إسرائيلية