لا يعني التنصل الأوكراني من إستهداف الكرملين أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن كييف غير متورطة في الحادث برغم أن السلطات الروسية لم تنتهِ بعد من التحقيق في تفاصيل الهجوم؛ هل إنطلق من قلب موسكو؟ أم من الأراضي الأوكرانية؟ في السابق، لم تتبنَ أوكرانيا أي هجوم على الأراضي الروسية، مراعاة لتمنٍ أميركي بعدم نقل الحرب إلى الأراضي الروسية، لأن ذلك يقوي فرضية بوتين عن إستهداف الغرب لروسيا. إنما الملاحظ أن المسؤولين الروس يجزمون اليوم بأن حدثاً بهذا الحجم لا بد وأن تكون كييف قد أخطرت واشنطن به. فهل تذكر الروس أن السناتور الأميركي الجمهوري ليندسي غراهام المعروف بمواقفه المغالية في العداء لروسيا، ذهب في بداية الحرب إلى حد المطالبة بإغتيال بوتين، كأسرع وسيلة لوقفها؟
في هذا السياق، تكشف الوثائق الإستخباراتية الأميركية المُسرّبة أن واشنطن ضغطت على كييف كي لا توجه ضربة بالمُسيّرات على أهداف في موسكو في 24 شباط/فبراير الماضي، في الذكرى السنوية الأولى للهجوم الروسي. وسبق أن أثبتت أوكرانيا قدرتها على ضرب عمق الأراضي الروسية، وفي إحدى المرات قصفت مُسيّراتها قاعدة جوية إستراتيجية قرب ريازان، وهي مدينة تقع على مسافة 280 كيلومتراً من موسكو.
منذ أشهر ينصح الغرب زيلينسكي بالإنسحاب من باخموت، لكنه كان يُعاند إنطلاقاً من نظرية خاصة به أن هذه المدينة الصناعية الصغيرة، تحوّلت إلى “مسلخ” للجنود الروس وخصوصاً قوات النخبة منهم، وتالياً هذا سيكون له مردوده في تسهيل الهجوم الأوكراني المضاد، لأن قوات كييف ستواجه جيشاً روسياً غالبيته من المُجندين حديثاً
ومنذ أسابيع، تُكثّف أوكرانيا ضرباتها بالمُسيّرات على مصافي النفط الروسية في شبه جزيرة القرم وفي جنوب روسيا، من دون أن تتبنى أياً من هذه الهجمات، التي تأتي قبل هجوم الربيع الأوكراني المعاكس الذي تُعدُ له كييف مع حلفائها منذ أشهر، من أجل دفع الجيش الروسي إلى الخلف.
قبل الإحاطة بظروف الضربة للكرملين، من المستحسن التعريج على رد فعل واشنطن. الموقف الأميركي الرسمي شكّكَ في حصول الهجوم من أصله، في حين ذهبت وسائل إعلامية ومراكز أبحاث مثل “معهد دراسات الحرب” إلى إتهام بوتين بفبركة الحادث، لماذا؟ تقول إنه من أجل أن يُبرّر الرئيس الروسي الإعلان في “يوم النصر” في التاسع من أيار/مايو عن تعبئة جديدة وسط المأزق العسكري الذي يواجهه في أوكرانيا أو التمهيد لعمل يستهدف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شخصياً. هذه سردية هشة ومُبسطة للأمور، وكأن القيادة الروسية لا تعي الأثر المعنوي السيء الذي يتركه إستهداف الكرملين على هيبة بوتين وروسيا عموماً. أصحاب هذه السردية يشبهون أولئك الذين خرجوا بنظرية بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن، مفادها أن أميركا هي من إفتعل الهجمات، كي تُبرّر غزوها لأفغانستان والعراق.
في تاريخ غير موغل في القدم، ربما يُدرك بوتين أكثر من غيره الإنطباع السلبي الذي نجم عن تمكن الطيار الألماني الهاوي ماتياس روست من الهبوط بطائرة “سيسنا” في 28 أيار/مايو 1987 في الساحة الحمراء بعدما قادها من فنلندا إلى موسكو. كان الإتحاد السوفياتي يعيش مخاض البيريسترويكا. وأرّخ المؤرخون للحدث بإعتباره علامة من أولى علامات زوال الإتحاد السوفياتي. الحدث على ضآلته كشف الكثير من نقاط الضعف القاتلة.
ولكييف روايتها عن المقاومة الروسية الداخلية، التي تعزو إليها هجمات تحصل في الداخل الروسي، على غرار إغتيال المُدوّن العسكري الروسي المعروف فلادلين تاتارسكي بواسطة عبوة ناسفة في مقهى بمدينة سان بطرسبرج في 2 نيسان/أبريل الماضي، أو إغتيال داريا دوغينا إبنة الفيلسوف السياسي ألكسندر دوغين المقرب من بوتين في 22 آب/أغسطس 2022. وعلى رغم النفي الأوكراني، تعتقد وكالات الإستخبارات الأميركية، أن الحكومة الأوكرانية أجازت تفجير السيارة المفخخة قرب موسكو والتي أسفرت عن مقتل دوغينا.
وخُذْ مثلاً اللهجة الساخرة التي علّق بها ميخائيلو بودولياك مستشار الرئيس الأوكراني على الحدث، إذ قال: “إن ظهور مُسيّرات مجهولة فوق مصافي النفط أو فوق الكرملين، يشير فقط إلى نشاطات المقاومة المحلية. وكما تعلمون يمكن شراء مُسيّرات من أي متجر عسكري”.
في المقابل، هناك في الغرب من يتهم أوكرانيا ولو مواربة بهجوم الكرملين. نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق ميك مولروي صرح لمحطة “بي. بي. سي”، أن “أوكرانيا تراقب تحركات بوتين عن كثب، ولذلك كانت تعلم أنه لم يكن في الكرملين وقت تنفيذ الهجوم”. هذا التقويم يوحي وكأن كييف أرادت فقط إظهار قدراتها من دون المخاطرة في توجيه الضربة في وقت تواجد بوتين داخل الكرملين.
وبالعودة للحديث عن الظروف التي أحاطت بالضربة، تأتي في المقدمة الإستعدادات الأوكرانية، بدعم من الحلفاء، لهجوم الربيع المعاكس. وبلغت الإستعدادت مرحلة متقدمة، بعدما تبرع الغرب بأكثر من 250 دبابة حديثة أبرزها “ليوبارد-2” الألمانية ومئات العربات القتالية ومقاتلات “ميغ-29” وتدريب عشرات آلاف الجنود في قواعد حلف شمال الأطلسي، وتشكيل ثمانية ألوية خاصة لدعم الجيش الأوكراني في هجومه المنتظر.
وتُراهن كييف على أن الهجوم المعاكس سيؤدي إلى إخراج القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية بما فيها جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014. لكن التقويمات الغربية تختلف مع التفاؤل الذي تبديه أوكرانيا. وفي الشهر الماضي، شكّكَ رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي مُجدداً بأن تكون كييف قادرة على طرد القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية هذا العام. ويضع المحلل في صحيفة “الغارديان” البريطانية سيمون تيسدال الهجوم المعاكس في سياق التعجيل بوضع حد الحرب، وفق السيناريو الآتي: “تتمكن أوكرانيا بواسطة هجوم الربيع، من إستعادة بعض أو حتى الكثير من أراضيها. لكن القوات الروسية الأكثر عدداً، تتحصن خلف خطوط دفاعية تُمكّنها من الإحتفاظ بسيطرة على أجزاء من الدونباس والقرم”. ويضيف أن التقويمات المتشائمة لوثائق البنتاغون المسربة حول ما سينجم عنه الهجوم المعاكس والجدول الزمني للإنتخابات الأميركية، يُعزّزان الإعتقاد بتحول أميركي نحو التفاوض في الخريف المقبل.
وكان لافتاً للإنتباه أن وزير الدفاع البريطاني بن والاس قال خلال زيارة لواشنطن الشهر الماضي “يجب أن نكون واقعيين. لا توجد ضربة عصا سحرية واحدة تؤدي إلى إنهيار روسيا”.
والخلاصة التي تخرج بها “الغارديان” هي أنه “من الواضح أن القادة الأوكرانيين لديهم بضعة أشهر كي يدفعوا الروس إلى الخلف، قبل أن يصير الضغط الدولي الضمني لبدء المفاوضات، علنياً، سواء أرادوا ذلك أم لا. ومن المفترض أن بوتين يعرف ذلك. وهذا ما يضيف إليه حافزاً كي لا يتنازل”.
مستشار وزير الداخلية الأوكراني أنطون غيراشيتشنكو صرح للمجلة ذاتها، في شباط/فبراير، أن النزاع الجاري هو عبارة عن “حرب مُسيّرات”. وأضاف: “إنها السلاح المتفوق.. كلفتها أقل” من كلفة الدبابات وتتيح لأوكرانيا تدمير القوات الروسية “من مسافات بعيدة ومن دون الدخول في معارك مباشرة”
وسط هذا الجدل المحيط بالهجوم المعاكس ومآلاته، أتى إستهداف الكرملين، وموجة قصف مصافي النفط، في رسالة مزدوجة لروسيا وللغرب عن القدرات التي باتت تمتلكها كييف.
وسبق أن أعلن الجيش الأوكراني، أنه يراهن على المُسيّرات لقصف أهداف داخل روسيا. وقال مصدر من داخل صناعات الدفاع الأوكرانية لمجلة “الإيكونوميست” البريطانية في آذار/مارس الماضي، إن الجيش الأوكراني في طريقه “لإكتساب تقنية متطورة جداً” في برنامج المُسيّرات في الأسابيع والأشهر المقبلة.
ولا تسقط القيادة الأوكرانية من حساباتها الوصول إلى القرم. وفي السياق، تنقل مجلة “نيوزويك” الأميركية عن الزميل الأول المساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد صاموئيل بينيدت، أن “خط الهجوم الأوكراني الأول لتحرير القرم سيعتمد على الأرجح على المُسيّرات”. وأضاف “إن المُسيّرات ستكون هي الموجة الأولى للهجوم والروس قلقون جداً حيال ذلك”.
مستشار وزير الداخلية الأوكراني أنطون غيراشيتشنكو صرح للمجلة ذاتها، في شباط/فبراير، أن النزاع الجاري هو عبارة عن “حرب مُسيّرات”. وأضاف: “إنها السلاح المتفوق.. كلفتها أقل” من كلفة الدبابات وتتيح لأوكرانيا تدمير القوات الروسية “من مسافات بعيدة ومن دون الدخول في معارك مباشرة”.
وضمن هذه السياق من الرهانات تندرج الرهانات الأوكرانية على أن المُسيّرات التي لعبت دوراً رئيسياً في إحباط الهجوم الروسي الأولي على كييف في شباط/فبراير وآذار/مارس 2022، وفي الهجمات الأوكرانية المعاكسة في الصيف والخريف الماضيين، يمكنها أن تتغلب على الدفاعات الروسية وتؤمن للقوات البرية شق طريقها إلى الدونباس.. وحتى القرم.
ومنذ أشهر ينصح الغرب زيلينسكي بالإنسحاب من باخموت، لكنه كان يُعاند إنطلاقاً من نظرية خاصة به أن هذه المدينة الصناعية الصغيرة، تحوّلت إلى “مسلخ” للجنود الروس وخصوصاً قوات النخبة منهم، وتالياً هذا سيكون له مردوده في تسهيل الهجوم الأوكراني المضاد، لأن قوات كييف ستواجه جيشاً روسياً غالبيته من المُجندين حديثاً.
مع إستهداف الكرملين تجاوزت الحرب القرم.. والكثير من الخطوط الحمر الروسية. ومع ذلك، لا يزال من المبكر إقامة الإحتفالات في كييف وواشنطن!