كشفت تطورات ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن عديد العوامل المؤثرة في السياسة والأمن في منطقة الشرق الأوسط؛ إضافة إلی أنها أعادت التفكير بضرورة وضع حد للأزمات والتوترات التي تعصف بالمنطقة منذ عقود طويلة وأثّرت علی خطط وبرامج التنمية كما علی المستقبل السياسي لمنطقة انتظرت في برهة من الزمن “الشرق الأوسط الجديد” وما بعدها “صفقة القرن” وقبلها “حل الدولتين” وهي حبلی بمشاريع ومخططات تبحثها غرف الفكر والسياسة في مراكز الأبحاث الدولية والإقليمية من دون أن يكون هناك بصيص أمل يُنقذ هذه المنطقة من عثرات السياسة والقوة.
لا نُجافي الحقيقة إذا قلنا إن الولايات المتحدة وإيران فاعلتان في العلاقات الدولية، بسبب امتلاكهما عناصر قوة ولو أنها غير متناسبة، دولياً وإقليمياً. إن معادلة السياسة والقوة في منطقة الشرق الأوسط ليست ممكنة ومفهومة من دون الأخذ بالاعتبار التكتلات الأمنية الإقليمية حيث ساهم اللاعبون الإقليميون في خلق مستوی من معادلة القوة والمنافسة في هذه المنطقة.
وتُعتبَر إيران أحد اللاعبين الفاعلين في المجال الجيوسياسي في هذه المنطقة المقيمة علی رمال متحركة منذ عقود. بالمقابل، تُعتبر الولايات المتحدة القوة الرئيسية في النظام الدولي، وهي تحاول تثبيت موقعها في الشرق الأوسط، وبذلك تُوفّر الأساس للسيطرة على آليات القوة في مجالي الطاقة والأمن الإقليميين. مثل هذه المنافسة تؤشر علی تنامي الأزمات والتوترات خصوصاً أن إيران تعتبر نفسها قوة إقليمية قادرة على المساهمة في حفظ الأمن الإقليمي ولها مصالح جيوسياسية وجيواستراتيجية يجب أن تُأخذ بالاعتبار في أي نظام إقليمي أو ترتيبات أمنية تخص المنطقة.
أمريكياً؛ فإن منطقة الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا كانت منذ تسعينيات القرن الماضي مجبولة بالأزمات والتهديدات والفوضى والمواجهة الجيوسياسية من قبل جهات فاعلة إقليمياً ودولياً ولا سيما في الحقبة التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق 2003. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة حاولت دائمًا لعب دور متوازن في البيئة الإقليمية، إلا أن ظهور جهات إقليمية ناشطة وغير منسجمة مع الخطط الأمريكية، أدى إلى تفاقم أزمات المنطقة وتصعيدها. لذا؛ حاولت الولايات المتحدة إدارة الأزمات والسيطرة عليها في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج وغرب آسيا وذلك من أجل الحيلولة دون أي تداعيات تمس بالمصالح الأمريكية في المنطقة.. وأيضاً منع نشوب أزمات جديدة في فضاء إقليمي متأزم أصلاً لا بل متوتر.
لقد ساهمت الولايات المتحدة ومعها دول أوروبية في دعم جماعات متطرفة ومتشددة، غداة ما يُسمى “الربيع العربي”، مما جعل البيئة الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط تواجه المزيد والمزيد من الأزمات؛ في الوقت الذي وضعت إيران الإستقرار الإقليمي في صلب أهدافها الإستراتيجية
وفي موازاة ذلك، حاولت الولايات المتحدة توريط إيران في مناطق التوتر من خلال استخدام نموذج “التوازن الناعم” لإشراك هذه الدولة الإقليمية في محاولة ضبط بعض الساحات، في مواجهة ظاهرة الحركات المتطرفة والمتشددة التي سطع نجمها غداة العام 2003؛ لكن إيران فضّلت تشكيل ائتلاف تكتيكي مع روسيا في مواجهة هذه الحركات بدءاً من الساحة السورية، خصوصاً أن السياسة الأمريكية قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وبعدها، كانت مسؤولة إلى حد كبير عن انفلات عقال هذه الحركات، وبالتالي ظهور تحديات أمنية إقليمية ساهمت في تمدد إيران التي حاولت ملء الفراغ الأمني في عدد من الساحات ولا سيما في العراق.
وعلی الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عمل بدءاً من العام 2017 لخلق معادلة قوة جديدة في المنطقة لكن الظروف الأمنية كانت تسير عكس ما كانت تخطط لها الإدارة الأمريكية حينذاك.
إيرانيا؛ قامت طهران بتحسين موقعها الإقليمي في عام 2010 وما بعده، حيث وضعت الأمن الإقليمي علی “أجندتها” الجيواستراتيجية واعتبرت الأمن في العراق وسوريا جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي ولطالما تعاملت معه علی هذا الأساس. إلا أن الولايات المتحدة بالتنسيق مع عدد من الدول الغربية حاولت تعديل موازين القوی في البيئة الإقليمية لغير مصلحة إيران وأمنها القومي. لقد ساهمت الولايات المتحدة ومعها دول أوروبية في دعم جماعات متطرفة ومتشددة، غداة ما يُسمى “الربيع العربي”، مما جعل البيئة الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط تواجه المزيد والمزيد من الأزمات؛ في الوقت الذي وضعت إيران الإستقرار الإقليمي في صلب أهدافها الإستراتيجية.
وقد ركّزت إيران علی قوتها الاقليمية في الوقت الذي عملت علی خلق حالة من التوازن بين “الميدان” و”الديوان” (الديبلوماسية) بطريقة معقدة وشائكة تعزيزاً لدورها الإقليمي من دون التورط المباشر وتزامناً مع سعيها لإيجاد تحالفات متعددة الأطراف هدفها إشراك جهات فاعلة دولياً وإقليمياً في حماية منظومة الإستقرار الإقليمي. وفي نهاية المطاف؛ استفادت إيران من سياسة المصالحة الإقليمية والتعاون الدولي لإدارة الأزمات. وعلى أساس هذه الفكرة، تمت إعادة صياغة علاقات إيران مع الدول الخليجية علی أسس التعاون والتفاهم واحترام المصالح. ففي الوقت الذي الذي سعت فيه للإنفتاح علی السعودية باعتبارها دولة محورية ولاعباً مهماً في العالم العربي والمنطقة؛ توجهت نحو روسيا والصين اللتين دعمتا سياسة التعاون البنّاء من أي جهة أتت.
لقد تمكنت إيران من خلق الأرضية اللازمة للتعاون التكتيكي مع قوى كبری كالصين وروسيا من أجل خفض منسوب الأزمات والتوترات في المنطقة من خلال إيجاد قواسم مشتركة للتعاون البنّاء المتعدد الأطراف في البيئة الإقليمية. وهناك بُعد آخر لسياسة إيران الإقليمية، وهو التعددية الدولية الرامية إلى حل التحديات المرتبطة بقدرات إيران النووية. وعلی الرغم من أن الرئيس ترامب حاول تحجيم إيران إلا أنها تصدت لمحاولات عزلها إقليمياً، سياسياً وأمنياً؛ لا بل قامت بتحسين قدراتها وتعزيزها إلى حد بناء نموذج جديد من الديبلوماسية استناداً إلى تجارب الماضي وسياسات القوة. ويمكن اعتبار الديبلوماسية النووية الإيرانية بُعداً آخر في سياسة إيران الإقليمية؛ حيث نجحت باعادة صياغة مفاوضاتها النووية عبر التوازن الدقيق بين الميدان والديبلوماسية لتحقيق أوسع قدر من المكاسب الجيوسياسية والجيواستراتيجية.